الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن واختراع الكتابة والقراءة

ساطع هاشم

2015 / 3 / 4
الادب والفن


في احدى الاحصائيات الدولية التي احدثت ضجة في العالم العربي سنة 2002 والمتعلقة باستهلاك الورق وطباعة الكتب قالت بان الدول العربية العشرون مجتمعة لاتستهلك سوى واحد بالمئة من الانتاج العالمي للورق , وقد ادى ذلك الى هيجان جماهير القراءة والكتابة والمؤلفين واحتجاج المحتجون ضد هذه الفضيحة الشنيعة , و تساْلوا بغضب : متى سيبدأ العرب بالقراءة والكتابة ومتى سيدخل الكتاب بيوت الناس لاكضيف بل كواحد من اهل الدار ؟ وقد بدا انذاك بان غالبية المحتجين نسوا او تناسوا , بان من بين ستة مليارات انسان يعيشون في هذه الارض , فان ثمانية وتسعين بالمئة من سكان العالم (ولحسن الحظ) ليسوا عرب , اذن فماالداعي للاحتجاج ؟ اليس ذلك امرا طبيعيا عندما ينتكس التاريخ والتقدم والحضارة ويحكم دولنا القمع المؤلم والوحشي لانظمة جائرة على مدى ستين سنة او اكثر ؟
خلال زمن الاستعمار الاوربي للعالم في القرن التاسع عشر , قام العديد من المستكشفين الاوربيين بمهام عديدة ومتنوعة في الاقاليم والقارات المستعمرة , من بينها كانوا قد احصوا عدد اللغات التي يتكلم بها سكان العالم , وفي اواخر ذلك القرن كانت النتيجة زهاء ثمانية الاف لغة لعدد هائل من القبائل والاقوام والقوميات , والغالبية العظمى من الناطقين بتلك اللغات كانوا اميين لايجيدون الكتابة والقراءة بل ان الكثير من تلك اللغات لم يكن لها ابجدية اصلا , وهذا دليل كما يقول الباحثيين على ان اللغة المنطوقة او المحكية هي اساس الاتصال الاجتماعي ورواية التاريخ , اما اللغة المكتوبة والمقروءة فهي عوامل حضارية مبتكرة للضرورات الاقتصادية والمهنية ولاحقا للاتصالات والتدوين وغيرها والاحصائيات الحالية تقول بان ربع تلك اللغات قد اختفت وعدد اللغات المسجلة لدى اليونسكو الان اقل من ستة الاف لغة
الكتابة والقراءة , الات اخترعها الانسان اواخر العصر الحجري الحديث عند دخوله حضارة المجتمع الزراعي , وبناء المدن , مثلها مثل اية الة تم اختراعها في تلك العصور المنقرضة منذ الثورة الزراعية الاولى قبل ثمانية الاف سنة , اي ان الكتابة ليست متأصلة في طبيعة الدماغ مثل القابلية على النطق والكلام الذان لهما جهاز خاص وخلايا مبنية في الصدغ الايسر من الدماغ وتولد مع الانسان وتنشأ بالتدريج وتتقوى بالتدريب وتموت معه , وقد نشأت خلايا النطق هذه وتطورت منذ حوالي سبعين الف سنة مع تطور باقي اعضاء الجسم التي ميزت الانسان لاحقا عن القرود التي انحدر منها , اما الكتابة والقراءة فهي وسائل عمل اخترعها العقل البشري عندما اكتمل بناءه العضوي والتشريحي كانسان منفصل عن مملكة القردة , لتكون امتدادا للدماغ والعقل في تنظيم الحياة البشرية المشتركة بشكل افضل , مثلها مثل العجلة والمغزل والمحراث وماشابه , يعني انها ليست غريزة طبيعية ناتجة عن تراكيب بايلوجية في الدماغ والجسد , تولد معنا وتموت معنا.
ان تمكن الانسان من تحويل اللغة المنطوقة الى رموز الابجدية قد احدث بلا ادنى شك ثورة هائلة في العقل البشري , لكن ذلك لايعني تحولها الى غريزة طبيعية مثل القابلية على النطق او الكلام , وربما تكون الكتابة والقراءة قد انغرستا في اعماق النفس البشرية بالمجتمعات المتطورة فقط او المجتمعات المتقدمة كما يحاجج بعض المؤرخين الغربيين وعلماء الاجتماع , نظرا للحاجات والاغراض العملية المادية التي تقومان بها , لكنها بالتأكيد غير متأصلة بعد في طبيعتنا البايلوجية , كما الكلام , فهما من ضرورات حياتنا اليومية ووسائل اتصالنا وسط امواج الكون اللامتناهي .
والعنصر الاساسي الذي ساعد على ظهور الابجديات هو الادراك البصري للعالم كما تطور لاحقا في ما يعرف حاليا بعالم الفنون التشكيلية كالرسم والنحت والمعمار والفخار وغيرها , وغالبا ماينظر الى الفنون القديمة على كونها شكلا من اشكال الكتابة , والسبب هو ان الكتابة بدأت عندما رسم الانسان مااراد قوله , وقد وصل هذا الامر ذروته في الاختصار والتجريد خلال فترة الكتابة الاولى التي تعرف في علم الاثار بمرحلة الكتابة الصورية والتي تعتبر بداية للتدوين ودخول الانسان الى العصور التاريخية , وقد انتشرت في العراق القديم اولا مع العصر البرونزي في حدود سنة 3500 قبل الميلاد , ثم في مصر القديمة وبقية الممالك
هذه الفنون البصرية تتأثر بسرعة بكل تغيير ميكانيكي او ديناميكي يحدث بالفضاء الانساني , والفنانون التشكيليون عموما (تاريخيا على الاقل) وقبل ان يبدأ الانفصال التدريجي بين الفن والعلم مع بداية الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمان , ساهموا في خلق ليس الكتابة فقط وانما العلوم المختلفة ايضا التي نعرفها الان باسماء كالكيمياء والفيزياء والهندسة والبناء تحديدا اكثر من بقية العوالم المعرفية الاخرى
من الناحية البايلوجية ، فان الإنسان وحياته وتاريخه محكوم بعالم الطبيعة وقوانينها الأزلية ، فالليل والنهار ، العتمة والنور مثلا ، وتعاقبهما يحددان قدرات الإنسان على العمل والراحة ، ويشكلان السبب الموجب لتنظيم كل نشاط عملي وجهد ذهني ، وهما مصدرين أساسيين من مصادر التفكير المجرد للعلاقة بينه وبين الكون الأوسع الذي يعيش فيه واساس فكرة الزمن في ادمغتنا.
هذا التفكير المجرد يتجسد في الأسئلة الروحية والنفسية والفلسفية والعلمية التي حاول الإنسان ومنذ الأزل الإجابة عليها ، وخلق مرادف بصري ملموس إليهما عن طريق الرسم والنحت والمعمار ، وطقوس الرقص والغناء والموسيقى ، والشعر والأدب وعموم النشاطات الإبداعية التي نطلق عليها في زماننا اليوم مصطلح عام هو الفنون الجميلة
ففي الزمن القديم الذي يطلق عليه علماء الجيلوجيا والانتروبيلوجيا مصطلح العصر الحجري القديم (الباليوثي) والوسيط (ميسوليثي) حيث عاش فيه الانسان كصياد او متطفل على الطبيعة كما يصفه الاقتصاديون , ولم يتوصل بعد الى اكتشاف الزراعة والاستقرار بالمدن , كان فنه مشبع بالتشبيه الواقعي والمبالغ فيه للاشياء , وعندما تحول الى فلاح مزارع واخترع المحراث وبناء المدن وبيوت العبادة الدينية واحاطها بالاسوار وكان ذلك بعد نهاية العصر الجليدي الاخير في الارض قبل حولي عشرة الاف سنة , اضاف الى واقعيته الرمز والتجريد كما قد تجسد ذلك في الزخارف الهنسية والنباتية والحيوانية التي تركها في الاواني الفخارية والطينية وفي الكتابة لاحقا على الخصوص , فالطبيعة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة ومواد البناء ووسائله قد فرض على خيال الانسان /الفنان التحول الى مسار اخر , واكتشاف جديد داخل رؤاه ومعارفه للطبيعة ولنفسه , فالاستقرار بالمدن لايشبه الترحال بالغابات , والزراعة لاتشبه الركض وراء صيد الحيوانات والتهام ماتجود به الطبيعة , فكل منهما تغذي اتجاها معينا للخيال والتصور
وقد ساد والى وقت قريب اعتقاد يقول بان الفنان يشبه الاسفنجة , فهو يتحسس الاحداث والاذواق والمعارف , مثلما تتحسس الاسفنجة الرطوبة والبخار قبل انتشارها , وذلك للاعتقاد قديما بالطبيعة والقدرة التنبؤية للفنان والذي كان عمله الاساسي بناء وتزيين القصور والمقابر ودور العبادة وتجسيد احلام الملوك والطغاة بالصور والتماثيل , بمعنى ان الفن عمل وفعل حسي وذهني متزامن , لان الخلق الابداعي غالبا ماكان غريزي , حدسي , تخميني , قائم على الملاحظة المباشرة والتجربة والخطأ اكثر من ما هو عقلي تحليلي قائم على اساس نظرية , اي ان عمل الفنانين اقرب الى الاحتمالية والشك منه الى الحتمية واليقين , ونحن نتحدث هنا عن الفنان الحقيقي وليس تاجر اللوحات والصور الاستهلاكية كما في عصرنا الحالي , لذلك فلا توجد حضارة حقيقية بالتاريخ لم تجعل للفن وللفنانين مكانة خاصة فيها وتهتم بهم وباستمالتهم لصالحها وبتمويل ابداعهم وحمايتهم باستمرار من ايادي البرابرة والغوغاء
