الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثامن

محمد أيوب

2005 / 9 / 20
الادب والفن


الكوابيس تأتي في حزيران
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الثامن
ـ 8 ـ
حضر أحمد الفايز حفل عشاء أقامه الحاكم العام تكريما لأعضاء لجنة الموظفين، كان اللقاء مع الحاكم العام من أجل مناقشة قضايا الموظفين وقد أسفر اللقاء عن الموافقة على تقديم علاوات للموظفين بنسبة خمسة وعشرين بالمائة، تأخر أحمد الفايز في الاجتماع ، عاد إلى البيت متـأخرا، وجد أمه في حيرة وتوتر ، وعندما دخل البيت هتفت أمه بلهجة تحمل كل أحاسيس اللوم والعتاب :
ـ أين كنت ؟ ولماذا تأخرت ؟ هل يجوز أن تترك والدك ، والدك في حالة صعبة ؟
ـ قلت لك أنني متوجه إلى اجتماع مع الحاكم العام مع بقية أعضاء لجنة الموظفين .
ـ ولكن والدك في حالة نزاع .
ـ فال الله ولا فالك يا شيخة.
توجه إلى الغرفة التي يرقد فيها والده ، كانت أنفاسه تتردد ببطء ، وضع إبهامه على معصم والده ، نبضه بطئ جداً ، حشرجة في صدره .
ـ أبي بخير ، أنت تهولين الأمور .
ـ يا بني أنا أدرى منك ، لم تمر بمثل هذه التجربة من قبل ، والدك في حالة نزاع ، ولكن روحه متعلقة بك، طال انتظاره لك وكأنه لا يريد مغادرة هذه الدنيا دون أن تكون آخر إنسان يراه قبل رحيله ، نادى أحمد الفايز على والده: أبي كيف حالك ؟
فتح والده عينيه ، انفرجت أساريره ولكنه لم يتكلم، شبح ابتسامة ارتسم على شفتيه ، حاول أن يرفع يده اليمنى ليلمس ابنه لكنه لم يستطع ، مد أحمد الفايز يده ولمس يد والده برفق ، أمه تبلل شفتي والده بالماء وتعصر قطرات من الماء في فمه، غضب أحمد الفايز :
ـ قلت لك والدي بخير ، كأنك تتمنين موته.
ـ أنا يا أحمد ، هل هذا هو رأيك في أمك .
ـ معذرة يا أمي لم أقصد الإساءة إليك، سأغير ملابسي .
ما كاد أحمد الفايز يغير ملابسه ويلبس منامته حتى جاءته أمه وعيناها مغرورقتان بالدموع :
ـ البقية في حياتك يا أحمد .
توجه إلى غرفة والده، لمس يده ، كانت يداه دافئتان : إنه دافئ وهذا يعني أنه لم يمت .
ـ مات والدك يا أحمد ، أطلب له الرحمة وفكر في إجراءات الدفن ، لا يريد أن يصدق والدته ، لا يريد أن يصدق أن والده مات حقا ، مد يده ليجس بها نبضه ، لا نبض ، مات الوالد إذن ، أصبحت الآن يتيما ، هبطت عليه أحاسيس اليتم فجأة ، كان يملأ علينا البيت في رضاه وفي غضبه ، سأفتقدك يا والدي، بكى بصمت، دمعة أو دمعتان انهارتا من عينيه فجأة، أشاح بوجهه بعيداً حتى لا تلحظ أمه دموعه ، اذهبي ونامي يا أمي ، قال أحمد ، ولكن أمه رفضت : وهل أترك والدك وحده ؟ ألا تريدني أن أفك وحشته في آخر ساعاته على وجه الدنيا ، لن أتركه وحده .
ـ ولكني سأبقى إلى جانبه ، اذهبي ونامي يا أمي .
ـ قلت لك لن أذهب ، أقضي معه ساعات الوداع الأخيرة .
سهرا حتى مطلع الفجر، هرب النوم من بين الجفون، سيغادرنا أبوك في الصباح ولن يعود، قالت أمه ، وأضافت : اذهب إلى بيت عمك وأخبر جدتك وعمك قبل أن يخرج إلى العمل ، ثم بلغ باقي أفراد العائلة لتتمم بعد ذلك إجراءات الدفن ، انسحبت فلول الليل وساد نور الصباح، توجه أحمد الفايز إلى المدرسة وأبلغ الناظر بأن والده قد توفي ، أصر الناظر على إرسال بعض الأذنة للمساعدة وطلب منه إشعار إدارة المدرسة بموعد الدفن ، أعد بعض أفراد العائلة القبر، وأحضر البعض الآخر النعش وخشبة غسل الموتى ، ألقى أحمد الفايز نظرة على والده ، يقوم المغسل بتدليك جسمه بليفة خاصة ، يحركه كيفما يشاء دون أدنى اعتراض من والده ، بكى أحمد بصوت مرتفع ، لم يتصور أن والده سيموت ، وأنه سيستسلم للموت بهذه السهولة ، كان يعتقد أن والده أقوى من الموت ، وهاهو الآن يقلب ويغسل دون إرادته ، يلبسونه ثيابا بيضاء دون إرادته، رغم مرارة الموت يلبسون الميت ملابس بيضاء ، ما هذا التناقض يا إلهي !
اقتربت عقارب الساعة من العاشرة قبل الظهر، قال أحد الحاضرين : نصلي عليه الظهر حاضراً .
اعترض آخر: ولكن كرامة الميت دفنه، والدنيا حر .
تم الإعداد للجنازة ، فوجئ أحمد الفايز أن المدرسة قد خرجت عن بكرة أبيها لتشييع جثمان والده ، المعلمون يتقدمون ، والطلاب يلبسون القمصان السوداء ويحملون أكاليل الزهور في وسط كل إكليل تعزية مكتوبة بخط جميل، كان مظهرا جنائزياً مهيباً ، تحركت الجنازة باتجاه المسجد الكبير، سجي الجثمان أمام المصلين وأقيمت عليه صلاة الميت ، وفي مقبرة المدينة تم دفنه تحت شجرة وارفة الظلال ، كان يحب الأشجار، وهاهو يرقد رقدته الأبدية تحت واحدة منها ، تظلل عليه وتعانقه بجذورها فيتجدد معها في ربيع كل عام ، ينبعث قبل البعث أوراقاً خضراء يانعة تأتي مع كل ربيع ، ثم تذهب روحه في إجازة بقية فصول السنة ، ما أجمل أن يدفن الإنسان تحت شجرة تحيط به الأشجار من جميع الجهات فيرتوي جسده وتتكحل عظامه بماء الحياة الذي تقطره السماء في حلق الأرض فتورق الأشجار ويفرح الجسد الميت في رقدته ويطرب مع زقزقات العصافير ونداءاتها وهي تدرب صغارها على الطيران .
اصطف أقارب المتوفى يتلقون التعازي من المشيعين ، ثم أخذ الحضور يغادرون المكان ، خرج أحمد الفايز مع أقاربه ، التفت وراءه ،توقع أن يرى والده وهو يحاول اللحاق بهم لكنه لم يفعل وكأنه استطاب تلك الحياة فاستقر هناك، حاول أن يداري دمعاتٍ سقطت من عينيه ، أشاح بوجهه بعيدا، وحيدا كان ، ما أكبر الفراغ الذي تركه هذا الوالد في حياته ، أكبر من الفراغ في الشرق الأوسط .
ـ يا راجل اللي خلف ما مات، قال أحد أقاربه ، مهونا عليه ، وقد لاحظ الدموع في عينيه وهي تترقرق ، فضحته دموعه رغم كل محاولاته لكتمانها ، كانت مشاعره تجاه والده مزيجا غريبا ، كان يحبه ويكرهه ، يقترب منه ويتباعد عنه ، يكون قريبا منه ومع ذلك يشعر أنه في غاية البعد ، تصفو الرؤيا وتشف العواطف عند الفقد ، وليس كالموت مصفاة للنفوس ، كم هو قريب من والده الآن رغم بعده عنه ، والله وحده يعلم متى يلتقيان، يقربنا الموت ويبعدنا، يختصر المسافات ويجعلها لا متناهية البعد ، ماذا يمكن أن يحدث لو لم يقم الموت باختطاف أحبائنا من بيننا رغم إرادتهم وإرادتنا ، هل كنا نفكر في التخلص منهم ، أم أن البشرية تجد حلا لهذه المشكلة باستحداث مواطن أخرى في كواكب أخرى ، وصل المشيعون إلى بيت العزاء ، هبط أحمد الفايز من سماء خيالاته المجنحة إلى أرض الواقع، بدأ يفكر في ترتيبات ما بعد الجنازة ، كانت الكراسي جاهزة لاستقبال المعزين والنار مشتعلة وفوقها بكارج القهوة السادة، كما وضعت علب السجائر على صينية خاصة يحملها صبي ليوزعها على الموجودين مع فناجيل القهوة المرة ، أصر الشيخ المسئول عن الوعظ والإرشاد أن يحضر في أيام العزاء الثلاث ، شعر أحمد الفايز بقربه من الشيخ رغم النفور الذي استقر في نفسه تجاهه بسبب الشائعات التي كان ينشرها البعض حوله ، لكن تصرفاته توحي بعكس ما يشاع عنه، كان معلما لأبناء آدم عبد الله عثمان رئيس جمهورية الصومال ، كان يعلمهم اللغة العربية ، وبعد التغيير في نظام الحكم اضطر إلى مغادرة الصومال حيث انتدب للعمل في قسم الوعظ والإرشاد في غزة، كانت مصر تختار أفضل المدرسين ورجال الدين وتبعث بهم إلى غزة، وفي اليوم الثالث قبل انتهاء مراسم العزاء بقليل سأل أحمد الفايز أحد كبار العائلة إن كانوا قد حاسبوا المقرئين، ولكنه فوجئ بقلة الأجر الذي قدمه الكبار للمقرئين ، وكانت حجتهم في ذلك أنهم يحاولون التوفير عليه، غضب وقال للكبير: هل تقبل أن تجلس ساكتاً لعدة ساعات بهذا الأجر الذي أعطيته للقراء ؟
تململ الكبير وقد أحرجه السؤال وأجاب باقتضاب : لا.
توجه أحمد الفايز نحو المقرئين وأعطاهم أجراً إضافيا فتدفقت الدعوات من أفواههم طالبين من الله أن يطيل عمره وأن يرعاه .











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي