الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدب الجريمة : دوستويفسكي و البصمة الأنثروبولوجية

رضا لاغة

2015 / 3 / 2
الادب والفن


لو اختبرنا عن كثب هذا المبدأ التقليدي: إن الحقيقة هي ذاتها الشيء الذي يتمّ فعله و أن المعرفة الفعالة هي التي تكسب المرء سيطرة على الواقع..قد تبدو وجهة النظر هذه قريبة الشبه بالأفكار الواضحة المتميزة عند العقلانيين؛ لأن الخيال في نظرهم هو مصدر للاضطراب و الوهم. و ربما جاز هنا أن نستنتج مسألة هامة يجعل من الإنسان المحدد في صنع التاريخ ، بمعنى أنه بوسعه أن يحقق فيه قدرا من اليقين من خلال قدرته على تفسير الوقائع على نحو ما حدثت و بالتالي يدرك سبب استمرار حدوثها في المستقبل بطريقة قابلة للتنبؤ. في هذه الحالة يضعنا دوستويفسكي إزاء لون جديد من المعرفة تكون فيها الذات الفاعلة للحدث قد أصبحت و بصورة مفاجئة قادرة على التدبّر و الحساب. لنأخذ مثلا الانفعال الذي داهم راسكلنيكوف و هو مقبل على قتل المرأة العجوز: لقد" التمع في عينيه فجأة نوع من النشاط الوحشي "1 ، لأن إرادة القتل هنا لا تربكها القيود العقلية . و لكن ما يلفت الانتباه هو الفعل الثاني ، و نقصد بذلك قتل الأخت غير الشقيقة. إن عملية القتل الثانية نابعة من قرار عقلي و منبثقة عن فعل إرادي ؛ فبقدر ما كان يرفض أثناء قتل العجوز وضع صيغة تصوّرية لهذا الفعل المشوّه ، فهو يبدو في حالة عارية من كل ضروب التعقل . و لكن المنظور الضيق الذي وجد نفسه فيه أثناء مباغتة الأخت غير الشقيقة هو ما يستدعي التأمل؛ فالخطر في انكشاف أمره أضحى وشيكا فاستبق بعقله العجيب مقصدية القتل . و إلا كيف نفسر حالة الفزع التي ساورته أثناء قتل العجوز؟ لا شك أن من تعتريه هكذا وضعية لن يجد الجرأة لتكرار ما شكّل مصدر فزعه، إلا إذا كان الوازع على القتل في المرة الثانية بتدبير عقلي خالص حرصا على ألا يذاع سرّه.
يستطيع الدارس أن يدرك بين ثنايا الجريمتين عدد من السمات العامة لمطارحة انثروبولوجية في فكر دوستويفسكي:
ـــ إن من يقدم على ارتكاب خطيئة ما ، يعتريه التردّد ؛ و لأن راسكلنيكوف كان مندفعا دون أن يمزّق الصراع أحشاءه فذلك يحيل إلى تعصّب أعمى للإنسان و رغبته في تخليصه من الجانب المريض منه. هذه النزعة الفردية تتغلغل فيه و كأنها الهام تسلّط عليه إلى حدّ الهوس. وهي حالة تهدم العقل بصورة حاسمة.
ـــ إن الندم الذي سرى في كيان راسكلنيكوف يطلعنا على أن القتل حقيقة لا يمكن أن تجرّب . إنها فكرة تطابق موضوعا هو ذاته ليس معروفا.
ـــ إن إعادة التجربة، طبقا لهذا المعطى ، لا يمكن أن تنتمي إلى إحساس القاتل و إنما هي نصيحة العقل الذي يقدّم لنا عونا في سعينا إلى إيجاد حلول نتغلّب فيها على صعوبات نمت أثناء وقوع الحادثة.
إن تعلّق راسكلنيكوف بقتل ضحيته الثانية لا يتضمّن أي إشارة إلى الضمير لأن أول ما خطر بباله حين باغتته أن يقدم تفسيرا، و لكن عذره على الأرجح سيكون في شكل تبرير واه و لو تذرّع بحجة بارعة. ماذا لو قال: قتلتها و لكن خذي عني حقيقتي: إنني همجي نبيل أو إنسان متحضّر فاسد مصاب بعقدة اضطهادية جنونية.
كان يمكن أن يستغني عن قتل الأخت غير الشقيقة و يجعل الشعور بالندم نابعا من القلب دونما مساعدة من العقل. إن مشاعرنا تهدينا إلى الطريق الصحيح في حين أن العقل يضللنا. هكذا يريد أن دوستيوفسكي مراجعة منزلة الإحساس . فمن الواضح أن التبرير الذي قفز في خاطر راسكلنيكوس حين شرع في عملية القتل الثانية يوقعنا في تناقض ذاتي إذ كيف يمكن إثبات حكم القتل كواقعة مستمدة من الحساب ( افتضاح أمره) في الوقت الذي لا تستمد تأثيرها في ميدان التجربة ذاتها التي يفترض أن تزوّدنا بالحسرة و الندم على شاكلة ما لاحظناه في الجريمة الأولى؟
لو حذفنا قدوم الأخت غير الشقيقة من الرواية لما أصبح هناك مبرر يجعلنا نحمل انطباعا مذموما لراسكلنيكوف، صحيح أن القتل يظل ممارسة غير مشروعة و مع ذلك يمكن للمرء أن ينقاد لميول وحشية تجعله يتصرف بدافع الانفعال أو الجنون. بمعنى آخر بالعودة إلى الفرضية التي أوردناها ( عدم قدوم الأخت) يمكن لجهة الدفاع أن تتمسك بكون فعل القاتل ليس مزوّد بأي أساس عقلي لذلك فعملية القتل مناقضة لذات القاتل . إنها تنم عن الإسقاط اللاواعي للأنا، أي لولا صورة الا أنا المفروضة في العالم الخارجي و المجسّدة في المرأة المرابية لما نشأت المشكلة أصلا ، فكأن القاتل ينتقم للذات التي تشوّهت من خلال سلوك الضحية. و بالتالي تبدو عملية القتل الأولى غير واعية و لا تتحدد بمقولة السببية. إنها تنبثق من عملية لا إرادية بوصفها أشاعت في الأنا مهمة القتل بضرب من الإسقاط الخاص.و كما يبدو ، إن نتائج هذا الفعل الذي نسجه عالم الأنا ، ولّدت في شخصية القاتل حالة من الحسرة و الرعب ، إذ تكشّف له الخطأ الذي ترتّب عن فعله. و ما زاد توتّره هو اقبال أخت العجوز و ما يعنيه ذلك من فضيحة و عقاب. وقد تمكن بفضل ذكائه المبكّر في تقدير حجم الإثم الذي ارتكبه، أن يخطط للجريمة الثانية. و لكن هذه المرّة الحقيقة التجريبية لها تعريف لفظي محدد؛ فهو لم يتردد في مهاجمة ضحيته. و في استطاعتنا أن نجد لدى دوستيوفسكي صورة أوضح تفسّر معالم هذه المفارقة من خلال استعداد راسكنيكوف للاعتراف أنه مناقض لشخص آخر : المرأة العجوز وهو ما يمنحه مبررا لقتلها و لكنه يكتشف أن نقض الذات يتصل بالجريمة الثانية التي تركت في ذاته شقاء كونيا . و كأن دوستيوفسكي لا يمنح مكانة ابستيمولوجية للألم و إنما يعطيه أيضا مكانة أنطولوجية. إنه كالأصفاد في كنف الحياة . و بما هو كذلك فان الوجود الذي يحمل المعنى يخترقه في الوقت ذاته اللامعنى ، أو بلغة أفلاطون حين أدرك أن مفهوم المحاكاة لا يختزل العلاقة بحق بين الوجود و اللاوجود فاستعاض بمفهوم المشاركة. إن اللاوجود هو جنس من الوجود. إن الوجود موطن للحرية و هو أيضا مكمن الاستعباد ، فلا انفصال بين الحرية و العبودية على نحو ما وضح هيغل في جدلية العبد و السيد.
إن توغّل دوستيوفسكي في الذات الإنسانية قصد الكشف عن أغوارها و السكن بين أليافها سيقوده إلى الموقع المترصّد بين الثورة و الاستسلام ، بين التمرد و الخضوع ليغدو الوجود برمّته لعبة خطرة . إن تمجيد الحياة هو في نفس الوقت و بنفس الحدة إعلان لموتنا و نهايتنا لأن الحرية بما هي حضور في العالم لا تتحقق إلا من خلال التورط في الحاضر لا للفرجة بل للانخراط في لحظته الآفلة.
الإنسان إذن ليس كيانا سلبيا يتحدد من خارجه أو يجد مبدأه في علّة تتجاوزه سواء كانت تحايثه أو تتعالى عنه؛ لذلك لا يتورّع دوستيوفسكي في نقد الأخلاق اللزومية التقليدية و يقوّض الوهم الذي تسرّب لعلم الميكانيكا الذي منح الإنسان سلطة على الطبيعة فأغرته ذاته على توطيد صلة الهيمنة على غيره من بني الإنسان عير تقنين الفعل أو الممارسة ضمن سلسلة من الترابطات السببية. إنه يرفض النزعة الآلية ليس فقط لأنها معالجة واحدية الجانب تعجز عن رؤية الذات في كليتها بل لأنها كما كنا نبيّن معالجة تتحرك في فضاء متخارج عنها فتسكت عن ذلك التواصل الباطني بين الإنسان و ذاته و الزمن و العالم.
هكذا يتشكل فكر موضوعي ( العلم) يجعلنا نفقد اتصالنا بالتجربة الإدراكية للذات ، لتغدو التناولات العلمية في نظر الكاتب فاقدة لمفاتيح تصوراتها حول الماهية الإنسانية لأن مصدر هذه التصورات هو الميتافيزيقا. إن المناهج التحليلية و التجزيئية بصفة عامة تدرج الفعل الإنساني في سياق رؤية آلية تشتغل وفق مبدأ عام . إنها عبارة عن مزيج من القول الذي ينزع للثبات مستندا في ذلك على تعليل سببي و الحال أن التجربة المعاشة تثبت لنا وجود وحدة ضمنية غامضة تجعل أفعالنا دوما شيئا غير ما هي عليه.إن ما يجيش في العاطفة الإنسانية يهدم المفعول التجاوزي للعلم .