لكن الاعتقاد بالقدرة على التنبؤ لدى الانسان عامة وليس الفنان فقط , ليس مقبولا في زماننا اليوم , وله من المعارضين اكثر بكثير من المؤيدين في عصر العلم هذا الذي نعيش به وانتقال الانسان من الحياة الزراعية كفلاح الى الحياة الصناعية كعامل ومخترع وصناعي , لكن مؤيديه قبل انتقال الانسان الى العصر الصناعي كان اضعاف مانراه اليوم بسبب سلطة الخرافة والغيب والكهنة ورجال الدين ومكانتهم كاصحاب سلطة حاسمة بالمجتمع واحتكارهم عمل الفنانين , هذه السلطة التي لم تبدأ بالضعف الا في السنوات المئتين الاخيرة بسبب التقدم العلمي والتكنلوجي في الدول الاوربية الغربية , وظهور طبقات اجتماعية جديدة تقود الحياة الاقتصادية للمجتمعات ليست بحاجة الى الخرافات والغيب مثل طبقة الصناعيين والعمال والفنيين المهرة والمخترعين وهكذا , ثم انتقال المفاهيم الجديدة في انحاء العالم منذ عصر الاستعمار والى الان , وربما تلاشي هذه السلطة الدينية سيستغرق قرنين اخرين , هذا على افتراض ان الجنس البشري لن يدمر نفسه بنفسه قريبا , وان كل شئ يسير على نفس المسار السابق حيث : الخير يجد الثواب دائما والشر يلقى العقاب , وان احدى مبررات وجود الحضارة هو تمكيننا من العيش سوية , وهذا هو الهدف النهائي للحياة المشتركة والتي لايسمو عليها اي شئ اخر , وان ثلاثون الف رأس نووي مزروعة اليوم حول العالم سوف لن تستخدم ابدا وانما ستذهب ان اجلا ام عاجلا الى سلة المهملات رغم اننا لانعرف ابدا (بماذا تفكر كل هذه الروؤس النووية ؟) كما تسائل في وقت ما احد الشعراء العراقيين
يقودنا هذا الى ما يكرره العلماء في ادبياتهم باستمرار على ان الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه , او القول بانها صراع مستمر ضد الخطأ واذا اردنا التخلص من التخلف والجهل والامية بكل مستوايتها فلابد لنا من مقاومة شرسة بلا هوادة لهذا الخطأ او الاخطاء , لكن ذلك قد لايسري على عالمنا الشرقي , الذي اصبح مستغلق لايمكن الوصول الى انسانه الطبيعي ابدا , حيث اصبح الخطأ عماد حياته , بسبب حروب دائمة ومستمرة يقودها السفلة الاتقياء من حجاج ومعتمرين ونصابين متدينين , ملالي وروزخونية بعمائم ومسابح وخوتم الحظ التعيس , وتحت شعارات اخترعها انبياء ومرسلين منذ الاف السنين
فهل هذه هي العوالم التي تتصارع في اذهان الناس في بلادنا اليوم بعد ان تم تدمير بقايا حضاراتنا السابقة؟
هل الغيت الثقافة والفنون والعلوم ومعارف التربية , هل الغى رجال الدين والعسكر انسانيتنا من حياتنا نهائيا ؟
هل هذه هي الاخطاء ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القراءة والكتابة
alan ( 2015 / 3 / 4 - 09:15 )
عزيزي الكاتب ان امريكا هي التي تمنعنا من تعلم القراءة والكتابة، فلماذا ندوخ انفسنا بالصراع الدائم مع الاخطاء، يكفي ان نعرف الشيطان الكبير وندينه بكرة واصيلا وكل شئ سيصبح عال العال ولكن مع الاسف هناك اقلية ضئيلة من عملاء امريكا يقعون حجر عثرة لهذه الخطة الجهنمية ويخربون الامر لانها خطة لا تنجح بالرغم من كون اغلبية اليساريين والقوميين والاسلاميين وحتى اللبراليين والمثقفين في العالم الاسلامي يطبلون لها ليل نهار طالما يبقى عميل امريكي واحد!!!!!


2 - مجهود في محله
رائد الحواري ( 2015 / 3 / 4 - 16:59 )
يذكرنا الكاتب بحقيقة المجتمعات الحضارية، ويعمد في بحثه على العلم وحقائق من التاريخ، لعل وعسى نجد هناك/ منا من يستفيد ويعمل للتقدم للامام ونبذ الجهل وتركه في الخلف

اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا