الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (76)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2015 / 3 / 3
الادب والفن


والدي كما عرفته

ما يحكى عني في طفولتي أنني كنت منقبا، أختي الصغرى التي تهتم برعاية البيت كانت تصفني (بالبقشاش)، كل وثائق وصور عائلتي أعيد النظر فيها في كل لحظة كأنني أكتشفها من جديد، حتى دفتر الحالة المدنية أعيد تصفحه من حين لآخر، كنت مهووسا بتواريخ الميلاد والوفاة والزمن بشكل عام، النساء كلما استعصى عليهن تاريخ ميلاد شخص يرجعن إلي، ويسألنني فأجيبهن على الفور، دفتر الحالة المدنية المتعلق بأسرتي من أقدم الدفاتر في دوارنا وضعه والدي سنة 1974م، وهي السنة التي ولج فيها شركة التنمية الفلاحية (صوديا) باعتبارها شركة مغربية اهتمت بالأراضي المسترجعة من المعمرين الفرنسيين، الأراضي هذه كانت في ملكية الجماعات والقبائل المغربية، لكن في سنة 1913م سيوقع السلطان العلوي يوسف ظهيرا تم بموجبه تخويل الأراضي المغربية للمعمرين الفرنسيين نظرا لكون القبائل لا تملك دليلا مكتوبا يبرر ملكيتها للأراضي !! هذا الظهير بين تواطؤ الملكية والاستعمار الفرنسي في تجريد القرويين من أراضيهم، وإرغامهم على الهجرة صوب المدينة، أو العمل كأقنان في الحقول والمناجم، غير أن هؤلاء القرويين سيكونون وقودا لثورة الشعب المغربي في بداية الخمسينات، لكن ها هو الاستقلال (حتى وإن كان شكليا) يحل على المغرب، بقي المعمرون الفرنسيون يملكون الأراضي إلى حدود 1973م، ستون عاما من الاستغلال، بينما اتفاقية إكس ليبان اكتفت بالقول :(بعدما أنجزت فرنسا كافة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية طيلة فترة الحماية تعلن إلغاء هذه الاتفاقية)، أية إصلاحات تتحدث عنها فرنسا ؟؟؟ نهب، استغلال، حرق المداشر والحقول، سجن ..هل فرنسا ألغت هذه الاتفاقية حبا فينا ؟؟؟ ليس الحب وإنما الإجبار هو الذي دفعها إلى ذلك، لو كانت تحب المغاربة لعملت على تثقيفهم وتنويرهم وإصلاح بلدهم، لكنها نهبت وشردت وقتلت، وفي الأخير أعطتنا استقلالا شكليا، ولكي تقطع الطريق في وجه محمد بن عبد الكريم الخطابي وأفقه الواسع في تحرير كافة الأراضي المغربية عملت فرنسا على تواطؤ مع القصر والأعيان والأحزاب التقليدية فمنحتنا استقلالا ناقصا، ففي الوقت الذي كانت فيه الدولة المغربية (عبر تاريخها) تمتد حدودها إلى نهر السنغال أصبحت رقعتنا الجغرافية قزما، وهؤلاء الذين وقعوا هذه الاتفاقية المذلة هم السبب وراء ذلك، جيش التحرير المغربي الذي أخرج فرنسا من المغرب كان حلمه بعيدا، وسعى إلى تحرير الصحراء المغربية وضم موريتانيا إلى حظيرة الوطن، لكنه تعرض لقصف جوي مكثف من قبل الجيش الفرنسي والجيش الملكي الوليد فأجهض التحرير الشامل، وبقي مشكل الصحراء إلى يومنا هذا إلى جانب المدينتين السالبتين والجزر الجعفرية والمشاكل الحدودية مع الجزائر.
في سنة 1973م، تم استرجاع الأراضي من المعمرين الفرنسيين، كان والدي آنذاك في السادسة والعشرين من عمره، صورته الوحيدة العالقة في دفتر الحالة المدنية تظهر أنه كان شابا وسيما، شعره كان كثيفا كشعري واستقامة وجهه لا تختلف عن استقامة وجهي، ناهيك عن عينيه اللوزيتين وحاجبيه الكثيفين وخديه المنتفخين المتوردين، يبدو من صورته أنه كان شخصا وقورا، غيريا إلى أبعد حد، كل الدوار يعرفه بهذه الصفة. في صيف تلك السنة ذهب إلى مدينة سطات التي تبتعد عن قريتنا زهاء 150 كلم، وذلك من أجل وضع دفتر الحالة المدنية لأسرتنا، لم تكن هناك وسائل ولا مواصلات، فمشى على القدمين، وكلفه ذلك أسبوعين، كان يفترش الأرض ويتغطى بالسماء . رحلاته المتكررة عبر المغرب علمته مواجهة الصعاب التحديات .
بعد ستة أشهر من هذه الرحلة، التحق والدي بشركة صوديا، وبقي فيها إلى حدود سنة 1998م، وطيلة هذه المدة لم يتم ترسيمه، كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان مجدا لا يغيب كثيرا، غير أن هذا لم يشفع له لكي يصبح رسميا في عمله، فرنسا الامبريالية التي تقول أنها أصلحت المغرب، إلى حدود 1966م لم توجد ولا مدرسة في قريتنا !! خرجت من المغرب لأنها انهزمت ضد جيش التحرير، وفشلت في الجزائر والفيثنام، لذا تواطأت مع الملكية والأعيان والأحزاب التقليدية وأعطتنا استقلالا شكليا حتى تضمن وجودها في المغرب، فمازالت تستعمرنا اقتصاديا وسياسيا ولغويا وثقافيا !! والدي يعرف هذا، ففي 18 نونبر 1955م، كان واحدا من الأطفال الذين تجمعوا قرب الكانتينة، وتحلقوا حول مذياع رجل يدعى امحمد ولد التيكة، حينذاك عرفوا أن الملك محمد بن يوسف رجع إلى المغرب، وبعد برهة رأوا سيارات تحمل العلم الوطني، فاستقبلوها بالورود احتفالا بالاستقلال، فرنسا التي كانت تزجهم في زنازين انفرادية سترحل، فرنسا التي شردتهم وقتلت أغنامهم وهدمت منازلهم لن تعود . لكن ذلك كان مجرد حلم، فرنسا بقيت تسكننا، أنوارها كانت ظلاما. المخزن الذي كان يمنح الأراضي على مريديه عاد من جديد. في سنة 1973م وزعت الأراضي على الأعيان والقياد، وبقي الكادحون وجموع القرويين دون أرض كأن الاستقلال لم يتحقق، حتى هؤلاء الذين يملكون حيزا صغيرا لم تساعدهم الدولة، وإنما ساعدت أصحاب الحيازات الكبيرة، فكانت ترشدهم وتمنحهم البذور والمياه من السدود. أرضنا التي كنا نملك كانت بورية ولا تكفي سداد متطلبات الحياة، فاضطر والدي أن يعمل لتلبية نفقات الأسرة ودراسة إخوتي، كان من هؤلاء الذين راهنوا على التعليم للخروج من حالة الفقر، فرغم اعتراض جدي على تدريس أختي، فإن والدي تمسك بتعليمها وقاده تمسكه إلى حصولها على الإجازة في العلوم الاقتصادية سنة 1997، وكم يطيب لي أن أشيد بكفاحيته وتقدميته وبطولته، فليس هينا على رجل من العالم القروي أن يكافح من أجل تدريس أولاده في المدينة، لقد اكترى لها بيتا وأحاطها بكل ضروب الرعاية والاهتمام، وحينما أصبحت مدرسة شعر أن إنجازها من إنجازه، حقا إن الحب ليس قولا وإنما عملا، والدي كما عرفته شخص مسالم لم يستعمل العنف ضدنا إلا لماما، لا يكثر التأنيب، ولا يتدخل في حياتنا الشخصية. مرة واحدة استخدم في حقي العنف لأنني كنت أشعل النار في الدوم، لكن هذا العنف علمني احترام الطبيعة. نظرا لظروف عمله كان يغادرنا في المساء، كنت أشعر بفراغ كبير، وظهر لي الوالد كطائر ترك صغاره ورحل، مرة واحدة رأيته جالسا جوارنا في ظلام دامس تتخلله شمعة تنوس بضوء باهت، كان يحكي لأمي يأسه ومرارته جراء طرده من العمل. حينما يعود في الصباح كان يمنحني قبلة وبقايا خبز، وكنت أنتشي بذلك .
كان والدي شيخا في طفولتي، لهذا السبب كنت أعود لأفتش عن صورته البعيدة، أخلق مونولوغا معها، وأستحضره يمسك أختي الكبرى، وينصحها بالجد والمثابرة، ويحكي لها طرائف قريتي، وأيام الاستعمار كما يحكي لي الآن، لكن أمنيتي أعظم من هذا. كنت أتمنى أن يكون والدي مثقفا وسياسيا وقارئا جيدا لتاريخ المغرب ويجيبني عن أسئلتي التي كانت تربك أساتذتي في الثانوية والجامعة، لكن هذا ليس سوى حلم . ذات مرة كنا عائدين من السوق على متن الدراجة، هطلت الأمطار بغزارة، تبللت ثيابي، فأخفاني في جلبابه، وسرد لي أنه في مثل هذه الظروف كان يدرس عمي في المدينة، وعلى متن الدراجة كان يأخذه كل مساء إلى القرية، سألته :(لماذا لم تدرس أنت ؟؟)، سكت سكوتا طويلا !!
حينما وصل إلى المنزل قال لي : أنه ولد في أرض العزيب (التيرس) سنة 1947، ولم يكن الابن البكر، وإنما كان الابن الثاني، الابن البكر مات بسبب السعال الديكي (العواقة)، أخذت جدتي أقراصا من المستشفى الفرنسي، شربها وبعد برهة مات، ومنذ ذلك الوقت كرهت جدتي الفرنسيين لأن محمد ابنها البكر مات بسبب الأقراص الفرنسية، فسمت ابنها الثاني (لحسن) لكي يكون فأل خير، ووعدت نفسها بألا يلج مدارس الفرنسيين ولا مصانعهم، وتعلقت به إلى حد كبير، إلى حدود سنة 1983 منعته من الذهاب إلى الرباط من أجل العمل، ربما كان هو أيضا متعلقا بها، وكانا يريا في بعضهما البعض الحماية، لهذا السبب رأيت والدي يبكي بحرقة شديدة يوم 24 يوليوز 2007 وهو عائد بكفن جدتي من المدينة .

عبد الله عنتار / 02 مارس 2015 / بني ملال – المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نصير شمة يحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس بيت العود العربي في الق


.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي




.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر


.. قضية دفع ترامب أموالا لممثلة أفلام إباحية: تأجيل الحكم حتى 1




.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر