الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-هذيك الأيّام-: المدرسة الأولى... البيت!

سليمان جبران

2015 / 2 / 23
سيرة ذاتية


"هذيك الأيّام": المدرسة الأولى... البيت!

سليمان جبران

كثيرون من الأجيال السابقة كانت مدرستهم الأولى تحت السنديانة. مارون عبّود مثلا. أمّا نحن في البقيعة فلم ندرك ذلك النوع من المدارس. وعينا وفي قريتنا مدرسة حتى الصف الرابع. "وما بالقليل ذا اللقبُ" ! أذكر أنّ تلاميذ كثيرين من القرى المجاورة كانوا يؤمّون قريتنا، على الأقدام طبعا، في الصحو والمطر، لمواصلة تحصيلهم. يبدو أنّ الفضل يعود للمسكوب، الروس يعني، في إنشاء هذه المدرسة، في تلك القرية الصغيرة في الجليل. حتى والدي حكى لنا غير مرّة أنّه تعلّم نصف الصفّ الأوّل في مدرسة القرية، ولم يواصل "تحصيله" لنشوب الحرب العالميّة الأولى !
سبقني إلى المدرسة، وتحصيل العلم، أخواي الأكبر مني. كلّ واحد منّا كان يحفظ ما يتعلّمه الأكبر منه. في اللغة العربيّة والحساب بوجه خاصّ. لذا كانت مدرستنا الأولى هي البيت. ونعم المدرسة ! كلّ ما يتعلّمه الكبير لا بدّ من انتقاله إلى الأصغرين سنّا. خصوصا أبيات الشعر؛ السلاح القاطع في "المساجلات الشعريّة". أمّا الوالد فكان يحضر المساجلة، حضورا سلبيّا. ينشرح صدره لحضور المباراة سماعا. يفرح لمن ينتصر، خصوصا إذا كانت الغلبة للأصغر. لكنّه لا يقدر على القيام بوظيفة الحكم بيننا. المساجلة نجريها في محفوظنا من الشعر في اللغة الفصحى. لا هي في العتابا ولا القرّادي، مجال اختصاصه.
قبل دخولنا المدرسة، كنّا قد حفظنا الكثير الكثير من الشعر في البيت. سماعا أحيانا، دونما فهم لبيت الشعر، أو لطريقة كتابته حتى. وإلا كيف سيصمد الواحد منّا في المساجلة الشعريّة؟ حتى بعد أن كبرنا، وصرت معلّما، كان أخي الأكبر منّي يتحدّاني في المساجلة، ولا أغلبه إلا إذا احتلت عليه ببيت من الشعر "ذاتي"، يقبله رغم ركاكته، لأنّ الوزن فيه لا غبار عليه. لا بدّ لك من الإتيان ببيت من الشعر، بحيث يبدأ بالحرف الذي انتهى به بيت خصمك. ولا يجوز الإتيان ببيت "محبوك"؛ يبدأ وينتهي بالحرف ذاته. الأبيات عند أخي كانت مسفطة جاهزة، كلّ حرف وله أبيات محفوظة حاضرة. لكنّها في ذهني لم تكن مسفطة، كما عنده. هكذا كنت أبتكر أبياتا كلّما انحشرت، والمسكين كان يكشفني مرّة، وأخدعه مرّات !
كان في بيتنا، لحسن حظّنا، بعض كتب تدريس العربيّة، جاء بها إلينا الوالد من لبنان. كانت سفرات "التهريب" إلى لبنان عمل الوالد الأساسي. لم يكن يحبّ الأرض والعمل في الأرض، ويفضّل عليها التهريب. هكذا زوّدنا الوالد بكتاب "منتخبات أدبيّة"، وأكثر من جزء من كتاب "المشوّق". هذه الكتب كانت إنجيلنا اليوميّ، يقرأ فيها أخواي، خاصّة الشعر، ومعظمه للشعراء اللبنانيين، ونحفظه جميعنا، سلاحا قاطعا في المساجلات الشعريّة. من هذه المراجع، حفظنا الكثير الكثير من الشعر.
لا أرغب في العودة اليوم إلى هذه الكتب، لنقل بعض ما حفظناه منها حرفيّا. يكفيني ما أمتاحه من الذاكرة. وإلا كنت مؤرّخا لا كاتب ذكريات من الماضي. ما زلت أذكر، مثلا، أبياتا من الشعر، عرفت كبيرا أنّها لرشيد أيوب في وصف الثلج، والحنين إلى وطنه لبنان:
يا ثلج قد هيّجت أشجاني/ ذكّرتني أهلي بلبنانِ
بالله عنّي قلْ لجيراني/ ما زال يرعى حرمة العهدِ

يا ثلج قد ذكّرتني الموقدْ / أيّام كنّا حولهُ ننشدْ
نعنو لديه كأنّه المسجدْ / وكأنّنا النسّاكُ في الزهْدِ

كانت المقطوعتان أعلاه، ولم أحفظ أنا غيرهما، بخلاف أخويّ، عزيزتين عليّ جدا، أفرح الفرح كلّه حين أسبق مناجزي إليهما. الإيقاع فيهما كان يهزّنا جميعا، والموقد المذكور في الأبيات كنّا نتحلّق نحن حوله أيضا، والحرف الأخير كان الدال، حرف "الحشر" في المساجلة بيننا عادة !
لا أنسى أيضا، وكيف لي أن أنسى، "لغة الأجداد". هي قصيدة تعلّمها أخي في درس المحفوظات، وعرفت كبيرا أنّها للشاعر حليم دمّوس. أذكر: كانت في "الحارة"، جنوب التوتة الأزليّة، غرفة صغيرة، استأجروها لأحد الصفوف. فكنت أتعمّد المرور أمام باب الغرفة/الصفّ، رجاء أن يلمحني الأستاذ من الداخل، فيناديني باسمي لأدخل. أدخل متظاهرا جهلي ما يراد مني، فيسارع الأستاذ إلى مطالبتي بإلقاء "لغة الأجداد" على تلاميذ الصفّ. ما زال في الذاكرة بعض أبيات من تلك القصيدة رسبتْ فيها عميقا، منذ الأيّام البعيدة تلك:
لا تلمْني في هواها / أنا لا أهوى سواها
ما لقومي ضيّعوها / فدهاها ما دهاها
غيَرُ الدهر توالتْ / ومشتْ نحو ذراها
عصفت عن جانبيها / فتداعى جانباها
لست وحدي أفتديها / كلّنا اليوم فداها
فأعيدوا يا بنيها / نهضة تحيي رجاها
هذه هي الأبيات التي بقيت معي منها حتى هذه الأيّام. أتلو أبيات القصيدة، كما حفظتها، مسرعا دونما توقّف. وإذ ينقطع نفسي في أحد أبياتها، أتنفس مسرعا وأتابع تلاوتها، كأنني عدّاء ماراثون. يصغي الأستاذ إلى إلقائي فيضحك ملء فيه، ويعجب التلاميذ في الصفّ أيّما إعجاب، وتطول قامتي شبرينِ. وإذ أنهي ما معي من محفوظ القصيدة، يطبطب لي المعلّم معجبا على ظهري، وأخرج من الصفّ إلى الحارة تحت التوتة مسرعا. لا تسعني أرض ولا سماء!
لا أتمنى لتلك الأيام الناشفة، جيبا وبيوتا، العودة. وإن تكن عزيزة عليّ اليوم. لكن، ألم نغالِ هذه الأيّام في الاتجاه المعاكس؟!

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران: أسطول جوي قديم ومتهالك؟.. تفاصيل عن مروحية الرئيس رئي


.. الصور الأخيرة للرئيس الإيراني رئيسي قبل تحطم مروحيته وموته




.. الحرب في غزة: هل من تأثير على قطاع السياحة في مصر؟ • فرانس 2


.. تساؤلات في إيران عن أسباب تحطم مروحية الرئيس من بين 3 مروحيا




.. سيناريوهات وأسباب محتملة في تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