الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النص بين الندور جدّاً والعدم

سعد رفعت سرحت

2015 / 2 / 22
الادب والفن


((النصوص نادرة))هذه العبارة أخذت تدور وتتردّد على الألسن بكثرة في أثناء الحديث عن مفهوم النص ومباحثه ،وهي ،مع ذلك، تستفزّ البعض ،لكون مصطلح(الندرة) ينتمي الى التراث الأصوليّ ،ومن ثم يكون اقحامه على التصورات الغربية الخاصة بمفهوم النصّ تشويهاً لمضمونه ،ولا سيّما وأنّ المفهوم المعاصر للنص ومفهومه في التراث الاسلامي يقفان غاية في الاختلاف ،بحيث غدا أمرُ إيجاد أصلٍ للمصطلح ،عند ثلّة من الدارسين بالمفهوم المعاصر، في التراث غاية لا تُرجى، وذاك عائد ، بطبيعة الحال ،الى اختلاف الشروط التاريخية والخلفية الإبستمولوجية لكلتا الحضارتين :الحضارة العربية التي حصرت مفهوم النص بالحقل الديني وخصّته بدلالة اصطلاحية ضيقة ، والحضارة الغربية التي خصّته بدلالة اصطلاحية استطاعت أنْ تستمر وتستولي على مفهومه في الأدبيات المعاصرة .
يسألني أحد الأصدقاء ،بعد اطّلاعه على كتاب الدكتور عمر أبو خرمة (نحو النص ، نقد النظرية وبناء أخرى )وكان قد استوقفته ،في الكتاب ،عبارة ((النصوص نادرة جداً))(1) يسألني صديقي : عندما نستعير من التراث الأصولي مصطلح الندرة ونقحمه اقحاماً على تصوّر رولان بارت للنص ،ألسْنا ،بصنيع كهذا ،نشوِّه مضامين المصطلحات التراثية ؟ ألسْنا نحمِّل المصطلح أكثر من طاقته المفهومية ونلوي عنقه ليّاً ليستوي الأمر مع ما نريد؟.
قلت له : بالنسبة لي ،أجد نفسي ذاهباً أكثر من ذلك حين أرى أنّ النصوص عند رولان بارت ليست نادرة جدّاً فحسب ،بل هي تتراوح بين (الندور جدّا )و(العدم)،و سآتيك بفقرة من مقال بارت تبرّر هذا الاستدعاء ،حين يقول:((...كلّ ما نستطيع قوله :إنّ هناك (أو ليس هناك )نصّاً في هذا الأثر الفني أو ذاك ...))(2). و لعلّ عبارتي (إن هناك)و(ليس هناك )تتلاقيان على التوالي ،ولو ضمناً ، مع مصطلحي (الندور جدّاً والعدم).

فقال لي :إذاً أنت تتحدّث عن ابن عربي وليس عن رولان بارت!!.
قلت :ما الضير إذا وُجِد ثمة اتفاق أو وجه شبه من جانب ،أومن عدّة جوانب، بين من قال من الأصوليين بندرة النصوص ،وبين رولان بارت ،ولكن من دون أن يؤدّي بنا هذا الى أنّ كلا الطرفين يستويان ،في طرحهما، واحداً لواحد، ولعلّ الدكتور عمر يشير الى هذا الاتفاق شبه التام بين الطرفين(3).إذ ليس من المحال أن نلتمس مسوّغاً لاستدعاء هذين المصطلحين ،ولا سيّما وأنّنا نجد شبهاً واضحاً بين موقف بارت وبين موقف المتكلمين والمتصوفة ممّا هو سائد ومعروف عن النص ،بما يقوّي لدينا تبرير هذا الاستدعاء ،ذلك أنّ كلا الطرفين يمثل طرحه خروجا سافراً عما هو شائع وقار عن مفهوم النصّ في الثقافة التي ينتمي إليها.

فلجوء المتكلمين والمتصوّفة ،ممّن خاضوا في الأصول ،الى القول بندرة النص ،والى القول بعدم وجوده ،لم يكن إلا تسويغاً للتأويل ولأجل فتح بابِ الاجتهاد على مصراعيه ،سعياً منهم الى أن يجعلوا من التأويل والاجتهاد لا مجرّد أمرين مشروعين فحسب، وإنّما بوصفهما ضرورة لا غنى عنهما في فهم الشريعة وإدراك معناها(4)لأنّك - في رأيهم - قلّما تجدُ كلاماً في القرآن أو في السنّة النبوية ليس حمّالاً لوجوه ،أو تجده يتّسم بالشفافية والإحكام والوضوح ،بحيث لا نحتاج في فهمه ، و في استنباط الأحكام منه ،الى تأويل ،فمكونات الكلام الدلالية ،في رأيهم، ليست ثابتة على معنى واحد ،وإنّما هي متحرّكة تستجيب لتطورات الحياة ،وتتلاءم مع مستجدّات كلّ عصر.
فهؤلاء ،بوجهتهم هذه، في مواجهة ما هو قارّ ومتحجّرٌ عن مفهوم النص في الثقافة الاسلامية ،التي حصرت النص بما لا يحتمل التأويل والاجتهاد والنظر .فقد خُصّ النص ،في هذه الثقافة ،بدلالة اصطلاحية ضيّقة لا تتّسع لأيّ تعدّد في معنى الألفاظ ، دلالة منحصرة في ((ما لا يتطرّق اليه احتمال))(5)، دلالة لا تحيل إلّا على معنًى واحدٍ غيرِ محتمِلٍ غيره.
والنص في هذه الثقافة ، فضلاً عن كلّ ذلك ، قد خُصّ بسمات وخصائص وشرائط صعبة دفعت بجمعِ من الخائضين في الأصول الى الاعتقاد بندرة ما لا يحتمل التأويل (=النصوص )في الكتاب والسنّة ، ودفعت بجمعِ آخر الى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حين ذهبوا الى القول بعدم وجود ما لا يحتمل التأويل ،ويكفي هنا أن نشير الى مقولة ابن عربي الشهيرة التي تكفي لأن تلخّص المذهب الأخير: ((ما في الكون كلام لا يُتأوَّل))(6).
ولعلّ ما حدا بهؤلاء الخائضين في الأصول الى تبنّي هذا المذهب و الى جعلهم يبعدون فيه ،هو تلك السمات الصعبة التي تضمَنتها الحدود والتعريفات المطروحة للنصّ، لقد أدركوا أنّه بناء على تلك السمات سيكون من العسير العثور على نصوص (7).

هذا في التراث الأصولي ،أمّا رولان بارت ،فإنّ النصوص ،لديه، تتراوح بين الندور والعدم ،من خلال أنّه ليس كلّ ما يُنْتج بوصفه عملاً فنّيّاً يعد نصّاً، فقد ينعدم فيه النص وقد يوجد ،فإن وجِد فهو قليل ، ولعلّ هذا يقرّبه ممّن سبق فيهم الكلام في التراث الاسلامي ،مع مراعاة أنّ الحديث عن النص في التراث الاسلامي واقع حصراً في الحقل الديني ،وأنّه عند بارت يدور حول النّتاج الفني ،ولكنه لا ينحصر فيه ،وإنّما ينسحب على كلّ منتج ثقافي ، أيّاً كان نوعه ،وفي أيّ حقل كان.
فنظرة بارت للنّص تقترب من نظرة المتكلمين والمتصوفة ، من جهة أنّها تمثّل خروجاً واضحاً عمّا هو متعارف على مفهومه في العرف العام ،فالنص حسب تصوّره ليس هو الأثر ، فإذا كان الاثر قابلاً لأنْ يتموضع داخل حدود الشّيوع والمتّفق عليه ،وإذا كان على استعداد تام لأنْ يعكس فلسفة ما أو ايديولوجية معيّنة ،فإنّ النص يحاول دأباً أنْ يضع نفسه تماماً وراء حدود ال (doxa)أي أنّه يتموضع خارج ما هو شائع ورسميّ (8)، وأنّه أجلّ من أن يعكس معنى أحادياً ،بحيث يكون صدًى لإيديولوجية معينة .
فإيجاد النص ،من هنا، في أثرِما يتوقف على مجموعة من السمات والخصائص التي تخرج به عن المألوف والقار في الوعي العام ،فليس لمُنْتَج ثقافي أنْ يحقّق نصيّته ،إنْ لم ينفتح على كلّ تأويل ،وعلى شتّى الاجتهادات، ومن ثمّ فليس من شأن أيّ تأويل ،و شأن أيّ اجتهاد، أن يدّعيَ أنّه أحاط بمضامينه ومقاصده ، ومردّ ذلك الى أنّ النصّ متناقض دوماً ،شديد المراوغة ، كثير الألاعيب ، حادّ المكر ،دائم التأجيل ،لا يتجلّى إلّا حين يتخفّى ،ولا يظهر إلا حين يتوارى ويستتر...
الإحالات
1-نحوالنص.34.
2- نظرية النص، رولان بارت، ترجمة د- محمد خير البقاعي ،ضمن: دراسات في النص والتناصية/39.

3- ينظر: نحو النص.32.
4- ينظر: النص ،السلطة ،السياق...د- نصر حامد أبو زيد/155.

5- المستصفى من علم الأصول ،للإمام الغزالي ،طبعة دار صادر بيروت:1/276.
6- الفتوحات المكية :3/453. كذلك: المفاهيم معالم...د- محمد مفتاح/18.
7-ينظر:القراءة في الخطاب الأصولي...د- يحيى رمضان/308-309.
8-ينظر:من العمل الى النص، رولان بارت، ترجمة د- محمد درويش، ضمن اتجاهات في النقد الأدبي الحديث/418.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية