الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشيطان يعظ

السيد نصر الدين السيد

2015 / 3 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


حكاية ذات مغزى
في أواسط ثمانينيات القرن العشرين وصل باحث شاب الى الولايات المتحدة ملبيا دعوة إحدى الجامعات الأمريكية الشهيرة لقضاء سنة كباحث زائر. وهكذا انضم بطل قصتنا الى مجموعة الباحثين الذين يعملون في معجل الجسيمات النووية التابع للجامعة Cyclotron. وقد تصادف ان يكون يوم وصوله مبنى المعجل هو يوم الجمعة، وهو اليوم الذي تعقد فيه مجموعة "التنظير" اجتماعها الأسبوعي. ومجموعة "التنظير" هذه هي مجموعة من الباحثين المسؤولين عن تفسير نتائج التجارب التي تقدمها لهم مجموعة "التجريب" والمتعلقة بالتفاعلات النووية. وبالطبع حضر الباحث الاجتماع كأحدث عضو ينضم اليها. وقد جرت العادة ان يخصص الاجتماع الأسبوعي لمناقشة ورقة علمية مناقشة متعمقة وارسال ملاحظات المجموعة الى مؤلف الورقة. وقد كانت الورقة، التي نوقشت في هذا اليوم، لواحد من العلماء الثقات في موضوع التفاعلات النووية. لذا لم يكن مستغربا ان تحوز الورقة تقدير الجميع، باستثناء واحد، وان يذكر كل منهم الأسباب الموضوعية التي دفعته للتقييم الإيجابي للورقة. وفي مقابل شبه الاجماع علي الجودة المرتفعة لهذا العمل كان هناك عضو من أعضاء مجموعة "التنظير" خارج عن هذا الاجماع، ولم تتوقف ملاحظاته السلبية على العمل وبدا وكأنه "لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب!". وعلى الرغم من تململ الكثيرين من ملاحظات هذا العضو المارق المتلاحقة الا انها في النهاية القت الأضواء على العديد من جوانب العمل التي اغفلها الآخرون مما جعلهم يعيدون النظر في بعض مما طرحوه. وهكذا تعرف صاحبنا، لأول مرة، على ما يطلق عليه "محامي الشيطان" وعلى الدور الهام الذي يلعبه في تقييم الافكار.

وفي نهاية الاجتماع قام منسق اللقاء بتلخيص ما خلصت اليه هذه المناقشات تمهيدا لإرسالها الى المؤلف، ثم سأل الحضور عمن يرغب في لعب دور "محامي الشيطان" في الاجتماع القادم. ويندفع صاحبنا ويعلن عن رغبته في لعب هذا الدور واستلم الورقة العلمية المقرر مناقشتها بعد أسبوع. وبعد قراءة اولية يكتشف صاحبنا قدر الورطة التي أوقع نفسه فيها. فلعب دور "محامي الشيطان" ليس بالمهمة اليسيرة، كما يبدو للنظرة السريعة، فهو دور يتطلب ممن يلعبه ان يكون قادرا على الـ "التقييم". والتقييم هو مهارة معرفية لا يتمتع بها الكثيرين.

هرم بلوم
لا يمكن تقدير حجم الورطة التي واجهها صاحبنا دون الرجوع الى "هرم بلوم" لأهداف التعلم. ويصف هذا النموذج، في صورته الأولى، ستة مستويات للمهارات المعرفية (او الادراكية). وأدنى هذه المستويات، او المستوى الأول، هو مستوى "المعرفة (او التذكر)" الذي يشكل قاعدة الهرم. ويشير هذا المستوى الى قدرة الفرد على تذكر مواضيع تم تعلمها سابقا. أما قمة الهرم (او المستوى السادس) فهي مهارة "التقييم" Evaluation، او قدرة الفرد على اصدار احكام كمية وكيفية على منتج ما او فكرة بعينها على ضوء معايير محددة. وما بين قمة الهرم وقاعدته تأتي بقية المستويات وهي بالترتيب: "الفهم" Comprehension و"التطبيق" Application و"التحليل" Analysis" و"التركيب" Synthesis. والمستوى الثاني، "الفهم" هو قدرة الفرد على تفسير أو إعادة صياغة ما تعلمه من معرفة بلغته الخاصة. وثالث المستويات، "التطبيق"، يعني القدرة على استخدام ما تعلمه الفرد في مواقف جديدة. اما المستوى الرابع، "التحليل"، فيعني قدرة الفرد على تفكيك الموضوع قيد الدراسة إلى مكوناته الأساسية. وأخيرا يتعلق المستوى الخامس، "التركيب"، بقدرة الفرد على تجميع تلك المكونات وإعادة تشكيلها في هيئة جديدة.

ولما كان العلم لا يعترف بالمقولات الخالدة التي لا تقبل التغيير فقد ادي اعتبار المعرفة كمورد وما أسفر عنه من ظهور للاقتصاديات المرتكزة على هذا المورد الى ضرورة إعادة النظر في مستويات "هرم بلوم". وتم تحديث "هرم بلوم" فتم الاستغناء عن مستوى "التركيب" ليحل بدلا منه مفهوم "الخلق Creating (او الابداع)" الذي يعني القدرة على انتاج المعرفة، والذي يحتل قمة الهرم (المستوى السادس). وبهذا تهبط مهارة التقييم من المستوى السادس لتحتل المستوى الخامس. ومن الجدير ذكره في هذا السياق ان بلوغ مستوى معين من مستويات يتطلب المرور بالمستويات السابقة. فبلوغك مستوى "التقييم"، على سبيل المثال، يتطلب منك تحقيق المستويات السابقة وهي: التذكر، الفهم، التطبيق والتحليل.

والآن وعلى ضوء ما سبق يمكنا تقدير حجم الورطة التي أوقع صاحبنا نفسه فيها. فصاحبنا هذا هو ابن ثقافة تعلى من شأن مهارة "التذكر"، فنراها تحتفي بمن "حفظ" النصوص المقدسة على سبيل المثال، وتنظر بعين الشك والريبة لمن يحاول "الفهم" او حتى لمن يسعى لـ "التحليل". اما عمليتي "التقييم" و"الخلق/الابداع" فهما من الكبائر التي تخرج مرتكبهما من الملة. وهكذا تنحصر مهارات أبناء هذه الثقافة في المهارات المعرفية/الادراكية الدنيا (التذكر، الفهم، التطبيق). وفي المقابل تعتبر الورقة العلمية موضوع التقييم مثالا لمنتجات ثقافة تحرص على تزويد ابناءها بالمهارات المعرفية/الادراكية العليا (التحليل، التقييم، الخلق). ولعلني لا أكون مبالغا ان لحظة لقاء الباحث مع الورقة تحمل العديد من أوجه الشبه بواقعة زيارة الجبرتي، المؤرخ المصري الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر، زيارته لمقر المجمع العلمي الذي أقامه الفرنسيون في بيت حسن كاشف جراكس ليكون مكانا لـ "صناعة الحكمة والطب الكيماوي"، ويذكرلنا ما وجده فيه من "تنانير مهندمة، وآلات تقاطيرعجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح، وتقاطير المياه وخلاصات المفردات" ويحكى لنا عما شاهده من أمور تجرى فيه، يختم لنا حكايته معبرا عن انطباعه، بصدق شديد فيقول: "ولهم فها أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا" .... !؟

محامي الشيطان
تخبرنا كتب المنطق عن أحد المغالطات المنطقية الشائعة، خاصة بين العاملون بالسياسة، وهي "مغالطة الاحتكام للعامة". وفحوى هذه المغالطة هو ان "تبني عموم الناس لفكرة ما يعني صحة هذه الفكرة". الا ان التاريخ يوفر لنا الكثير من الشواهد على عكس ما جاء في هذه العبارة. ففي وقت سابق كان اغلب البشر يؤمنون بان الأرض مسطحة او بان الشمس تدور حولها. والامر الخطير هنا ان تلك الاعتقادات الخاطئة قد تتحول الى مسلمات راسخة في عقل وضمير الامة مالم يوجد من يتحداها. وهنا يبرز دور "محامي الشيطان" في تحديه لكل ما هو راسخ وفي عدم تردده في مناقشة ما يطلق عليه لفظ "البديهيات". و"محامي الشيطان" هي آلية تستخدم اثناء عمليات صناعة القرارات الاستراتيجية او دراسة المشاكل المعقدة. وتهدف هذه الآلية الى تحسين جودة منتج هذه العمليات عبر الكشف عن أوجه القصور او الضعف خاصة في حالة وجود اجماع او شبه اجماع.

وهنا نقف لحظة وننظر حولنا لنتأمل ما يؤمن به مجتمعنا من "مسلمات" وما يعتبره من بديهيات فتكون النتيجة اننا في حاجة ماسة لكتائب من "محامو الشيطان".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء ومصابون بقصف إسرائيلي استهدف مباني في مخيم جباليا ومدي


.. أبرز ما تناولته وسائل الإعلام الإسرائيلية في الساعات الأخيرة




.. لا معابر تعمل لتربط غزة مع الحياة.. ومأزق الجوع يحاصر السكان


.. فرق الإنقاذ تبحث عن المنكوبين جرّاء الفيضانات في البرازيل




.. جامعة برشلونة تقطع علاقتها مع المؤسسات الإسرائيلية