وفق هذا التقدير يبدو لنا دوستيوفسكي هيديغريا ، فهو يبحث عن حقيقة الوجود عوض التساؤل عن حقيقة الموجودات، لأن الانطولوجيا المادية و الصورية ظلت تمتحن الموجود على أنه كل الوجود في حين أنها أقامت علاقة أولية معه.
إذا أخذنا هذا الاعتقاد في دلالته العينية ، فإننا نلاحظ فرادة الإنسان ، تلك الفرادة التي لا يمكن لأحد أن يشتبه بوجودها لأن المسألة ليست مجرد ضبط للحدود و تصويب للأحكام بل إمعان في انحرافات العقل الذي أضحى متورطا و بات عليه أن يطهّر نفسه من هذا التواطؤ المؤلم على حد تعبير بيار كرستيان.
إن هذه الاستنتاجات المستوحاة من النص الأدبي لدوستويفسكي تنقلنا إلى مفهمة سؤال ما الإنسان؟ لا من زاوية تنظيرية تصورية و إنما من زاوية عملية؛ و ذلك لسببين:
ـــ إن ما يقدمه العلم من معلومات و معارف يمكن أ تتخذ كأساس للفعل المحكم الذي سيكون مغايرا للفعل العادي. وهو ما نجده في علم النفس التحليلي.
ـــ إن المعرفة الواقعية بالإنسان يجب أن تكافح التجربة المعيشية و تجعل التاريخ و المجتمع مختبرا لها. لذلك نعتقد أن الأبحاث الأنثروبولوجية تكتسي أهمية بالغة في دراسة الإنسان. فكيف نتمثل المنحى الأنثروبولوجي في النص الروائي لدوستويفسكي؟
تبدو هناك حاجة ملحة لمعرفة الكيفية التي تشكلت بها البحوث الأنثروبولوجية في ضوء إشكالية التماثل التي تحرج المتأمل لأبطال دوستويفسكي في تركيبهم الأساسي و معدنهم الجوهري. و ربما هذا يدفعنا إلى محاربة فكرة مركزية ألا وهي كونية العقل. فسيكولوجية العلاقات بين الأشخاص يعكس احتجاجا على الطريقة التي تناولت بها الميتارفيزيقا موضوع الماهية الإنسانية. فعندما نسأل من داخل النسق الأرسطي مثلا: ما الإنسان؟ فان الجواب لا يقف عند حدود التعريف النظري للمسألة بل يتجاوزه إلى تراكم التشخيصات المتوالية التي تقدم نفسها على أنها الصياغة المثلى.و لأمر كهذا كانت حقيقة الإنسان موسومة بالثبات، فالبشر متساوون في الجوهر على اعتبار أن العقل هو القيمة التي تنتظم داخله الماهية. و الملاحظ أن سيكولوجية العلاقات بين الشخوص الروائية لدوستويفسكي يعتريها الغموض الممزوج بالرغبة المتأججة. بمعنى آخر إن العاطفة بما هي بذرة انفعال يتفجر في كل حين لدى الشخصيات هي بمثابة خطط ضرورية للتعامل مع الظروف التي تجابههم، لذلك لا يمكن تجاهل السجل العاطفي عند تحديد الماهيةبما هو سجلّ يقوم على التنوّع و الإختلاف.
إن دوستويفسكي يتحدث كما لو كان يستبطن التناقض الحاصل لا بين الآنية و الغيرية من جهة كونها ذات تنتصب قبالة ذات أخرى و إنما بوصفها تقتحمنا من الداخل. فكأن هناك انشطارية تعصف بالإنسان . يقول باختين تأكيدا لهذا المعنى:" يمكن القول بصراحة أن دوستويفسكي يسعى إلى أن يجعل من كل تناقض داخل الإنسان الواحد إنسانين اثنين، و ذلك من أجل أن يسبغ الطابع الدراماتيكي على هذا التناقض و يفسره بصورة إتساعية"2 .
المراجع:
1 ـ الجريمة و العقاب، ترجمة سامي الدروبي ــ دار ابن رشد، ط العربية
2 ـ شعرية دوستويفسكي ، ترجمة جميل نصيف ــ دار طوبقال ، الفصل الأول ص 47 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال ثري وقيم جدا
قارئ مبتدئ ( 2015 / 3 / 2 - 11:41 )
لكن في روايته الاخوة كرامازوف (إن كنت أنا قد فهمت طبيعة الشخصيات) ألا يمثل ديميتري وسمردياكوف مجتمعين شخصية راسكلنيكوف وألا تختلف الدوافع لتضحى عقلية محضة ؟
خالص احترامي استاذ


اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05