الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسمار جحا

أوري أفنيري

2005 / 9 / 20
القضية الفلسطينية


في أحد الأيام باع جحا، وهو شخصية فكاهية عربية، بيته. لقد حدّد سعرا منخفضا يكاد يكون مضحكا، ووضع شرطا صغيرا واحدا فقط: "في أحد الجدران هناك مسمار أنا متعلق به جدا، ولا أريد بيعه". وافق المشتري على ذلك. لماذا له أن يأبه لمسمار؟

بعد عدة أيام جاء جحا إلى البيت وعلّق معطفه على مسماره. بعد ذلك أحضر سريرا ونام إلى جانبه. "المسمار غالي عليّ، حتى أنه لا يمكنني أن أبتعد عنه في الليل"، قال جحا. بعد ذلك أحضر عائلته لزيارة المسمار وأقام هناك حفلة. في نهاية الأمر سئم صاحب البيت الجديد الأمر وقرّر شراء المسمار بثمن فاق ثمن البيت بأضعاف.



من الممكن أن ساسة إسرائيل لا يعرفون هذه القصة، ولكنهم يتصرّفون بموجبها.



بدأ الأمر في اتفاقية السلام مع مصر. وافقت إسرائيل على إخلاء سيناء كلها، ونشأت بين ميناحيم بيغن وأنور السادات علاقات حميمة. وعندها اكتُشف أمر المسمار: رفضت إسرائيل التخلي عن طابا، وهي ناحية صغيرة في خليج إيلات. تكدّر الجو وبدأت نقاشات مضنية، وكان هناك غضب كبير، وفي نهاية الأمر أقرّت لجنة تحكيم دولية ما كان معروفا منذ البداية: طابا تابعة لمصر وقد تمت إعادتها إلى أصحابها. أعداد كبيرة من المقامرين الإسرائيليين يسرحون ويمرحون هناك ويتركون فيها أموالا طائلة.

كرّرت هذه الحكاية نفسها عندما انسحبنا من لبنان. في البداية قررت الحكومة إبقاء مسمار كبير جدا تحت سيطرتها: "الحزام الأمني"، الذي أدى إلى حرب عصابات طويلة ودامية. في نهاية الأمر اضطررنا إلى الانسحاب من هناك أيضا - انسحاب كان أشبه بالهروب. ولكن في هذه المرة أيضا أبقينا بين يدينا مسمارا صغيرا: "مزارع شبعا". هذا الأمر يمنح حزب الله ذريعة لكي لا يلقي سلاحه، وبين الحين والآخر تسخن هذه الجبهة والأمر لم ينته بعد.

من يفضّل قصة بولندية بدل قصة عربية، يمكنه أن يروي قصة المرأة التي طلبت من طبيب الأسنان أن يقتلع كل أسنانها المصابة فيما عدا واحدة - لكي تذكرها الأخيرة كم كان ذلك مؤلما.



الآن انسحبنا من قطاع غزة. تخلّينا عن القطاع كله واقتلعنا كل المستوطنين من هناك، دمرنا كل المستوطنات. أبقينا مسمارا واحدا فقط في الجدار: الكنس.

لم تكن هذه المباني، لا سمح الله، مبان مقدّسة منذ آلاف السنين، آثار قيّمة وأمجاد مقدسة. كانت هذه في نهاية الأمر مباني تمت إقامتها منذ عدة سنوات، كانت تقام فيها الصلوات وتُعقد فيها الاجتماعات. اقترح الجيش تدميرها كما فعل بسائر المباني هناك وكذلك الأمر قررت الحكومة.

بعد انتهاء مهزلة "اقتلاع المستوطنين"، بعد أن ذرف المنتحب الأخير دموعه على قميص شرطي أمام كاميرات التلفزيون، بعد أن عانق الضابط الأخير، وفقا للأوامر التي تلقاها، البلطجي الوطني الأخير، تذكر حاخامو البلدات أن مباني الكنس هي مبانٍ مقدسة. لقد حوّلوا الله إلى سلاح سياسي، كما فعلوا سابقا عندما استخدموا الأطفال الرّضع.

وزراء الليكود، الذين لا يأبهون لمخافة الله بل يأبهون لمخافة مركز الليكود، بدّلوا بين ليلة وضحاها موقفهم وقرّروا أنه من غير الجائز هدم الكنس. بدّلت الحكومة موقفها هي أيضا في اللحظة الأخيرة، دون أي إشعار مسبق للزعامة الفلسطينية ودون أي حوار معها، وحتى دون أي إبلاغ إلى محكمة العدل العليا.

كان هذه نذالة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. لقد أبقت الفلسطينيين أمام خيار مستحيل: إما أن يخصّصوا آلاف الجنود للحفاظ على المباني الفارغة منذ الآن وإلى الأبد، وإما أن يتركوا الحشود الثائرة لتهدمها، بما يلائم رموز الاحتلال المكروه الذي حوّل حياتهم إلى جحيم.

من ناحية شارون، قد نجحت المناورة: لقد رأى العالم "حشودا فلسطينية محرّضة" تحرق الكنس، أشبه بـ "ليل بلور" مفبرك من صنع إسرائيل. استنكر الرئيس بوش "حرق الكنس". الرئيس موشيه كتساف غضب من المس بـ "مقدسات الأمة". أما الجمهور الإسرائيلي فقد تعزز لديه الاعتقاد بأن كل العرب متوحشين وبربريين وأنه لا يوجد مع من نتحدث.



لم يكن هذا هو المسمار الوحيد الذي تركه جحا الإسرائيلي في جدران غزة.



مسمار آخر كان هدم المعبر الحدودي في رفح. هذا أيضا جاء على حين غرة، دون إجراء أي حوار مسبق مع الفلسطينيين. ولكون حكومة إسرائيل تدّعي بأن احتلال القطاع قد انتهى وأنها معفية، منذ الآن، من المسئولية عن مليون ونصف المليون الساكنين فيها، هذا يعني أننا أغلقنا الحدود بين دولتين أجنبيتين: مصر وقطاع غزة.

من الواضح تماما أن هذا الحاجز لم يبقَ ولو للحظة. حدث ما حدث في حينه في برلين عند سقوط السور الذي فصل بين جزئي المدينة: أبناء العائلة الواحدة الذين لم يرَ أحدهما الآخر طيلة عشرات السنين أسرعوا إلى احتضان بعضهم البعض، وهُرعت الجموع إلى الجهة الأخرى لكي يشاهدوا، لكي يشتروا بأسعار رخيصة وليأخذوا انطباعا. ها هي إسرائيل تنتصر ثانية: لقد أثبت المصريون ضعفهم، وأثبت الفلسطينيون أنه لا يمكن الاعتماد عليهم وأثبتت الجموع أنها جموع مشاغبين.

لو تدخل المصريون مستخدمين العنف لكانوا سيبدون كأعداء الشعب الفلسطيني. لو أطلق أفراد الشرطة الفلسطينية النار على جماهيرهم لكانوا سيفقدون أي صلاحية أخلاقية. من الواضح تماما أن أي سور حديدي إسرائيلي لا يمكنه الفصل بين غزة وسيناء. يمكن ترتيب هذه الأمور بشكل أكثر منطقية.

هناك مسامير أخرى: ميناء غزة، الذي تحاول إسرائيل منع إقامته، والمطار الذي تعترض إسرائيل على تشغيله. كل ذلك بهدف منع "إدخال الأسلحة إلى غزة" – هذه ذريعة واهية تهدف إلى إبقاء القطاع معزولا عن العالم واستمرار الاحتلال بوسائل أخرى.



الآن، وبعد أن أصبح يبدو أن "الانفصال" قد انتهى، يمكن تلخيصه بشكل جازم: هذا العمل كله كان غبيا إلى أبعد الحدود.

لقد كان أحمقا لأنه كان من جانب واحد. لم يُتح إقامة تعاون حقيقي فيما عدا أدنى المستويات من وقف إطلاق النار أثناء الانسحاب. كان يمكن استغلال الانسحاب لبناء جسور نفسية وسياسية بين الشعبين. كان من الممكن الإثبات للشعب في غزة أنه من الأفضل له الآن أن يعيش معنا بسلام. كان لذلك أن يعزل التنظيمات المتطرفة وأن يساعد القيادة الفلسطينية وأن يعزز أمن البلدات الواقعة إلى جانب "التفافي غزة".

لو أنجزت كل هذه الأمور منذ البداية، من خلال التفاوض بين متساوين، لكان بالإمكان التوصل إلى اتفاقيات ملزمة حول ترتيبات العبور بين القطاع ومصر، مراقبة دولية على عدم إدخال الوسائل القتالية، مصير الكنس، المواصلات البحرية والجوية وغيرها. إلا أن شارون لم يرغب في محاورة الفلسطينيين لأن ذلك كان من شأنه، لا سمح الله، أن يشكل سابقة للمفاوضات على مستقبل الضفة الغربية.

عوضا عن ذلك تم تنفيذ كل شيء بجوّ من عدم الثقة والعدوانية. استمر الضباط والسياسيون الإسرائيليون - دون استثناء - في التحدث بأسلوب الحاكم العسكري واستخدموا لغة التهديدات والتكبّر. لقد أثبتوا من خلال تصرفاتهم أن الاحتلال لم ينته بالفعل، لا في غزة ولا في الضفة الغربية.



جحا العربي هو شخصية ماكرة. جحا الإسرائيلي هو مجرّد فظّ جلف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيل الشباب في ألمانيا -محبط وينزلق سياسيا نحو اليمين-| الأخب


.. الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى إخلائها وسط تهديد بهجوم ب




.. هل يمكن نشرُ قوات عربية أو دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة


.. -ماكرون السبب-.. روسيا تعلق على التدريبات النووية قرب أوكران




.. خلافات الصين وأوروبا.. ابتسامات ماكرون و جين بينغ لن تحجبها