الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جامع -ست نفيسة-: ومضة التجديد ...-الحتمي-

خالد السلطاني

2015 / 3 / 15
الادب والفن


لا يثير جامع "ست نفيسة" الحالي، الواقع بمحاذاة شارع موسى الكاظم بالكرخ، ومجاوراً الى "خضر الياس"، انتباه كثر. فليس في مظهره "الخارجي" من إثارة. ثمة سياج "ملبوخ" ومصبوغ بالوان فاقعة، تنم عن حسّ "شعبوي" متجذر، وترى من خلفه منارة الجامع الآجرية، التى تعيد هيئتها اشكال المنائر المألوفة في العاصمة العراقية. لكن هذا المبنى المتواضع، قدر له، ذات يوم، ان يكون ، مؤسساً بحضوره المرتجى لذائقة جمالية حداثية، وفاتحاً آفاق التجديد المعماري، التى طال انتظارها في "تايبولوجية" المباني الدينية، ولاسيما مباني المساجد. واذ أضع كلمة "الحتمي"، بين مزدوجين، فما هذا، الا لان تلك "الحتمية" المنتظرة، لم تاتِ، ولم تتحقق مثلما كان يؤمل ويرتجى. وبدلاً ان تكون عمارة الجامع اياه، حاضرة بقوة في المشهد المعماري المحلي، باتت هيئته المنسية وموقعه المعزول، ذكرى لآمال مجهضة، تشي بتلك الخيبات، التى بدت وكأنها "قدر" مستحكم، لا يريد ان يهجر "المكان"!
يعود تاريخ الجامع الى سنة 1954، حيث كلفت "الاوقاف" قحطان المدفعي (1927) المعمار الشاب، وقتذاك، والمتخرج حديثاً، ان يصمم جامعاً في الموقع الذي حددته الدائرة الرسمية المعنية بتشييد المساجد. كان ذلك التكليف بمثابة فرصة مواتية للمعمار لجهة تحقيق آماله التصميمية، هو المسكون بالتغيير، والرافع لراية التجديد المعماري والحالم به. واذ نعرف، بان صورة "اميج" الجامع المالوفة، قد حفرت لها موقعاً عميقاً في "اركيولوجية" الذاكرة البصرية المحلية (ما يجعل من الصعب بمكان تبديل تلك الصورة او تغييرها من اذهان الناس)، فأن المعمار الشاب وجد في ذلك التحدي المضاف رغبة عارمة بان يكون "الشكل" المبتدع للجامع المنتظر ليس فقط جديداً، وانما ..صادماً، ايضاً!
بالنسبة الى قحطان، لم يكن مهماً لديه نوعية "الموضوع" المعماري، بقدر ما كان يعنيه "كيفية" التعاطي مع ذلك الموضوع، من وجهة نظر تصميمية خاصة، باستطاعتها ان ترهص بالحداثة والتجديد. ولهذا حاول، اثناء العملية التصميمية، ان يفكك "مكونات" الجامع الاساسية، بالذهاب عميقا نحو "الصيغة الاولية"، باتجاه بدء التشّكل لهذا "الفورم" الوظيفي الجديد، رائياً، في الوقت ذاته، تلك المكونات، عارية عن "اوهام التمثيل" (اذا استعرنا لغة المعمار التفكيكي المشهور "بيتر ايزنمان")، نازعاً عنها عرى ارتباطاتها التى اسست لـظهور "لوغو" Logo تشكيلاتها البصرية. ينقل عن الرسول الكريم قوله من ان "الارض هي مسجدي"، بمعنى، ان اي مؤمن (اية مؤمنة)، بمقدوره ان يؤدي الصلاة في اي مكان متاح، خلاف ما تفرضه الاديان الآخرى، بلزوم وجود ابنية خاصة ومراسيم معينة. ومن هذه الفكرة الاساسية، والاولية، والبسيطة للمسجد، سعى المعمار وراء "تنطيقها" معماريا، بالتقصى عن شكل خاص لـ "حيز"، مؤهل لان يجسد مادياً تلك المقولة لتكون مبنى الجامع المنشود. وهذا يعني فيما يعنيه، بان ليس من ثمة ضرورة ملزمة ان يتمثل ذلك الحيز بفضاء مقبب، كما هو دارج في شكل ابنية المساجد التقليدية. ولهذا اختار المعمار شكلا هندسيا صافيا ومنتظما لمسقط جامعه. لكن هذا وحده لم يكن، بالطبع، مقنعاً للمعمار، هو التائق للحصول على تعبيرية فائضة لمبناه، والطامح الى "تخليق" شكل مميز لجامعه. ولهذا فان جل اهتمامه انصب ناحية التسقيف، التى بمقدورها ان تجد حلاً للإشكاليات التصميمية التى وضعها المعمار امامه. وقد جاءت التسقيفات اياها، على شكل اقبية برميلية مشغولة بالآجر: المادة المحلية الاثيرة. ومن تلاقي بساطة مسقط الجامع ذي الهندسية الصافية، مع تعقيدات اشكال الاقبية البرميلية السقفية، حصل المعمار على مبتغاه، بتشغيل عنصر "التضاد" باقصى طاقاته. لكن المعمار المولع بالتعبيرية، اراد لـ "فورمه" المتحقق ان يكون حدثاً تصميمياً مميزاً. فارتأى ان تكون حركة ايقاع الاقبية البرميلية السقفية متغيرة، بتغير إختلاف اقطار وارتفاع تلك الاقبية ومواقعها. اي، ان ثمة تدرج حاصل في الارتفاعات، يبدأ من الاطراف باتجاه منتصف سقف قاعة الصلاة. وقد اضفى هذا كله جرعة تعبيرية مضافة على شكل الجامع الناجز؛ الشكل، الذي أُريد به، ان يكون إمثولة للجامع المعاصر. وبغية تكريس تجديداته التكوينية، فقد الغى المعمار مفردة "المنارة"، مستعيضا عنها بما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من مكبرات الصوت للآذان. وبهذا فقد انجز المعمار مهمته التصميمية بكفاءة، وحصل على ما يريد: شكل جديد وحداثي لثيمة ظل تكرار اشكالها التقليدية المقننة ملازماً لهيئتها المبنية. مقتنعا بان ما احرزه، يدخل ضمن اجتهاد شخصي لجهة "تأثيث" حساسية جديدة، بمرجعية جمالية مغايرة. انها، في الاخير، "ومضة" في "ليل" التكرار الممل لثنائية (القبة والمنارة)، كشكل وحيد وامثل لمبنى المسجد.
على ان هذه القناعة التصميمية، لم تجد تأييدا لها او تعاضداً لفكرتها عند الآخرين، عند "الاوقاف" خصوصاً، الذين كانوا بمنزلة "رب العمل" للمشروع المبني. فقد رأى الاخيرون في محاولة المعمار تلك، "تفكيكاً" عاصفاً لتصوراتهم الثابتة عن ما يمكن ان تكون عليه هيئة مبنى المسجد، ما حملهم لشن حملة ظالمة ضد عمارة الجامع، التى وجدوا فيها عملا خارجاً عن التقليد، يصل حد "الهرطقة"! والهرطقة هنا، كناية عن وجل "المحافظين" ورعبهم من تاثيرات الحداثة. فاعلنوا إعتراضاتهم الشديدة عندما شاهدوا مبنى الجامع وقد إكتمل، ولم يقبلوا هيئته، كما لم يسمحوا بالصلاة فيه، ما لم يعيد المعمار قراراته التصميمية، ويسعى الى ايجاد تطابق شكلي بين ما هو "تقليدي"، وما يمكن ان يضاف على الشكل الناجز، ليكون قريباً من تلك "التقليدية". وقد عملت الضغوطات التى مورست على المعمار وعلى مبناه عملها في اجراء "تحييد" الاثارة الحداثية لهيئة الجامع المبنية، باضافة "منارة" ذات شكل غارق في تقليديته، مع إضافات آخرى متعلقة في صياغة واجهات المبنى، والحد من تأثيرات الاقبية البرميلية، التى وجد "المحافظون" فيها ابتعادا كليا عن ما يمكن ان يكون مبنى لجامع. وفي الاخير، فقد ادى ارغام المعمار لعمل تلك الاضافات، الى وأد محاولته في عمل تغيير نوعي بمسار تلك المباني. كما ارغمت تلك الحادثة وتبعاتها كثراً من المصمممين المحليين بالنأي بانفسهم عن مسعى التجريب والتجديد في هذا النوع من المباني. ولم يجرؤ اي معمار من وقتها (عدا محاولة مكيه في انجازه "جامع الخلفاء" عام 1963)، بتقديم مقترح جاد لاختراق ذلك "الفورم" العتيد. اما محاولات بعض المصممين المحليين في التسعينات اجراء تغييرات ساذجة على اشكال مباني الجوامع التى شيدت آنذاك بامر من النظام الديكتاتوري، فلم اجد، شخصياً، فيها مسعى جاداً في حل تلك الاشكالية المهنية، بحكم المناخ التوتاليتاري السائد وقتذاك، والتصورات الشعبوية لمفاهيم التغيير والتجديد. فما معنى، على سبيل المثال، ابدال منائر المساجد، باشكال لـ "صواريخ"(!) جاهزة للانطلاق. او اقحام نوع من الغرائبية الشكلية على تلك "الثنائية التكوينية" (القبة والمنارة)،التى يبدو بان لا فكاك منها؟ فتلك الممارسات، في الواقع، اساءت الى الحداثة والتجديد، وولدت ردة فعل معاكسة، تجسدت في غلوّ حضور هيئة المسجد التقليدية وتكريسها في المشهد، والتى ما برحنا نلمس تبعاتها الكارثية على الممارسة المعمارية المحلية. بيد ان ما حدث عندنا في العراق، من تغاضٍ مقصود ومتعمد تجاه اشكالية دنو الحداثة وتاثيراتها على عمارة المساجد، تمخض ذلك في البلدان المجاورة مثل تركيا ولبنان وسوريا (قبل المحنة)، والاردن والخليج وايران، عن منتج معماري مهم ..ومفيد، تمظهر في نماذج تصميمية خلاقة ومبتكرة أغنت عمارة المساجد بخاصة، والممارسة المعمارية بصورة عامة في تلك البلدان. لكن ذلك ...حكاية آخرى.
ولد د. قحطان المدفعي عام 1927 ببغداد، وانهى تعليمه المعماري سنة 1952 في كارديف/ المملكة المتحدة،. عاد بعد تخرجه مباشرة الى العراق، ليمارس مهنته المعمارية، مؤسسا لاحقا، مكتب "دار العمارة"، مثريا البيئة المبنية المحلية بتصاميم عديدة، اعتبر بعضها محطات هامة في مسار عمارة الحداثة بالعراق. صمم دور موظفي مصفى الدورة (1952)، ودور شركة المنصور (1955)، وجناح العراق في معرض دمشق الدولي (1957، وفي 1958)، ومصرف الرهون ببغداد (1957) ، ومبنى السامرائي بالقرب من سوق الصدرية (1958)، كما صمم حديقة الجوادين بالكاظمية (1959)، وحدائق الاوبرا 1962-65)، ومبنى "جمعية الفنانيين العراقيين" في المنصور (1967)، ومبنى متحف التاريخ الطبيعي (1971-76)، وجامع بنية بالكرخ (1965-75)، ووزارة المالية (1978)، والكثير من المشاريع الاخرى. نعرف، ايضاً، بان المدفعي له حضور مميز في نتاج اجناس ابداعية اخرى، وقد اصدر عدة كتب خارج الاهتمامات المعمارية، مثل ديوان شعر (فلول) <1965>، وكتاب "فكر ابي نؤاس" <2012>. كما انه عضو في جمعية الفنانيين العراقيين واحد مؤسيسها في 1957. وهو دائم الدأب في الحصول على المعرفة بكل انواعها (وليس من دون مغزى، انهماكه في الدراسة مجددا، ومن ثم نيله، عام 1984 من مدرسته المعمارية الاولى، شهادة الدكتوراه بالعمارة، بعد 32 عاما من تأهيله المهني الاول!).□-;-□-;-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل