الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأشياء الأخيرة

سمية أرواو

2015 / 3 / 18
الادب والفن


هناك أشياء كالموت تماما، تخطو بنا نحو اللاعودة..
كتبت تقول له:
" رطوبة المدينة تزيد من حدة اختناقي. المطر هنا وابل لا ينقطع، يحمل معه سيلا جارفا من الأسى يملؤني. الشتاء قارس، له لون رمادي قاتم، ضبابيته تلف كل الأشياء حتى تلك البعيدة المدى وتجعلها غير واضحة المعالم. موجات البرد تلسع أبعد نقطة في الهياكل السائرة على الرصيف. صار كل شيء جامدا، اتحدت الأطراف المتجمدة مع أبعد نقطة في الوجود. صارت الكائنات سالبة لا يصدر عنها أي رد فعل يحمل شيئا من الحياة والحماس الدافئ، أو على الأقل هذا ما بدا لي. البرودة تنخر أعماق الكون ونفحات من الفراغ البارد تتزاحم في أنف الكثيرين. مع كل هذا لا يملك المرء سوى الانتظار ومراقبة زمن الأشياء الأخيرة من وراء النافذة.
بذاكرة مثقلة أراقب البحر. صدى ما يصدح بداخلي. أنتشي سيجارة تُمرّر في مسالكي الرئوية. تذبحني. السيجارة والذاكرة كلاهما يحترق فيتبخر، وما بين الاحتراق والتبخر أشياء كثيرة تهوي على رصيف الروح المتعبة. كانت مزحتنا قاتلة بشكل مخيف.
الكثيرون، هنا، يراقبون البحر هم أيضا لساعات طوال. يضيق الجو كما يضيق أفق هذا الوطن، يرتدي لونا محاديا لا يستطيع معه المرء التنبؤ بما يأتي به. كل شيء ممكن ولاشيء متوقع، هكذا تبدو لي الأمور دائما... الأمواج تعلو في محاولة يائسة منها لمعانقة السماء ثم تخر شظايا متكسرة على الصخر. إنه المشهد المأساوي للوجود، مشهد يعرضه القدر يوميا على شاشة الحياة دون جدوى. تستمر الأعين اليائسة في مراقبة الكم الهائل من الأمواج المتكسرة، ومع كل موجة تتكسر أحلامنا على صخور الوطن الجائر. تسحق بين ثنايا تاريخ نمجده دون ان نصنعه. تتشوه بموروث محنط نباركه. لست أدري كيف قفزت إلى ذهني صورة بطل رواية (الشيخ والبحر) لإرنست همنغواي، ذلك الذي خاض الصراع وحيدا وسط عِتيّ البحر. إنها السمفونية العادلة للحياة، إذ على كل منا أن يتحرر من الآخر ويجابه حزنه السرمدي الازلي لوحده. ألهذا رحلت؟ "
كانت تكتب له بطريقة جنونية دون انقطاع. لكنه لم يقرأ أيّ من رسائلها وربما فعل لكنها عموما لم تتلقى ردا.
لم تنتظره فاستطردت:
"لا أدري كم مضى من الوقت على الانكسار وانغماسي في ذاكرتي الصدئة. كم مضى من الوقت على ولادتنا ناقصين مشوهين. كم مضى من الوقت على الألم.. الضياع.. الترقب.. والأمل الضائع. صرت خارج حدود الزمن الفلكي الميكانيكي، لا أدري كم مضى من الوقت عليّ هنا في هذا المكان، زمني نفسيّ تختلف إيقاعاته، ينتشلني من زمن إلى آخر.. من لحظة إلى أخرى. يبدأ فينتهي ليبدأ مرة أخرى، وما بين بداية وبداية توقف أرتطم معه بأحلامي أكسرها فتكسرني. كل ما أعلمه أنه ليس على أحدنا أن ينتظر شيئا من الآخر، نحيا وكفى. أنا أيضا أحيا فقط، لست سوى رقم في معادلة كونية فارغة.
يبتلعني ليل لا متناه، أغرق في بوهيميته. تراثيل المقطوعة اللاتينية الساحرة "كارمينا بورانا" تملأ ثخوم الروح المنكوبة... أرثل بدوري:
ـ والليل إذا يغشى.. والليل إذا يغشى...
تنتشلني الكمنجات السريعة في المقطوعة من ظلام الليل الحالك، فتقذفني على شواطئ حبك الجارف.أشتم رائحة عرق مضاجعاتنا المختلط بندى اليمّ البعيد... سرعان ما تتباطؤ لتعود بي إلى حالتي الأولى، يدوي الزمن بين الفراغ والعدمية. سيزيفية وشقاء أبديّ لا يمكنك أن تعيه دون أن تحياه.. إنها اللعنة.. قالها اللعين بوكوفسكي "لا تحاول"..
لست أدري لما أحكي لك كل هذا، على أي أحتاج لمراسلتك وكفى. أقتل الزمن المتآكل بداخلي ببضع كلمات على الورق..أرمم الخراب.. عزائي الوحيد هو ما أخطه لك يوميا من كلمات. ربما تقرأ ما أكتب بانتظام كعادتك وربما تخلٌّفت عن عاداتك وما عدت تهتم لكل هذه الأحاديث. ما عاد مهما بالنسبة لي أيضا أن تقرأ هذا الكم من الكتابات التي أرسلها لك يوميا.. نعم كتبت حتى التخمة كي أعاند صمتك الذي ينهشني بعمق، وفقط."
بعد رسائل عديدة، أرسلت بعضها وسكتت عن البعض الآخر. يخرج من شرنقة صمته لتجد ردا مقتضبا مذيّلا بأغنية للرائعة جوليا بطرس "يوما ما..". يقول:
" رسائلك تنحر رجولتي. لا أملك ردا على كل ما كتب وسيكتب، لا أدري بدوري لما تحدوني الرغبة الآن للرد.. أشعر أن شيئا بداخلي يتداعى كبنيان قديم أنهكه الزمن..شيء ما تكسر بعد أن سقط من عِلِيٍّ.. أُجابهُ رجولتي الشرقية كي أستطيع إيقاف هذا السيل الذي يجرفني..كي أحتضن ثورتك وسط هذا السكون المميت.. ما عدت أنا أنا، ولا الأشياء هي الأشياء، ولا أنتِ هي أنتِ.. وهل من الضروري أن نستمر كما بدأنا؟ ألا يجب علينا أن نتحرر من بعضنا البعض؟ ألاّ نبقى عاجزين يائسين؟ ألم تكن هذه آخر الأشياء التي دارت بذهنك وأطلعتني عليها؟
الآن .. أحبك ولكن.. يوما ما.."
كانت تلك رسالة وحيدة تلاها صمت عنيد..
كتبت تقول له:
" الكتاب الذي أتصفحه يحمل في آخره آخر كلماتك، مقطع شعري كتبته لي. بل لتلك التي أحببت فيّ.. مقطع أخير تلاه صمت عنيد حكم عليّ بالحزن المؤبد.. مقطع يفوح برائحة آخر لقاءاتنا.. كلما ابتعدنا عن الماضي، كلما صارت الحقائق مشوهة ضبابية نعجز عن تقصّيها. ذاكرتي صدئة مثقلة متعبة بأشياء عديدة، كلما مرّ الوقت أجدني أكابد لأستجمع صور الماضي المتلاشي فيها.. أشياء تتبخر كالسراب وتتلاشى، لكنها في الآن نفسه تُحتقن داخل خلاياي لا أستطيع التخلص من ألمها وأرقها المستمرين.. تفجر براكين من اللّهب الحارق بداخلي.
رغم كل هذا الألم في تجميع صور الماضي. مازالت شفتاك تطبقان على شفتيّ بعنف تمتزج فيه الرغبة الشبقية بالألم.. مازلت أتغذى من ريقك الحلو الذي يسمِّمُني.. مازالت نهداي تعتصران رائحة حبك..تشُدُّ على خسري بقوة..أدنو.. ألتصق بك، فنحترق معا.. مازالت تقاسيم جسدي تسيل عرقا من حرارة لمسات جسدك.. سكرات الجنس الأخيرة .. آخر الحب الضائع كأشياء هذا الوطن..
يأسنا المختمر على مدى قرون مازال يُخاتلنا.. يقتل الأمل فينا.. كنا انتكاسة كونية كبرى. ولدنا مشوهين ناقصين تملؤنا الإختلالات والعقد حتى التخوم. عاجزين عن التعبير واتخاذ القرارات الفردية.. ذهنية القطيع تحتوينا فتخمد ثورتنا.. الموروث يتصلب بداخلنا، يتراكم حتى يفجرنا أشلاء تتطاير في اتجاهات مختلفة ومتعاكسة.. بين ما نريد وما نفعل أشياء تتهاوى وتضيع منا دون نعي كيف حدث ذلك. لا التاريخ أسعفنا ولا الوطن احتضن التشرذم الذي بداخلنا.. علينا أن نتوقف عن تفريغ يأسنا وبؤسنا في بعضنا البعض.. كل شيء جيد حين ينتهي بشكل جيد، إذ علينا أن نملك الشجاعة الكافية لننهي الأمور حيث يجب علينا فعل ذلك.
ما خنتك ولكن .. خاننا الزمن والأمل والتاريخ والوطن والحب.. لا نملك شيئا سوى مراقبة أشيائنا الأخيرة تنساب في داخلنا، مخلفة جروحا تنزف دما وألما وضياعا.
هذه آخر الرسائل.. آخر السكرات.. آخر الحب.. إنها الأشياء الأخيرة."









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الغناء في الأفراح.. حلال على الحوثيين.. حرام على ا


.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب




.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ


.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش




.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا