الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصنع

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2015 / 3 / 19
الادب والفن


المصنــــع

تسللت أشعة الشمس إلى البيوت الطينية.فتحركت أجساد كثيرة للذهاب إلى العمل.في الصباح ساد الصمت إلا من نباح كلب أو ثغاء شاة وحيدة.استيقظ سعيد وانتشل نفسه من الفراش مكرهاً وخرج إلى فناء الدار ينعم بأصوات العصافير ونسائم الربيع.تقدم من وعاء الماء ولطم وجهه بضع مرات فتناثرت حبيبات الماء حوله، حدق في المرآة ومرر يده على لحيته السوداء المدببة بأناقة فهاله رؤية شعيرات من الشيب فيها.قرع الباب ودخل رجل متوسط العمر غليظ الجثة،صاح وهو يعرج باتجاه سعيد:ـصباح الخير..هل أنت جاهز للذهاب إلى المصنع؟رد سعيد التحية ودس رغيف خبز في معطفه واتجه الاثنان تاركين زقزقات الباب الخشبي وراءهم.في خطواتهم الرتيبة ترامت أصداء الأحذية التي كانت تتلاشى عبر الشارع الترابي.
يقبع المصنع في منحدر الطريق العام المؤدي إلى المدينة وقد أطلق العمال عليه اسم(المقصلة)لأنه لا يمر يوماً إلا ويقع فيه حادث مع أحد العمال يودي به إلى المستشفى فتبقى عائلته جائعة طوال مكوثه هناك،في أول الأمر كان العمال يشكلون جمعية صغيرة لمساعدة عائلة المصاب إلا أن كثرة الإصابات قد جعلت الأمر صعباً طالما أن الإدارة وصاحب العمل غير مكترثين لأوضاع العمال،مما حدى بالأكثرية لأن يبحثوا عن حلول لهذه المعضلة فقرروا أن يكون لهم نقابة تدافع عن حقوقهم وتزعم هذا التيار سعيد وأخذت الإدارة تضايقه وتحاول الإيقاع به وطرده،ونجحت مرة باتهامه بتعطيل مكنة غزل الخيوط،إلا أن إضراب عمال الصيانة الذين تعاطفوا معه،جعل الإدارة تعدل عن قرارها وترجعه للعمل.فرجع رافع الرأس وزعيماً بارزاً في قيادة الإضرابات.
حك أبو محمود الأعرج رأسه الذي اعتلته صلعة مستديرة كأنه يريد أن يكسر الصمت السائد:
ـ هل تظن أن النقابة ستتشكل في مصنعنا؟
- حتماً
- وما الذي يجعلك واثقاً إلى هذا الحد!
- لأن الوقت في صالح العمال،وليس لصاحب العمل إلا الرضوخ لمتطلباتنا.
- صمت أبو محمود وكأن الجواب لم يطب له،فأردف قائلاً:
أظن أن الأستاذ هشام يخبئ لكم شيئاً!
- لماذا لنا،وأنت ألست عامل مثلنا ومصيرك من مصيرنا!
- أرجوك يا سعيد..عندي أولاد وهم بحاجة إليَّ .

رمقه سعيد باستهتار ثم أشاح وجهه نحو الشجيرات المتسلقات على الهضبة في تمرد وعاد يتكلم بحنق أكثر مكوراً يده في هذه المرة :
- لا شيء يوقف التاريخ،لا أحد يستطيع أن يكسر ظهر تضامن العمال.
التزم أبو محمود الصمت حتى وصلا إلى المصنع،دخلا إلى البهو ثم افترقا كل إلى قسمه.مشى سعيد خلال الأروقة الممتدة بعيداً ووصل إلى قسم الخيوط فوجد زينب ماثلة أمامه وكأنها تنتظره،ابتسمت من تحت وشاحها الأسود الرقيق الذي تلثمت به فلم يظهر إلا بريق عينين سوداوين تطل منهما حياة مليئة بربيع فاتن.رفعت يدها ذات الأصابع الجميلة مرحبة بسعيد.رد التحية وتابع طريقه،إلا أنها استوقفته وهي تدعوه للغداء معها في فترة الاستراحة.رد عليها بالشكر بدون مبالاة متابعاً خطواته نحو عمله.
وما إن وصل إلى مكنته حتى أدار المفتاح وخرج صوت المكنة مزمجراً مضيفاً ضجة أخرى مع المكنات المجاورة.وانشغل في تركيز انتباهه على حركة الأنسجة التي تحيكها المكنة الضخمة،وفجأة خرجت بعض الخيوط المتقطعة مما أجبره على إيقاف المكنة،واقتلع لفافة الخيوط واتجه نحو فاطمة المختصة في تنظيم وفرز الخيوط،فأسرعت واستقبلته بحفاوة،لكنه أخبرها عن الخيوط المتقطعة، فردت عليه بصوت يملؤه الغنج والدلال:
- مكنتك التي قطعت الخيوط يا روحي.
التزم الصمت حابساً حنقه ورجع أدراجه إلى عمله يصلح ما أفسدت فاطمة من الخيوط .وقبل فترة الغداء بقليل سمع شجاراً ينبعث من القسم الذي فيه زينب،ورأى بعض العمال يتراكضون إلى المكان،فهم مسرعاً يستطلع الخبر ، فوجد البدوية زينب ورفيقاتها ينهلن على عباس عامل الصيانة بالضرب المبرح ، فبما هو يترنح ثملا محاولا إمساك زينب وتقبيلها ، أمسك سعيد بذراع عباس وقاده خارج حلبة الشجار ولوح له بسبابته بأن يهدأ ، لم يسمع أي من المتجمعين كلام سعيد لضجة المحركات لكن بوادر التقريع كانت واضحة على وجهه، ثم مشى به إلى غرفة الاستراحة وأقعده على إحدى المقاعد ذات الألواح الخشبية الطويلة التي صنعت خصيصا لعدد كبير من العمال . لم يقاوم عباس بل ظل هادئا كالعنزة المتعبة ، لكنه فاجأ الشباب من حوله عندما تفوه بكلمات تشوبها رائحة خمر قوية:
- قلت لها أني أحبها،فلم تكترث،حاولت تقبيلها للبرهنة فقط.قاطعه ضجيج قهقهات العمال من حوله وتبعه تعليق أحدهم:
أترك البدوية زينب..لها عشيرة كبيرة.
فجأة ظهر رجل يرتدي بدلة أنيقة ونظارة سوداء،أشار بيده إلى عباس غاضباً:
- أنت مطرود.والتفت مغادراً.حاول سعيد إيقافه إلا أنه أمر بعدم التدخل في أمور لا تعني سوى الإدارة.ترامت أصداء صفارة استراحة الغداء ، تحلق العمال على طاولات خشبية مستطيلة وأخذ كل منهم يفرغ صرته أمامه أحضر سعيد صحنا من المطعم المخصص للعمال ، كان فيه تشكيلة من المقالي ثم أخرج رغيفه وشرع في التهام غدائه . شعر بالألم لما حدث لعباس ، فرغم أنه أحمق ومخمور دائما ، لكن باستطاعة المدير أن يعطيه إنذارا أو فرصة على الأقل . جلست قبالته فتاة ملثمة ، رفع رأسه فرأى بريق عينين سوداوين واسعتين فيهما وهج أنوثة لاهبة، بادرته :
- لقد تمادى علي ذلك قليل الأصل، لكن أشعر بالذنب لأني كنت سببا في طرده.
- أظن أنه سيتعلم يوماً ما في هذا الطريق الوعر.أخبرته عن
أهلها وعن مكان مضاربهم ومتى سيرحلون عن هذه المنطقة متجهين نحو صحراء تدمر.
سألها عن سر تعلقها بالصحراء،مع العلم أن الصحراء جافة،بخيلة ومحرقة.توقفت لحظة عن الطعام ونظرت في عينيه بذكاء وكأنها أمام رجل يجهل الجمال الحقيقي، وساد صمت لبرهة قصيرة كسرته زينب بكلمات عذبة خرجت من ثغرها الفاتن:
- لا يعرف سر الصحراء إلا من عشق الصحراء،إلا من عشق الحرية،إلا من كره القيود.
- أظن أننا نحن في المدينة نجهل سر الصحراء،إلا أني دائماً أن الصحراء تعلم الحكمة والصبر والتجلد على القدر.
- أنت مختلف عن بقية العمال هنا،ولك طباع راقية تعجب بها فتاة الصحراء.
في نهاية الاستراحة ودعته ثم مضت إلى قسمها تتمايل كغزالة شاردة.وقف بجانب سعيد بضع عمال تناقشوا معه في أمر زيادة الأجور وتحسين وضع العمل ثم غادر كل منهم إلى قسمه.
وما إن بدأ سعيد في تشغيل المكنة حتى هرع إليه شاب يخبره أن أحد العمال قد صعق بتيار كهربائي نتيجة إهمال الإدارة بضبط الأشرطة الكهربائية.التم العمال حول المكان،نقلوه إلى المستشفى،تجمعوا خارج المصنع،كانت وجوههم واجمة غاضبة وضجيجهم قد ارتفع عاليا.برز المدير ببدلته الأنيقة وقد أثاره تجمعهم على هذا الحال، فأمرهم بالرجوع إلى عملهم مهددا بالطرد،رجع قسم ضئيل،لكن الأغلبية بقيت متمردة.
مشى سعيد بضع خطوات إلى الأمام ثم أشار بيده للعمال بأن يهدؤوا لأنه يبغي الكلام مع المدير:
- نحن لن نرجع حتى يكون لنا نقابة تمثلنا.
- ستندمون جميعا..أنتم فعلا أغبياء.غادر المكان،ولم يمضي من الوقت قليل حتى أخذت سيارات الشرطة تفرغ من عناصرها.اشتد العنف ما بين العمال والشرطة ،وبدأت معركة طاحنة وقع أثرها العديد من العمال ورجال الشرطة.
وبعد المعركة بحثت زينب عن سعيد فلم تجده،هرعت تمسك عاملا وتترك آخر وتسألهم عنه،حتى عرفت بأنه في المستشفى وانه أصيب بجروح بسيطة.استعدت وذهبت إليه.
عندما دخلت الغرفة وجدته نائما، فتركته وجلست جانبا تنتظره حتى يستيقظ.تحركت يداه ورأسه وفتح عينيه ليرى ملاكا جميلا يجلس بقربه ،خيل له انه يسبح في حلم لطيف فلم يجرؤ على تصديق عينيه.لم تدع زينب للشك مكاناً فحركت شفتين رقيقتين برفق هائل:
- الحمد لله على السلامة يا سعيد.
- أهلاً يا زينب،الله يسلمك،ما هذه الصدفة.
وتعانقت الكلمات وتخللها الغزل الناعم،وسألها عن المصنع وعن الإدارة،فردت بأن الإدارة قد وافقت أخيراً على النقابة.فابتسم كرجل خاض حرباً رابحة.أمسك بيد زينب وكأنه يناجي نفسه:
ـ أخذتنا عشر سنوات من الجهد،وأخيراً حققنا أول أهدافنا في تشكيل النقابة.قاطعته بهدوء وهي تنظر إليه مستغرقة:
- الآن أصبحت أدرك وزن كلماتك عندما كنت تقول الإدارة للعمال.فقال وهو ينظر باتجاه النافذة وصوته يمتلئ بالإرادة:
- النقابة ليست آخر الطريق بل أوله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجنازات في بيرو كأنها عرس... رقص وموسيقى وأجواء مليئة بالفر


.. إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا




.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا


.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو




.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا