الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نصراني طبعا !

سليمان جبران

2015 / 3 / 2
سيرة ذاتية





"هذيك الأيّام"
سليمان جبران: نصراني طبعا !

على شاشة دماغنا تمرّ آلاف الصور في الحياة. في اليوم الواحد حتّى. تبقى منها، واضحة لا تمّحي، الصور والأحداث الكبرى. في نظر الرائي طبعا. وأنا لا أنسى، ولا يمكن أن أنسى، يوم كبشوني بدون تصريح.
أبناء اليوم لم يعرفوا الحكم العسكري، وهذا بحدّ ذاته إنجاز مشجّع ربّما. أمّا نحن، أبناء الجيل السابق، فعرفناه، وخبرناه على جلودنا. أنا مثلا كانت لي معه "معرفة شخصيّة"، وندوبه ما زالت عميقة واضحة في نفسي. لا تزول ولا تبوخ حتّى.
ذكرت في موضع آخر كيف صرت معلّما، في السنة الأولى بعد التخرّج من الثانويّة. كان التعليم، في تلك القرية البعيدة، خمسة أيّام، من الأحد حتّى الخميس. والجمعة والسبت عطلة أسبوعيّة، نعود فيهما، أنا ورفيق الغربة، إلى قريتنا البقيعة في الجليل. المسافة إلى قريتنا بعيدة فعلا، لكن ماذا نفعل في يومي العطلة الأسبوعيّة الطويلين. كنّا ننتظر آخر الأسبوع، كما ينتظر عاشق حبيبته، لنعود فيهما إلى الأهل والأصحاب في الجليل. الغربة صعبة، حتّى بعد اكتساب الأصحاب في "الوطن الجديد". لا شيء مثل البيت الذي ولدت وتعيش فيه. لن تجد نفسك كاملا إلا بين أهلك في البيت، وأصدقائك في القرية !
كنت جالسا في الباص، وبجانبي رفيق الغربة، في طريقنا من الناصرة إلى حيفا. على مفرق نهلال صعدتْ إلى الباص جنديّة تفحص التصاريح. المرور بحيفا كان يحتاج إلى تصريح من سعادة الحاكم العسكري. والباص كان في طريقه من الناصرة إلى حيفا. لا أنسى ذلك اليوم، وليتني أستطيع!
بسرعة أخرجت تصريحي النافد، ونظرت فيه مرتبكا مهموما. ماذا يحدث لو أضفت بقلمي واحدا على يمين الخمسة، فأخلص من الشرطيّة والمخالفة. لا أذكر شكل الشرطيّة، ولا ملامح وجهها حتّى. تاريخ التصريح النافد غطّى على كلّ شيء حولي. لكنّه لم يعطّل منطقي تماما: وإذا اكتشفوا التزوير؟ نكون بمصيبة فنصير باثنتين! بسرعة شعرت بالشرطيّة واقفة بجانبي. نظرتْ في التصريح النافد، وأظنّها خنقت بسمة ظفر صغيرة. أبقتْ على التصريح في يدها، وأمرتني بصوت خفيض، وقع على أذني أمضى من السكين: انزل معي !
قي صباح ذلك اليوم الداكن، كنّا وصلنا الناصرة كالمعتاد. لكنّا لم نلحق بالباص الشرقي، من الناصرة إلى المغار فالرامة فالبقيعة. وهذا لا أحتاج فيه إلى تصريح. أما الباص الغربي، عن طريق حيفا، فيحتاج إلى تصريح، لأننا خطر على حيفا. لذا كان عليّ الانتظار إلى ما بعد الظهر في الناصرة، إذا رغبت في العودة إلى البلد من الطريق الشرقيّة. وكيف لي الانتظار ساعات طويلة، ورفيق الغربة "المصرّح" يستطيع أخذ الطريق الغربيّة، فيصل قبلي إلى البلد والأهل، وأنا أنتقع في الناصرة ساعات؟
صحبني رفيق الغربة إلى "المسكوبيّة"، حيث مكتب الحاكم العسكري. نجدّد التصريح، قلت في نفسي، ونسافر إلى الأهل من الطريق الغربيّة، فلا أتأخّر عن رفيقي في الوصول إلى الأهل والأصحاب في البلد. دخلت الغرفة، وتقدّمت من كاتب الحاكم العسكري، وإذا هو عربي. فرحت الفرح كلّه بهذه اللقية، فاقتربت من الأستاذ، وشرحت له بالعربي الحالة والطلب. ما زلت أذكر اسمه، لكنّي لن أورده هنا. لعلّه حوسب على فعلته تلك في العالم الآخر، فلماذا أسوّد وجهه في هذا العالم أيضا. تمّنيت لو كنت قنبلة فأنفجر في وجهه الكالح، وصوته القميء. عليّ وعلى أعدائي يا ربّ ! خيّب الأستاذ مبتغاي، وبكشرة وتوبيخ حتّى. غضبت غضبة مُضريّة، وقرّرت السفر من الطريق الغربيّة، نكاية بالوجه الكالح. وليكن ما يكون !
وكان ما كان فعلا. نزلت من الباص، وتبعت الجنديّة في صمت وذلّ. مثل مجرم قبضوا عليه متلبّسا. أوصلتني إلى وسعة بجانب الشارع، وسلّمت "المهرّبات" للشاويش. رجل ربع القامة، جينجي، شوفته تقطع الرزق، والظهر أيضا.
ـ "إلى أين أنت مسافر سيّدي؟" سألني.
ـ "إلى القرية الفلانيّة في مرج ابن عامر، حيث أعمل معلما" ، أجبت.
ـ "وهل تمدّ يدك إلى أذنك من وراء رأسك، أم من الأمام؟" ، ومثّل لي بيده.
في هذه اللحظة وقعت عيني على الكونترول، مفتش السير، العربي، وقد نزل معنا في تلك المحطّة. أشار الرجل بسبّابته خفية إلى ساعده، فانتبهت إلى بوليت السفر، مشكوكا تحت ساعتي في يدي اليسرى. كان، أذكر حتى اليوم، 58 قرشا. الأجرة من الناصرة إلى حيفا. إثبات قاطع على كذبتي التي لم تركب على عقل الشاويش أصلا. تظاهرت أني أنتحي جانبا لقضاء حاجة، ورميت البوليت قبل أن يفضح الجينجي كذبتي، بالإثبات المادّي. عدت بسرعة لمواصلة التحقيق، كأنّ شيئا لم يكن.
لم يواصل الشاويش التحقيق معي. تأمّلني من فوق لتحت ببطء، ثمّ سألني مباشرة:
ـ "هل أنت عربي أم نصراني؟" فُرجت، قلت في عقلي.
ـ "نصراني"، قلت، وقد فهمت نيّته ومقصده.
ـ "طيّب، اذهب ولا تعملها مرّة أخرى".
ركبت الباص من نهلال إلى العفولة، ومن هناك إلى الناصرة. ومن الناصرة سافرت في الباص الذي لم يعحبني سابقا في الطريق الشرقيّة. وصلت البيت فوجدت خبري سبقني إلى البيت. جلستْ أمّي إلى جانبي، ودموعها عرض وجهها.
ـ لكن، لماذا البكاء يا أمّي، وأنا قاعد جنبك؟
ـ وصلنا الخبر أن الجيش مسكك بدون تصريح. أجابت مواصلة بكاءها الصامت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العزيز الاستاذ سليمان جبران
بشارة ( 2015 / 3 / 3 - 01:45 )
لم انتبه ابدا الى ما تكتب في هذا الموقع الا مصادفة اليوم وكتاباتك كجوهرة لفتت انتباهي فقط عندما تألقت ولمعت من زاوية محددة - لا بد ان احد الاسباب هو اقلالك في الكتابة

اود ان اشكرك على كل ما كتبت وخاصة مفردات العبرية الدخيلة وتعريبها مثل حوزة وترافيك
لكن اود ان تتابع مقالاتك في السيرة الذاتية فهي احجار ملونة تثري موزاييك ذاكرتي ناقصة ابحث عنها - بالمناسبة لا اعلم ترجمة كلمة موزاييك هل هي منمنمة حجرية؟

يا سيدي انا ابن الناصرة بعد التصاريح, لكني اعلم بجمال القرى الجليلية واعتقد ان احد اجمل صباحيات عمري كان وانا صبي في صباح ربيعي مليء بعبق الزهور المثقلة بالندى وروائح الطابون (فرن الخبز الطيني, لمن لا يعرف) في احدى قرى الجليل بضيافة عائلة صديقة

على ذكر مارون عبود - ما زلت احتفظ باحد كتبه في مكتبتي في غربتي وهو كتاب الرؤوس

كل الاحترام والمودة
وبانتظار المقال القادم ,تقبل خالص تحياتي


2 - فسيفساء
فاطمة التونسي ( 2015 / 3 / 9 - 12:57 )
الموزاييك تسمى الفسيفساء بالعربية

اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا