الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشى غيفارا ... والحضور الدائم خواطر في الغيفارية في زمن العولمة

مسعد عربيد

2002 / 12 / 27
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


 

نادرة هي تلك اللحظات في تاريخ البشرية التي تبزغ لتنير الدرب وتبقي جذوة الامل ملتهبة بغد افضل. هكذا  يتجلى ارنستو تشى غيفارا كواحدة من انصع تلك اللحظات في القرن العشرين ـ قرن الامبريالية وحروبها. رحل تشى عنا منذ خمسة وثلاين عاما بعد أن اطلق ضابط بوليفي مخمور رصاصته في صدره اردته قتيلا. وهكذا خمدت تلك الروح وخلدت للراحة للمرة الاولى منذ ان تسلل البؤس والجوع وألم الفقراء الى وعى تشى ومنذ أن عشش في وجدانه حلم "الانسان الجديد" والمجتمع الحر والاشتراكية.

ويظل السؤال ملحاحا: اين نحن اليوم من تشى ورؤيته؟ ترى هل كل ما تبقى من هذا الثوري صورته المعلقة على صدور الشبان والفتيات في كافة انحاء المعمورة؟ أم انه قد أضحى ايقونة مثالية مجردة وربما سلعة تذكارية سياحية؟ هل غدا تشى ذكرى رومانسية مفرّغة من المضمون والرؤية والنضال؟ وهل ما زال بيننا من يصغي لصرخاته في شعوب العالم ان ينتفضوا في "فيتنامات" متعددة لمقارعة الامبريالية وراس المال اينما تواجدا؟ هل اضحى تشى، يا ترى، "شيئا من الستينيات" يردده جيل ذلك "العقد الفريد" من الزمن. وان كان الرجال نتاج تاريخهم ومن صنعه، فهل جاء التاريخ جازما بان عهد تشى قد ولى؟ أم، على النقيض من ذلك، جاء ليؤكد باننا أحوج ما نكون اليه اليوم. فالتاريخ، كما نراه، يلح علينا اليوم بان تشى حاضر بيننا لانه قدم الينا مبكرا وسابقا لأوانه فامتلك رؤية المستقبل الذي هو حاضرنا اليوم.

لم يعادي تشى الامبريالية وراس المال لانها كانت "تقليعة" عصره وشعار زمانه. ولم يكن زخم نضاله ردة فعل لجولته في بلدان اميركا اللاتينية تلمسا لاوضاع شعوب تلك القارة وبحثا عن غدٍ افضل. ولم تأتِ ثورته تجاوبا لحسه المرهف ورفضه المتأصل لكافة اشكال الظلم والاستغلال والبؤس فحسب، بل كانت تعبيرا واعيا وعقلانيا عن ازمة الانسانية الكامنة في نظام راس المال وامبرياليته، وعن رؤيته الثاقبة بان سمة عصرنا الاساسية تكمن في فهم الامبريالية. وعليه ادرك غيفارا بانه لا خلاص للبشرية دون التصدى الكامل وعلى كافة الجبهات لهذا العدو. وبدون هذه المواجهة لن تستطيع الشعوب انجاز مهام التحرير الوطني وتحقيق السيادة والاستقلال لاوطانها ومن ثم الشروع في التنمية حيث التحرير الوطني شرط وضرورة للبناء الاشتراكي.

وذهب تشى في تحليله قدما مؤكدا ان هذه المواجهة اممية في طبيعتها. فلم يرى تشى في النضال ضد الامبريالية مشروعا محليا بل اعتبره مهمة اممية لكل الشعوب المقهورة. أما الدول الاشتراكية (آنذاك) فلا يكون دعمها لهذا النضال من قبيل العمل الخيري والانساني بل واجبا امميا والتزاما ماركسيا. وقد أدرك (واعلن عن ذلك برباطة جأشه المعهودة) بان خيار الانسانية الوحيد هو حرب الشعب والمقاومة بكافة اشكالها وليس التعايش السلمي (مع الامبريالية وراس المال) كما روج السوفييت آنذاك وكما نبه تشى، مبكرا، لمخاطر اطروحاتهم هذه.

ولم يرى تشى البناء الاشتراكي وتحقيق الاشتراكية (كنظام اجتماعي ـ اقتصادي ـ ثقافي متكامل) الاّ من خلال تحقيق السيادة الوطنية اولا وانهاء كافة اشكال الهيمنة الامبريالية والراسمالية. وضمن هذه الملحمة يرى تشى تناغم النضال الاممي والنضال الوطني، ففي التحام الوطني بالاممي تتجلى البروليتارية الاممية الحقيقية وتتكاثر "الفيتنامات" في بقاع الارض مقارعة الامبريالية اينما حطت اقدامها. ألم يقل في رسالة وداعه لكاسترو:" ان شعوبا اخرى (يقصد بعد ان اتم واجبه تجاه الشعب الكوبي) في هذا العالم تدعوني لتقديم جهودي المتواضعة"؟

ماذا يقول تشى، لو كان بيننا اليوم، في استشراس العولمة وتدميرها للبنى الاقتصادية والاجتماعية لدول العالم الثالث (والثاني) واغراقها في ديون لن تتمكن من تسديدها مهما ابدعت علوم الرياضيات في تطوير معادلاتها الحسابية؟

ماذا سيقول في هيمنة ثقافة راس المال والمادية والاستهلاكية على مجتمعات لم تعد تملك ما تستهلكه؟ ألم يحذرنا تشى (1961) من هذه الثقافة وطالبنا بمقاومة النماذج الثقافية التي سعت الولايات المتحدة لفرضها على مجتمعات اميركا اللاتينية من خلال ما سميّ آنذاك ب "التحالف من اجل التقدم"؟ ألم يعمل (قولا وممارسة) على غرس القيم الاخلاقية الاشتراكية واحترام العمل ومقاومة القيم الراسمالية والمادية والاستهلاكية من جشع وفساد ونهب وانفرادية داعيا الى التضامن الاجتماعي والاممي بين الناس؟(*)
 
ترى ماذا يقول تشى لو انبرى بيننا اليوم ليرى ما آلت اليه حالتنا: غياب المعسكر الاشتراكي واستفراد القطب الواحد ومسلسل الحروب الذي لا (ولن) يتوقف من نيكاراغوا والسلفادور الى فلسطين والعراق ويوغسلافيا وافغانستان؟ ولعل ما هو آت افظع مما فات. الا يؤكد هذا المشهد عبرة العصر التي لم يكل تشى عن المناداة بها: ان قدر الشعوب المضطهدة هو ان تقاوم وان تستمر في المقاومة دون مهادنة ودون توقف مستخدمة كل الاشكال الممكنة والناجعة للنضال والمقاومة والصمود متألقة ومتظافرة في حرب الشعب.

لقد ارادوا لنا ان نصدق انه برحيل تشى قد اسدل الستار على نضال الشعوب وخيم على الانسانية عصر الظلام والاحباط والتشاؤم والسوداوية. ومع سقوط الاشتراكية في اوروبا الشرقية، زعموا ان راس المال هو السيد الاوحد وخيار البشرية الوحيد بل انه نهاية التاريخ. الاّ ان التاريخ يعلمنا انه طالما بقيت فلسطين جاثمة تحت الاحتلال الصهيوني ـ الامبريالي والعراق هدفا للابادة الشاملة، وكلما تمادى راس المال في العبث بمصائر الشعوب ونهب ثرواتها، وأوغل الكومبرادور العربي الحاكم في قمع الجماهير وسحق الطبقات الشعبية، وطالما استمرت هذه الطبقات تقتات الفقر والجوع والبؤس والمرض كل صباح، فان تشى سيظل حيا وستظل صرخة الثورة مدوية. اذ ما قيمة المخاطر التي تحيق بالشعوب والتضحيات التي تبذلها اذا كان مصير البشرية باسرها مهددا بالفناء؟ ان التاريخ لم ينتهي بل ربما لم يبدأ بعد. ففجر التاريخ يبزغ مع اطلالة الحرية والانعتاق بل ان جذوته تتقد بنضالات الجماهير كما تنبأ خوسى مارتي: "ان ساعة الاتون قد أزفت، واضحى النور الشئ الوحيد الذي تمكن رؤيته".
_______
(*) قال تشى في رسالته ايّاها مودعا كاسترو: "لست آسفا لانني لم اترك لاطفالي وزوجتي اية تركة مادية. بل انني لسعيد بذلك. لا أطلب لهم اي شيء لانني أعلم بان الدولة [ يقصد الكوبية] ستوفر لهم ما يفي بنفقاتهم وتعليمهم".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. متضامنون مع غزة في أمريكا يتصدون لمحاولة الشرطة فض الاعتصام


.. وسط خلافات متصاعدة.. بن غفير وسموتريتش يهاجمان وزير الدفاع ا




.. احتجاجات الطلاب تغلق جامعة للعلوم السياسية بفرنسا


.. الأمن اللبناني يوقف 7 أشخاص بتهمة اختطاف والاعتداء -المروع-




.. طلاب مؤيدون للفلسطينيين ينصبون خياما أمام أكبر جامعة في الم