الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (77)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2015 / 3 / 13
الادب والفن


كم تمنيت أن تكون الإعدادية في قريتنا، لكنها لم تكن، هذا هو قدرنا نحن أبناء الريف. بعد اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية، كنا نجلس قرب الكانتينة المتاخمة لمدرسة بنت عبو رفقة بعض الأصدقاء الذين لم أراهم منذ ذلك الوقت، البعض منهم رسب، والبعض الآخر أخفق في المرحلة الإعدادية أو الثانوية أو الجامعية، أذكر يونس الذي كنت ألقبه (بالكروشي)، لم يكن يفتر من النقاش، كل المواضيع التي سمعها في المذياع يريد أن يضعها على طاولة الحوار، كان يعلم أن مسألة بقائه في المدرسة مسألة وقت، فعندما نجحنا في القسم الخامس كان يقول لي : (هذه آخر سنة ستجمعني بكم، آمل أن تكون مفعمة بالصداقة والنقاش)، لست أعلم بالضبط لماذا أراد مغادرة المدرسة، لكن أستطيع القول : أن الوالد لم يكن يثق بجدوى المدرسة، فبمجرد ما نجح يونس أرسله والده إلى المدينة لتعلم الميكانيك وهو في سن 14، حزنت كثيرا (لأنه لم يلتحق) لما وجدته في لائحة الممنوحين للاستفادة من القسم الداخلي، وبرفقتي في قسم الأولى إعدادي 9.
كان يوم الإعلان عن النتائج حزينا بالنسبة لي، كنت أعلم أنني ناجح، وما مجيئي إلى الكانتينة إلا رغبة مني في تنفس آخر اللحظات، من يعرف أكثر مني طقوس العبور؟!! لقد جربت الدخول إلى المدرسة سنة 1997، فغادرت المنزل بحزن، وها أنا أغادرها سنة 2003 بخيبة كبيرة، وزادي الذي أملك هو أنني مجد، وكنت أحصل على الرتب الأولى طيلة مسيرتي التي دامت ست سنوات، لم تشرفني المدرسة بجائزة، ولم تمنحني مصافحة بسيطة لزملائي الذين تنافست معهم، من يذكر هشام ذلك الولد النحيل ذو العقل الذكي الجبار؟؟ من يذكر محمد ذلك الولد القصير الذي يتحدر من دوار ولاد شطان ؟؟ لا أحد سيذكرهما أكثر مني، في القسم الرابع كان يقول لي الأستاذ البرواكي* عند إدلائي بجواب : (ها أنت تحزمت ليهم)، بمعنى : (ها أنت قد عدت من جديد بعد أن غبت في السنة الماضية)، فعلا لقد غبت في القسم الثالث، واكتفيت تارة بالرتبة الثانية وتارة أخرى بالرتبة الثالثة، لكن الذي يلاحظ أن المواقع في كل سنة تتغير، في القسم الأول كنت متفوقا دون منافسة، كان الأستاذ ينيط بي مسؤولية تعليم التلاميذ الحروف، وتحفيظهم القرآن والقصائد الشعرية، وكنت دائما ناجيا من الفلاقة، بيد أنه في القسم الثاني ولد محمد، نظرت إلى وجهه، كان مفعما بالبياض، وفي عينيه تفوق لا مثيل، حصلنا معا على الرتبة الأولى بمعدل 8.16، أما في القسم الثالث أخليت الساحة له ولزميلنا هشام، غير أن الأجمل في الصراع هو حب المعرفة الذي استشرى في كياننا، لم تكن المدرسة تتوفر على مكتبة، مرة واحدة زودتنا الأستاذة بقصص، غير ذلك كنا نتنافس على حفظ القرآن والأشعار والقصائد والملخصات، كانت هذه الأمور هي معيار تفوقنا، إلا أن الكثير منا كان يشاهد التلفزة أو ينصت للمذياع، فكنا من حين لآخر قبل الدخول إلى الفصل، نحتشد ونناقش المباريات الرياضية والقضايا السياسية (كقضية فلسطين). كان الزملاء يحتشدون من حولنا، وينقسمون إلى زمر، وكل زمرة تؤيد طرف، حتى داخل القسم، وعند استظهار سور قرآنية.
ذات يوم من أيام أكتوبر سنة 2001، نظمت المدرسة مسابقة ثقافية بين البنين والبنات، كنت مشاركا فيها، طرحت علينا عشرة أسئلة، أجابت البنات على سؤال واحد، بينما نحن أجبنا على الأسئلة العشرة، وبقي الحضور مذهولا، صفقوا علينا ولم ننل شيئا، قبل بداية المسابقة وجدت يونس ينتظرني على باب المدرسة وأطربني بكلمات مشجعة، فزاد من حماسي، وخاب ظنه حينما لم نفز بشيء. كان يونس رياضيا ماهرا، احتل الرتبة الثانية في سباق العدو الريفي الجهوي، لكن في مدارس الريف لا يمكن للزهور أن تينع، آخر مرة رأيته كانت في سنة 2004 قرب الطريق ينتظر عودة الوالد من السوق، اختفى كما تختفي طاقاتنا كل يوم، في سيرورة هدرية لا تعرف الانقطاع، متى تشيد دور الشباب والثقافة قرب الكانتينة الجرداء التي كنا نتجمع جوارها ؟؟ سمعت أنهم سيشيدون مسجدا ! أما ويكفينا المساجد التي لدينا ؟؟ في كل مسجد يبنى تموت موهبة وتتشظى طاقة، هذا ما يراهن عليه المخزن، قتل الطاقات وتخريب الإنسان، أما وكنا سنكون في وضعية أحسن لو شيدنا الإنسان بتشييد دور الثقافة وتشجيع القراءة وبناء العقل في العالم القروي عوض الوعظ والإرشاد الفارغين ؟؟ الإنسان آخر ما يفكر فيه المخزن، فلا داعي لبناء مدارس ومستشفيات أو دور الشباب، أو تكوين مؤطرين لبناء الإنسان، يكفي مسجد وفقيه وخطبة تأتي من وزارة الأوقاف، وليتحول الإنسان إلى صخرة صماء، أو قطيع يرقص بالثغاء، ليس بعيدا أن الصخور المجاورة لقرية بنت عبو كانت في يوم من الأيام بشرا فتكلسوا من جراء التهميش ؟؟!! الخطب تساهم في تحنيط البشر، وفي افتعال غرائزهم الحيوانية، وإذكاء روح العصبية والانتقام، ففي كل خطبة إدخال إلى سياج مضفى عليه الطهرانية والصفاء، وإخراج من سياج مضاد عماده الشيطنة والتكفير، أما دور الثقافة التي ننشد فإنها تبني الإنسان على الاختلاف والتعدد وعلى تفجير الطاقات والمواهب.
ليس أكثر ما يدعو للحنق أن تجد يونس من ضمن القرويين الذين يستبشرون خيرا بالمسجد الجديد ! كأننا أنجزنا كل شيء !! يونس خضع لغسيل دماغ، وصار يؤمن بالقضاء والقدر، لم يكن كما كان رافضا للتهميش، أصبح يرى في ذهابه إلى الميكانيك وعدم مواصلته لمشواره الرياضي، وفي بناء المسجد أمورا مكتوبة في اللوح المحفوظ !! أي يونس أنا بصدده الآن ؟ إنني بصدد يونس المدجن الذي غسل دماغه، فلو عاش في بيئة تقدر الإنسان لأصبح رياضيا كبيرا، وما كان لوالده أن يحرمه من التعليم ويرسله إلى الميكانيك، ولبقي معه حب المعرفة مثلما كنا نتجمع قرب الكانتينة في صيف 2003م. لم يكتب شيء في اللوح المحفوظ، الإنسان خالق أفعاله ومسؤول عنها، فلو كان كل شيء مكتوب علينا، فلسنا مسؤولين عن أفعالنا، وبالتالي لا معنى للحياة، لذا تكون عقلية المسجد هي التي أهدرت الطاقات، وولادتنا نحن مرهونة بولادة عقلية الإنسان.

عبد الله عنتار / 12 مارس 2015 / المغرب
--------------------------------

* مدرس اللغة الفرنسية . درسنا بمدرسة بنت عبو الابتدائية خلال الموسم الدراسي 2001/2002. تقع المدرسة في الجنوب الغربي لمدينة بنسليمان بحوالي تسعة كيلومترات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غادة عبد الرازق: الساحة الفنية المصرية لم تعد بنفس قوة الماض


.. الفنان درويش صيرفي.. ضيف صباح العربية




.. -بحب الاستعراض من صغري-.. غادة عبد الرازق تتحدث عن تجربتها ف


.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف




.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال