الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهاجر رقم 1

علي لّطيف

2015 / 2 / 27
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


كنا نشرب الكحول بشقة صغيرة وسط طرابلس في حي سكني شعبي، في الليلة ذاتها سرقوا تمثال المرأة العارية والغزالة من وسط المدينة، آخر امرأة عارية في طرابلس وربما ليبيا. لا يعرف أحد أين وضعوها، لكن يشاع أنهم حطموها أو باعوها. كنا ستة شباب نشرب الكحول المعد منزلياً بطريقة بسيطة جداً لا يمكنني شرحها لأنني وعدت الرفاق أن ألا أشيع الأمر.
كل واحد منهم تعرض على مدار السنوات الأربعة الماضية إلى موقف مُذل من قبل الميليشيات الثورية، أربعة منهم سجنوا بتهمة التظاهر أمام سفارة عربية من قبل ميليشية تتبع ذات أيديولجية رئيس بلد السفارة ، واحد بتهمة انتمائه لقبيلة مضطهدة من الميليشيات الثورية. تحدثنا عن الدانمارك وألمانيا والحياة الجميلة التي تنتظرنا إن استطعنا الوصول يوماً ما إلى هناك.
أصبح كل شيء متعباً مؤخراً، الحرب وما يحدث والذكريات، أعني التفكير في الأمر بحد ذاته متعب، الكتابة عنه كذلك. "الذل يجعل الرجل ضفدعاً" قال المهاجر رقم 1 بعد أن أعطاني القداحة لأدخن الحشيش من السيد دي سيلفا، كانت هذه ثالث مرة أرى فيها المهاجر رقم 1، أعرف أنه صديق صاحب الشقة، وأنه طالب في أحد الجامعات وأنه يبدو تعيسا حقاً بعد أن ركزت بتعابير وجهه. يمكن معرفة أن الرجل تعيس بشيئين : لون شفتيه الأزرق، اللون الأسود تحت العينين.
الشفتان زرقاء اللون تعنيان أن المرء عندما يدخن السيجارة لا يتركها إلا عند احتراق القطن بعقب السيجارة فتحترق الشفتان فتحترق الأوعية الدموية الصغيرة فيها وتتلون باللون الأزرق. ولا أحد يدخن السيجارة إلى أن يحترق القطن إلا : المجنون والمهموم. حفاظاً على اللون الوردي المزرق لشفتي أترك السيجارة قبل أن يحترق القطن، لا أريد أن أستيقظ يوما ما وأرى نفسي في المرأة فأجد شخصاً مهموماً أمامي. يجب أن يدع الإنسان بؤسه داخله ولا يُصدره بمظهره الخارجي، الإنسانية تنبذ المهمومين وتحتضن المبتهجين.
اللون الأسود تحت العينين يعنيان أمرين: قلة النوم أو اضطراب النوم. هناك اختلاف كبير بين الأمرين، الأول يعني أن المرء لا ينام في اليوم إلا ساعات قليلة جداً، والثاني يعني أن المرء ينام الساعات المطلوبة لكنْ بصورة مضطربة. سبب اللون الأسود تحت عيني المهاجر رقم 1 هو قلة النوم وهذا ما أريد الحديث عنه. الرجل المهاجر أحياناً لا ينام إلا أربع ساعات خلال يومين، يظل ساهراً للصباح يدخن السجائر إلى احتراق القطن بأعقابها ويبحث عن طريقة للهرب مضمونة ويملك القدرة المالية عليها. بعد أن أغلقت كل السفارات الأجنبية أبوابها في طرابلس بسبب الحرب أملَ المهاجر رقم 1 أن يرسلوا له الموافقة ويُشفقوا على حال المتقدمين للفيزا قبل بداية الحرب. إلا أن التاريخ يعلمك أن الأوروبي البيروقراطي لا يشفق على الإنسان مهما كان الظرف، البروتوكول الإداري لا يتغير أبداً وإن أمطرت السماء الضفادع.
"لافيدا نو فالي نادا."
"الحياة لا تساوي شيئاً."
هذا ما رأيته في السماء عندما سمعت بعد يومين من تلك الليلة أن المهاجر رقم 1 غادر عن طريق قارب صيد سمك كبير من شواطيء صبراتة إلى إيطاليا.
كان يجلس وحيدا مع ساعات الفجر الأولى في قارب صيد سمك كبير ومعه أكثر من 100 شخص لا يعرف منهم أحد ولا يفهم منهم أحد لغة الثاني، يتشاركون في السبب والهدف ولا شيء آخر. يحمل في حقيبته كل الأوراق الرسمية التي يملكها مترجمة إلى اللغة الدانماركية، عندها فهمت لما كنا نتكلم على الدانمارك، الصدف كذبات بشعة، لا توجد صدف لكن يوجد حظ. من يصل إلى شواطيء إيطاليا ويهرب من الشرطة الإيطالية ويصل إلى الدانمارك يملك حظاً جيداً.
عندما وصل قارب صيد السمك الكبير الذي كان يقوده مهاجر سيقوم بعملية إرهابية في بلجيكا بعدها بعدة أشهر إلى الشاطيء صفق المهاجر رقم 1 ، صفقت الطفلة النيجيرية الصغيرة، صفق كل الركاب، التصفيق لغة يفهمها الجميع، التعبير الجسدي للإنتصار. لم تدم الفرحة طويلاً، أصوات صفارات إنذار سيارات الشرطة الإيطالية صمّت أذانهم برغم أن صوت الرياح والأمواج والحرية كان أقوى من صوت الصفارات بعشرات المرات. بدأ الجميع في الجري عكس اتجاه صوت الصفارات.
"يمكنهم الاختباء لكن لا يمكنهم الهرب،" قال الشرطي ريكي مارليني لصديقه الشرطي مارلو.
كادوا أن يمسكوا بالمهاجر رقم 1 إلا أنه هرب، الشرطي ريكي السمين لم يستطع اللحاق به، ما لا يفهمه ريكي أن مَثل "يمكنهم الاختباء لكن لا يمكنهم الهرب"، دائماً يقوله الرجل السيء في بداية الفيلم، ودائماً ينتصر الرجل الجيد على الرجل السيء في النهاية، يفوز بقلب البطلة ويُقبلها وينتهي الفيلم بدعابة ليست مضحكة أغلب الأحيان لكن الجميع يضحك عليها.
هنا نقطة الإختلاف الجوهرية في حياة شخصين يملكان خلفية اجتماعية ثقافية متشابهة، وجهة القطار. وقف المهاجر رقم 1 والإرهابي أمام محطة القطار، شباك التذاكر يبعد 10 أمتار عنهما:
"إلى أين تريد الذهاب؟" سأله
"إلى الدانمارك." أجابه المهاجر رقم 1.
"أنا ذاهب إلى بلجيكا، الجنة هناك،" قال الإرهابي واتجه إلى شباك التذاكر.
أخرج المهاجر رقم 1 سيجارة من جيبه وأشعلها، وقف بجانب سلة القمامة التي تحمل منفضة سجائر وأخذ ينظر إلى قفا الإرهابي الواقف في الطابور أمام شباك التذاكر. فهم ما عناه الإرهابي، أعني أربع سنوات بطرابلس كفيلة بفهم تعابير وجه شخص ما عندما يقول "أنا ذاهب إلى الجنة". لا يكون المرء جدياً فيما يريد إلا عندما يخاطر بحياته، الإرهابي خاطر بحياته ليصل إلى بلجيكا ويدخل الجنة من هناك، والمهاجر رقم 1 خاطر بحياته ليصل إلى الدانمارك ويعيش الجنة هناك.
"أنا ذاهب إلى الحياة وهو ذاهب إلى الموت،
أنا هارب من الموت وهو ذاهب إلى الموت،
أنا الضفدع السعيد المنهمر مع المطر،
أنا روح السيد دي سيلفا،
أنا الإنسان، المهاجر رقم 1."
قرأ صاحب الشقة كلمات صديقه عندما تقابلنا أحد الليالي، لقد كتبها على حائط حمام القطار المتجه إلى كوبنهاجن بعد أن رأى نفسه في المرأة كما لم يرى نفسه أبداً خلال الأربعة سنوات الماضية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تقتحم حشدًا من محتجين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة أمري


.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. سيناتور أمريكي يعلق على احتجاجات جا




.. الولايات المتحدة.. التحركات الطلابية | #الظهيرة


.. قصف مدفعي إسرائيلي على منطقة جبل بلاط عند أطراف بلدة رامية ج




.. مصدر مصري: القاهرة تصل لصيغة توافقية حول الكثير من نقاط الخل