الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


افتقاد إدوارد سعيد

صبحي حديدي

2005 / 9 / 20
الادب والفن


تحلّ يوم 25 أيلول (سبتمبر) الجاري الذكرى الثانية لرحيل المفكّر والناقد الفسطيني الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003). وثمة الكثير الكثير من الظواهر والوقائع والتطوّرات والتفاصيل التي تجعلنا نفتقده سنة بعد أخرى، في النظرية النقدية والعلوم الإنسانية إجمالاً، وفي الفنون والحياة البحثية والأكاديمية، ثمّ في السياسة الدولية والعربية والفلسطينية بخاصة، وتحديداً بعد رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والإنسحاب الإسرائيلي من غزة.
وفي هذا الجانب الفلسطيني نفتقد رؤية سعيد الثاقبة لتلك الأبعاد الخافية التي تكتنف الظواهر التي تبدو جليّة واضحة، ولست أقصد التحليل السياسي وحده بل التعمّق الفريد (الطباقيّ Contrapuntal، كما اعتاد الراحل تسمية منهجيته في دراسة باطن السطوح) في ما يتراكب ويتعقّد ويتنافر ويتوحّد ويتآلف في آن معاً، داخل حال منفردة قد لا يلوح البتة أنها أكثر من تفصيل عرضي بسيط. ونفتقده لأنّ ما كان سيكتبه عن حياة، أو بالأحرى حيوات، الفلسطينيّ بعد عرفات وفي غزّة المتحرّرة من نير الإحتلال، كان دون ريب سيصنع سوية فارقة عن معظم ما كُتب حول السياقات ذاتها.
وشخصياً أعود في هذه الأيام إلى قراءة "خارج المكان"، العمل الذي صدر سنة 1999 وكان أوّل (وللأسى الشديد: آخر) مؤلف يكتبه سعيد في المذكرات والسيرة الذاتية. وتشدّني، أكثر من ذي قبل في الواقع، تلك الجوانب اللامعة في ذلك المجلّد البديع، كما تتكشّف لي جوانب أخرى لم أكن قد تنبهت إليها منذ أن قرأت أجزاء مخطوطة من الكتاب، وتشرّفت بترجمة فصل منه في "الكرمل" قبل صدور الكتاب.
بين الجوانب، المؤثرة الجبارة، تلك التفاصيل الكثيفة التي يسترجعها سعيد على نحو منبسط طليق متخفف من أية تقنية سردية قصدية، خصوصاً وقائع الأشهر الأخيرة من العام 1947، التي قضاها في القدس قبيل رحيل الأسرة إلى القاهرة في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته... مرّة وإلى الأبد. وهو يروي، على نحو جارح لأنه حقيقي عفوي، كيف كانت فلسطينية فلسطين تلك الأيام، في مستوى الأرض والبشر والتاريخ والجغرافيا، بمثابة معطى طبيعي يومي؛ وكيف جرى مسخ ذلك كله بغتة، وانقلبت حيوّات الفلسطينيين جرّاء إقامة الكيان الصهيوني واقتلاع الفلسطينيين وتشريدهم.
وفي تغطيته لتلك الحقبة غير العادية، حاول سعيد استرجاع منظور الفتى الذي كانه آنذاك: يافع في الثانية عشرة من العمر، لا يدرك تماماً أسباب علائم الإنكسار والحزن والفقدان التي كانت تخيّم على وجوه أهله وأقربائه وأصدقائه كلما احتفلوا بعيد ميلاده. ولسوف يمرّ زمن غير قصير قبل أن يدرك سعيد أنّ الأوّل من تشرين الثاني (نوفمبر)، عيد ميلاده، كان يصادف أيضاً عشية ذكرى أخرى لا يليق بها أيّ فرح، هي وعد اللورد بلفور بإقامة دولة لليهود في فلسطين! ومن المأساوي أنّ ذلك الفتى، الذي سيصبح بعد عقود قليلة الصوت الفلسطيني الأبرز والأرفع قامة في الغرب، كان «ممنوعاً» بمعنى ما من التفكير في القضية الفلسطينية، وكان مطالَباً بالإنصراف إلي دروسه وحدها. وسعيد يروي أنّ أباه ظلّ حريصاً على إبعاده عن «السياسة»، حتى أن كلماته الأخيرة وهو على فراش الإحتضار كانت التالية: «أنت أستاذ أدب، فالتزم بحدودك هذه. يقلقني ما سيفعله الصهاينة بك. فكنْ حذراً».
مؤثّرة أيضاً حكاية سعيد مع خليل بيدس (1875- 1949)، الأديب واللغوي والمربي الفلسطيني الكبير الذي ينسى الكثيرون أنه واحد من الروّاد الكبار المؤسسين للرواية العربية الحديثة. والمأساوي أن سعيد، الذي سوف يحتلّ موقعاً رفيعاً في ميدان التنظير النقدي والفلسفي والجمالي والتطبيقي لفنّ الرواية بالذات، لم يكتشف حقيقة شخصية خليل بيدس إلا بعد مرور سنوات طويلة... طويلة! وهو يروي انطباعات غائمة عن رجل «اكتنف تلك السنوات المبكرة في القدس، وسحرتني شخصيته الملوّنة»، وكان شريك أبيه في لعبة طاولة الزهر، وكان أستاذ لغة عربية يرتدي الطربوش، طاعناً في السنّ، كثّ الشاربين، مفرطاً في التدخين، جذلاً ومرحاً وطريفاً.
بعد أربعة عقود سوف يعرف سعيد أن بيدس لم يكن مجرّد أستاذ للغة العربية يشارك أبيه في لعبة الطاولة، بل كان شخصية ثقافية محورية في الحياة الفلسطينية آنذاك. لقد تعلّم أوّلاً في مدرسة الجالية الروسية في القدس («المسكوبية» كما كانت تسمّى، وليس من المفارقة أنها اليوم مركز إسرائيلي لاستجواب واحتجاز الفلسطينيين!). ثم درس في روسيا وعاد إلى فلسطين في مطلع القرن، فانضم إلى «الندوة» الأدبية التي كانت تُعقد في المسكوبية بالناصرة (أيضاً: هي اليوم قسم الشرطة الإسرائيلية في المدينة). وحين عاد إلى القدس، مفعماً بالفلسفات الروسية في القرن التاسع عشر، وبأفكار شتّى مستمدة من أمثال تولستوي ودستويفسكي وبرداييف، فإنه سرعان ما انخرط في الجهد الثقافي والوطني الفلسطيني، وهيمن على أعوام العشرينيات والثلاثينيات كواحد من أبرز المساهمين في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية.
و"خارج المكان" يحتوي على الكثير من هذه البورتريهات المصغرة المدهشة، التي رسمها سعيد لحيوّات عشرات الفلسطينيات والفلسطينيين. وأمّا أهميتها الخاصة فهي أنها تسهم في كتابة وإعادة كتابة سردية فلسطينية مضادة بالضرورة للسردية الصهيونية الكلاسيكية، عن سنوات استلاب فلسطين. وراهنوا، لو كان الراحل الكبير معنا اليوم، أننا كنّا سنقرأ المزيد الفذّ المدهش حول تعميق هذه السردية في ضوء تطورات العالم من حول، وفي قلب، البلاد التي «كانت تسمّى فلسطين/ صارت تسمّى فلسطين»، كما يقول محمود درويش...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي