الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوراق معارضة ( 1) ولادة وطن

بدر الدين شنن

2015 / 3 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


قبل أن أتم الخامسة ، تعلمت قراءة القرآن ، بدأت بحلب ، وختمت بإدلب . وإلى أن أبلغ سن القبول في المدرسة ، تعلمت تجويد قراءة الآيات والسور ، وتعلمت من قصص الأنبياء ، رفض الماضي المتخلف والظلم .. والعمل من أجل الخير والمعروف . في هذه المرحلة من عمري ، كان الطريق بين بيتنا وحيث أتعلم قصير جداً ، لا يتعدى عشرات الأمتار ، وتكاد تنعدم فيه الحركة .

بعد هذه المرحلة ، كانت خطواتي الأولى إلى " المدرسة الفيصلية " بإدلب ، التي وسعت مساحة معرفتي للعالم خارج البيت ، وأكثر مما عرفته قبلها . إذ أن طول الطريق بين البيت والمدرسة يبلغ مئات الأمتار . وحركة الناس والأشياء العابرة ، تثير انتباهي وقدرتي على الملاحظة والسؤال .
وكان وعي الطفولي يتكون مما يقرأه في أصوات وحركة الناس ، عبر أزقة متفاوتة الامتداد والضيق ، حيث لا تبعد جدرانها المتقابلة سوى أمتار قليلة ، وكل شيء فيها قديم . وبعض جدرانها متآكلة وكأنها تقاوم لتبقى . وفيها دكاكين قليلة متناثرة تكاد تكون خاوية من . والناس يحثون الخطى على أقدامهم ، أو يركبون الحمير ، ليصلوا إلى غاياتهم . وأكثر مظاهر القدم فيها ، هي الحمام التي تتزود بالماء من بئر بعيد عنها ، وخلفها فناء كبير تتكدس فيه المواد التي ’تحرق لتسخين الماء .
وفي تلك الأزقة ، لامجال لسير العربات ذات العجلات ، أو للسيارات . وذلك لضيقها ، وكثرة تعرجها ، والحفر الكثير فيها ، ولأن السيارات ، حقيقة ، هي قليلة جداً في المدينة ولها دروبها السوداء الخاصة ، وأحد هذه الدروب ينتهي عند تخوم الأحياء القديمة الفقيرة .

ولما كبرت قليلاً ، كان زوج أمي ، الذي أناديه " عمي " يصحبني أحياناً إلى " الساحة الفوقانية " غربي الحي الشمالي ، أو إلى " الساحة التحتانية " في الجهة الغربية من الحي . وهما سوقان قديمان ، يحتويان على بضائع شتى ، من المأكولات والأشياء الأخرى . ثم صرت أعرف " البازار الشعبي الكبير ، الذي يقع حذاء تلة كبيرة من رماد صناعة الصابون . وبدأت أرى أناساً من بلدات أخرى ، وأرى أشياء يعرضها أصحابها للبيع بالنداء عليها .
لكن ما جذبني أكثر في ساحة البازار ، هو بنا كبير .. يقع غربي البازار .. وكذلك الرجال الذين يتحركون فيه ومنه وإليه . فهم من أشكال وألوا مختلفة . كان بعضهم أسود اللون ، وبعضهم أشقراً ، وكثيرون لونهم أسمر . بعضهم يستخدم الجياد ، وجميعهم يحملون على أكتافهم أسلحة معدة للقتل . هكذا أفهمني " عمي " . وأفهمني أن هؤلاء ، هم " عسكر المليس الفرنساوي " وهم أعداؤنا .. أعداء لبلادنا .
وقد شوش على وعي الطفولي ، أن جارنا " سعيد " من قرية " الدانا " هو عسكري منهم .. وهو لطيف معنا . كما أن ابن أخت " عمي " واسمه " عثمان " هو أيضاً منهم .

لا أدري بعد كم من الوقت ، أسابيع .. أو أشهراً .. بينما كنا نتنزه على تلة بجوار الحي ، رأينا عدة سيارات تجري على الطريق المحيط بالمدينة . وكل واحدة تحمل " مترو اللوز " أي رشاش كبير . ولما شاهدها الناس اضطربوا . وركض قسم منهم بعيداً . وما بقي من الحاضرين تلطى خلف شجرة أو حجر .
من يومها عرفت الخوف من أذى الأجنبي .. وعرفت ما سمي بالعدو ..

ولا أدري كيف ولماذا ، وأنا في الصف الثاني ، انغمست في قراءة " تغريبة بني هلال ، والزير سالم ، وعنترة بن شداد ، وسيف بن ذي يزن " . وبشكل عفوي طفولي تماماً ، شدني القاسم المشترك بين أبطال تلك الكتب .. وهو الكرامة .. وتحدي ورفض القهر والظلم والغدر . وحفظت بعضاً من شعر عنترة المعبرة عن هذه المعاني . ولما أتقنت القراءة في هذه الكتب ، صرت أقرأها في سهرات تضم الجيران والأقارب .

وارتبط بوعي الصغير العلاقة بين " الأجنبي والظلم " . وكرهت فرنسا . وتعلقت بمشاهدة المظاهرات بصحبة عمي ، التي تجري بين وقت وآخر ضد الاحتلال . ورأيت .. وسمعت .. كيف هاجم " عسكر الفرنساوي " المتظاهرين بالرصاص . وشاهدت الدم السوري المسفوك على الأرض . وشاهدت مرات عدة الدم على ثياب شباب محمولين على الأكتاف . وشاهدت جنازة شاب قتله الجنود الفرنسيون ، تحف بها جموع متألمة .. منفعلة .. متوترة .. مهددة .. من الأهل والأقارب وأبناء البلد .

وتعلمت لأول مرة كلمة " شهيد " وفهمتها دون أن يشرحها لي أحد .. كان العدوان الفرنسي الوحشي اللئيم على المتظاهرين العزل .. والدم الذي يحمم الشباب المقتول .. وغضب أبناء المدينة .. والتهاب مشاعري أمام كل ذلك .. كان كافياً لأعرف .. وأتعلم معني الشهادة والشهيد في القتال مع جنود الاحتلال . وترسخ بوعي الذي صار ينمو بسرعة .. ويبلغ مساحات تكبر.. وتكبر .. ترسخ حب فطري غريزي للوطن .. وكره غير محدود لفرنسا وجنودها القتلة .

وصرت أنظر إلى اللوحات المعلقة على جدران المدرسة نظرة مختلفة ، وأتفهم معانيها بصورة جديدة ، وخاصة تلك التي تحمل عبارة " حب الوطن من الإيمان " و " الوطنية أم الفضائل " .
كما صرت أنظر إلى صور الزعماء المعلقة مثل صور " إبراهيم هنانو ، ويوسف العظمة ، وعمر المختار ، وعبد القادر الجزائري " بعيون جديدة ، مفعمة بالمحة ، والإجلال ، وانغرست في قلبي وعقلي الرغبة ، أن أكون مثلهم حين أكبر .

وتعلقت بالأحاديث التي تدور بين الكبار ، عن الثوار ، والجلاء ، والسوريون في جيش الاحتلال . وذات ليلة قال أحدهم في نهاية حديثه .. غداً موعدنا .
لم أفهم ماذا يقصد . وهمهم الرجال وخرجوا . وعدت مع عمي إلى البيت .
صباح اليوم التالي .. انطلقت أصوات الرصاص من جهة البازار ، ومن جهة الثكنة الفرنسية في آخر المدينة بالقرب من سراي القائم مقام . وتراكض الناس إلى المنطقة المحيطة بالثكنة . كان عدد من الثوار يطلق الرصاص من بين الأشجار قرب الثكنة . وكان العسكر الفرنسيون ، يردون من رشاش كبير في برج الثكنة ، على كل مكان يأتيهم منه الرصاص الذي لا يتوقف .

قبيل اظهر .. قيل أن ضابطين فرنسيين كبيرين دخلا " سراي القائم مقام " . بعد أقل من ساعة علت الزغاريد .. ولعلع الرصاص حول السراي . ما الذي حصل ؟ .. تساءل الناس .. وانتشر الخبر .. واتجه كثيرون إلى محيط السراي .
كان قرب جدار السراي جثتان عاريتان ، والدم يغمر رأسيهما . وراح الناس يتداولون معلومات متقاطعة حول ما جرى . وكان الملخص الموحد .. أن الضابطين الفرنسيين ، عندما دخلا غرفة القائم مقام ، أمراه بفك الحصار عن الثكنة ، وإلاّ سيعتقلانه فوراً . فما كان من شابين من حراس السراي إلاّ أن حمل كل منهما ضابطاً فرنسياً متعجرفاً .. وألقيا بهما من نافذة الغرفة في الطابق الثالث إلى الطريق .. حيث قتلا فوراً . ومن ثم تولت الجموع الغاضبة الثائرة تجريدهما من الثياب ..

ما أن انتصف النهار ، حتى قام السوريون في جيش الاحتلال ، باختراق جدران الثكنة ، والهرب منها .. وانضموا إلى أبناء الوطن الذين يحاصرونها .
وجاء جارنا " سعيد " خالعاً قبعته الفرنسية وحاملاً رشاشه . قبلنا والدموع تنفر من عينيه .. وقعد على ركبتيه على الأرض وأطلق الرصاص تأكيداً على تمرده على الأجنبي ، وابتهاجاً بعودته إلى أهله ووطنه . وودع الحاضرين وذهب ليشترك مع المقاتلين الوطيين بحصار الثكنة .

وقد سرعت الأحداث المتلاحقة منذ ساعات الصباح الأولى ، لحظة ولادة الحدث الختامي لولادة .. حرية شعب .. صمم .. وقاتل .. وضحى .. وأراد .. فحصل على ما يريد . وكانت تلك اللحظة .. هي استسلام الثكنة الفرنسية للمقاتلين ولقوات الدرك السوري . وخرج قائد الثكنة الفرنسي ذليلاً .. وسط شتائم الآلاف للاحتلال الأجنبي .. ووسط زغاريد الصبايا .. المحمرة وجوههن .. انفعالاً .. وفرحاً .. بالجلاء والنصر والحرية .

وكنت أنا أطل برأسي الصغير إلى جانب " عمي " على هذا المشهد الذي يفيض كرامة وخشوعاً .
إن الذي لا أنساه في هذا المشهد ، أنه جذر في نفسي وروحي الصغيرة .. التعلق بالأرض والوطن . وأشعرني .. أنني صرت إنساناً آخر .. إنساناً كبيراً .. وأنني وكل من هم حولي من الأطفال .. قد ولدنا من جديد .. مع ولادة الوطن .. الذي سكن في القلب والعقل كمقدس لا يمس ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف سيؤثر تقدم اليمين الشعبوي في الانتخابات الأوروبية على مس


.. يوسف زيدان يتحدى علماء الأزهر ويرفض تجديد الخطاب الديني | #ا




.. جهود أميركية مستمرة لإبرام هدنة في غزة على وقع عمليات إسرائي


.. اندلاع حريق شمال هضبة الجولان إثر عبور طائرتين مسيرتين من جه




.. نتنياهو أسير اليمين…وأميركا تحضّر للسيناريو الأسوء! | #التاس