الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن التنمية البشرية

غياث منهل

2015 / 2 / 28
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


في مرحلة ما كنت ومجموعة من اصدقائي مولعون بقراءة نماذج من الهراء الذي يسمى بالتنمية البشرية، عندما اتذكر ذلك الان اتذكر ثقافة البورصة وذئابها في الحديث عن الاستثمار والتنمية.(افكر الان في فلم البورصة الهوليودي السخيف "ذئب وولستريت"). البورصة عالم وهمي كالقمار، اقتصاد غير حقيقي يبيعونك فيه ارقام ويغرقونك بوهم الحصول على المزيد لكي لا تترجم هذه الارقام الى عالم الواقع فلو بحثت عن تحويل الارقام الى نقود حقيقية تنكشف فضائحهم وينهار الهرم الورقي وتخسر حياتك في عالم ارقام . قراءة المزيد من اوهام التنمية البشرية تشعرني بان كتابها يسعون فقط وقبل كل شيء الى بيع بضاعتهم. في البدء كنت اريد من التنمية البشرية ان تجعلني اشعر بانني افضل وانني سائر نحو تحقيق نجاحاتي الواحد تلو الاخر الى ان وجدت انها تجعلني بصورة دائمة اشعر انني مقصر. فانا لم اخطط بما فيه الكفاية، لم انظم وقتي بما فيه الكفاية لم استمر على تمريني الرياضي، او حميتي او غيرها. هي تجعلني دائما افكر بما ليس لدي وبما لا افعله لا العكس.
التنمية البشرية واحدة من الاساطير التي تروج لها الرأسمالية لتسويق مبادئها واخلاقيتها. فمهما حصل من تعديلات وتجميلات لفكرة التنمية البشرية يبقى هدفها تنمية الفرد للوصول الى غاية براقة، محددة و واضحة : النجاح. النجاح الذي تروج له التنمية البشرية هو نجاح فردي، مالي بالدرجة الاساس و الانانية الفردية جزء اساسي لا يتجزأ من الراسمالية فالفرد جوهرها و غايتها وجهازها الدعائي. التنمية البشرية دائما تخلق نماذج يقتدى بها من رجال اعمال ورأسماليين كبار لكي يقتدى بهم الشباب الطامح الى نموذج وقدوة . الناجحون هؤلاء ليسوا اذكياء جدا ولا خارقون جدا هم فقط اكثر تصميما واوضح اهدافا. هم فقط يعرفون مالذي يريدونه: ان ينجحوا، صبورون جدا، يتحملون الصعاب ويديرون وقتهم باحترافية عالية ويعرفون التعامل مع الناس ويعبرون عن مشاعر التفهم والاستيعاب لالام مرؤوسيهم ومعاناتهم.. الخ. يغفل هذا الخطاب طبعا الخواء الداخلي في العديد من تلك النماذج. ابطال النجاح هؤلاء معظمهم ينتهون الى فراغ كبير و شعور باللاجدوى ينهي حياتهم بالانتحار او المخدرات. مشكلة مثل هؤلاء "الناجحين" انهم لم يلتزموا بوصفات التنمية البشرية كما يسوق لها كتابها. النماذج التي يقدمها خطاب التنمية البشرية نماذج خاوية غالبا، خالية من الروح ومن المشاعر- ربما يمكن تفسير كلامي هذا بميل شرقي للتحليل العاطفي الذاتي الخالي من الموضوعية، وهذا صحيح بقدر كبير- ولكن اذا كان الهدف النهائي هو المزيد من النجاح والكسب المالي فما الذي يتم تنميته، هي اذا تنمية مالية هدفها تضخيم ثروات ورؤوس اموال اكثر منها تنمية بشرية. ما الجديد الذي يقدمه خطاب التنمية البشرية عدا عن كونه يستثمر في تعليم الانسان كيف يدير وينمي ثروته، سوى المزيد من الاليات والطرق لتحصيل المزيد من المال، الهدف الذي سعى اليه الانسان منذ فجر التاريخ عندما طور مفهوم التبادل التجاري، حتى الاليات الايجابية مثل العادات الصحية والتغذية السليمة ..الخ، تقدم في هذا الخطاب على انها وسائل من اجل "النجاح"، الذي هو بالنهاية المرادف لتحصيل المزيد من المال. "الطريق الى النجاح"، "مفاتيح النجاح"، "ادارة الوقت"، "التفكير الايجابي" كلها مصطلحات جميلة وبراقة ولكنها في مجتمعات واقتصادات غير تنافسية لا تصل بك الا الى المزيد من اللاجدوى واليأس من الواقع وما تلبث نزعة الطموح الشخصي التي يغذيها هذا الخطاب ان تصل بك الى نتيجة حتمية: الهجرة. وهو ما يصب في مصلحة الاقتصادات التنافسية الغربية على اعتبار انها ارض الفرص والنجاح والاحلام وغير ذلك من الاوهام المعلبة. هذا الخطاب يؤدي الى افراغ مجتمعات الهامش من طاقتها الشابة ويجعل منها دائما مجتمعات راكدة، طاردة لطاقاتها البشرية ومستوردة للسلع والبضائع، مجتمعات غير قابلة للنمو والمنافسة ما يصب في مصلحة المركز الغربي.
اذا مشكلة هذا الخطاب هو انه ليس فقط مستورد، وغربي التوجه ولكنه ايضا يؤدي الى تغيير اهداف واولويات الفرد ويؤدي للمزيد من الفردية والانانية. فمن اجل النجاح وتحقيق مستحيلات التنمية الذاتية لن يكون لديك المزيد من الوقت والطاقة ( ولا حتى الرغبة) في التواصل مع الاهل او الاصدقاء. تغرقك اوهام النجاح في ذاتك وتتحول الى كائن اناني يفكر في ذاته واوهام نجاحاته الشخصية قبل كل شيء. الطاقة المتفجرة لدى الشباب الطامح الى النجاح هي الطاقة المحركة لماكينة الراسمالية التي تسحق في طريقها ليس ضحاياها فقط بل حتى ادواتها. تفرغهم من انسانيتهم وعلاقاتهم الانسانية الحقيقية. هذا لا يعني بالضرورة ان هذا الخطاب يخلو من ايجابيات و لا يعني انني ارفض الخطاب برمته بل الغاية النهائية والهدف والنموذج الذي يؤدي اليه.
المهم بالموضوع اننا قد نستفيد من ايجابية التفكير في هذا الخطاب ولكننا لا نحتاج بالضرورة الى التنمية البشرية و"علومها" لكي ننجح. النجاح بطريقتنا نحن، لا كمنتج هوليودي معلب.ربما يكون النجاح الحقيقي اولا في معرفة ما الذي نريد ان نحققه لانفسنا اجتماعيا واقتصاديا ومعرفيا ومن ثم الشروع في تحقيق مانريده. انا لا احتاج الى نماذج هوليودية لتعلمني مالذي اريده وكيف اكون "ناجحا" ، فانا افكر بإيجابية واخبر نفسي باستمرار انني اعيش نجاحي. هذا لا يعني انني اسعد او افضل انسان بالعالم وانما ببساطة يعني انني افضل انسان يمكن ان اكونه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة