الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفاوض والتربية

مارينا موسى رزق

2015 / 3 / 19
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية



عيادة علاقة الأهل بالأبناء
عيادة يشارك فيها طبيب نفسي للكبار وطبيب نفسي للأطفال ومراقب مسجّل، تعمل بالتوازي مع العلاج الفردي للأهل والأبناء مرتكزةً على نظرية "الارتباط وطلب العون"
Attachment theory

الضغط الذي يتعرض له الأهل في مواجهة طلبات الطفل قد يكون شديداً جداً.
هذا الضغط هو نتيجة مباشرة للضغط الذي يتعرض له الطفل من مجتمعه المباشر، الذي يتكون من باقي الأطفال ممن يعرف. وبالتالي يجد الأهل أنفسهم أمام ضغط أقران الطفل سناً وقُرباً، وهؤلاء بدورهم هم تحت ضغط الإعلانات والقوى التجارية التي تسوّق لهذا أو ذاك من بضائع أو شخصيات تلفزيونية أو قيم محددة.....
مثلاً طفل بعمر الخامسة يطلب من أمه شراء بلوزة من علامة تجارية معينة دون سواها، إذ يرتدي رفاقه نفس العلامة.
أو طفل بعمر تسع سنوات يريد هاتفاً محمولاً، فكلّ زملاء الصف يحملون هواتف إلاه.
أو فتاة بعمر 12 سنة تطالب بصفحة على فيسبوك.
حضور أعياد ميلاد، خروج مع أصدقاء في أوقات مسائية، مشاهدة مسلسلات معينة....
طلبات الأطفال عديدة.... متنوعة ومتشابهة أيضاً..
وحال الأهل أمام هذا الضغط اليومي تشبه حالة صديقة عزيزة قالت لي قبل سنين : نجد أنفسنا فرادى أمام هذا الضغط. تأتي ابنتي فتقول لي : أهل فلانة وفلانة يسمحون بكذا وكذا... وأجد نفسي وحيدة تجاه هذا كلّه.

انزعاج الأهل من هذا كلّه موجود ومبرّر لكن لا يجب تجاهل انزعاج الطفل وإحساسه بالظلم "اشتريتم نفس الشيء لأختي" "كلّ أولاد الصف لديهم هذه الحقيبة"، أو بعدم المحبة "لو كنتم تحبونني لما تجاهلتم طلباتي"، أو النقص بمقارنة ذاته مع الباقين.

هذه المعادلة الصعبة التي تواجه الأهل تتطلب حلاً يومياً، ولا يمكن ترك الأمور تتراكم ... وبالملاحظة نجدُ أنواعاً متباينةً من ردود فعل الأهل.
فقد يرضخ الأهل فيسايرون طلبا ت الطفل حتى أقصى الحدود، إما عن تعب أو عن اقتناع بأن الطفل ينتمي لجيل مختلف عن جيل الأهل، ولابدّ من أن يستجيبوا إيجاباً لمتطلبات هذا الجيل وأعرافه وأفكاره.. إذ أنه سيعيش مع أترابه طفلاً ويافعاً وناضجاً فلا بأس أن يكون مشابهاً بكليته لهم.
أو أن يعارض الأهل تماماً كلّ ما يأتي من الخارج فيقفونَ موقف المراقبة والشك والهجوم على كلّ علامات الجيل الخارجة عن سيطرتهم، فيحاولون حماية الطفل منها بشتّى الوسائل.
وبين هذين الموقفين نجدُ أشكالاٍ متعددة لردود قد تتناقض بين يومٍ وآخر، فيقبلون اليوم ما قد رفضوه البارحة... وبين والدي الطفل في نفس المنزل، فيقبل الأب بينما ترفض الأم أو العكس....

لا يوجد (على ما يبدو لي) حلٌ جاهزٌ لهذه المعادلة مهما حاولنا تبسيطها لكن يخطر في بالي بعض الأفكار التي يمكن لها أن تساعد الأهل في اتخاذ قراراتهم بهذا الشأن. خصوصاً أن قناعتي الثابتة في هذا الشأن أن على الوالدين تحديد قواعد واضحة لسلوك الطفل تشمل المسموح والممنوع، وعليهما، كليهما، احترام هذه القواعد... قبل الطفل.

1*أول هذه الأفكار يتعلق بالأهل أنفسهم وبردة فعل كلّ منهم على ما يراه. أي أن تكون هناك نظرة موضوعية جادة من قبل كلّ والد لذاته، فيفحص رأيه في كلّ قضية ويحاول أن يفهم دافعه الذاتي لقبول أو رفض أي موضوع. من المفيد في هذا الصدد أن يسأل واحدنا نفسه: لماذا يخيفني هذا الموضوع أو ذاك؟ هل يذكرني بشيء معين كنت أخافه؟ هل لديّ فكرة مسبقة عن هذا الموضوع منحازة لسببٍ أو آخر؟
وبالتالي ماذا يمكن أن يندرج من مخاوفي هذه تحت باب المعقول، وماذا يندرج منها تحت باب المُبالغ به !

2*الأهل كفريق "والدي" وليس فقط كفريق "زوجي"
الأبوان هم فريق عمل متماسك في مواجهة الأطفال حتى لو كانا غير متفقين كزوجين. يضعان قواعد الحياة للمنزل سويةً ويتمسكان بها حتى لو انفصلا.

3*التراتبية العائلية
ليس موقع الطفل في العائلة هو نفس موقع الأهل فلا يقف منهم على قدم المساواة، وكلما أسرعنا في وضع الطفل في مكانه كطفل، خفّت الضغوط والمشاحنات العائلية.

4*نصل إلى الفكرة المحورية لهذا النصّ وهي: ماهوهدف التربية الرئيسي؟
وهذه نقطة يكمن فيها جوهر الخلاف. خصوصاً أنها فكرة لا يصرّح بها الانسان حتى لنفسه إذ يجهلها غالباً، وكنّا نصل إلى معرفتها من خلال العمل الجاد مع الأهل بعد جلسات طويلة في العيادة عادةً.
فقد يكون هدف التربية بالنسبة لي كوالد هو خلق كائنات مشابهة لصورتي، تظل ملتصقةً بي لأنها عاجزة عن شق طريقها وحدها.
أو قد يكون هذا الهدف هو أن يبقى أبنائي بقربي لأني أحتاجهم بشدة.
لكن الحقيقة التي تختبئ وراء هذا كلّه هي أننا نحضّر أبناءنا كي يعيشوا زمناً لا نعرفه... زمناً لا يخصنا... اسمه المستقبل...
"لأن أرواحهم تسكن في مسكن الغد"...
نحن نحضّرهم لهذا الغد الذي لا يخصنا بل يخصهم ... وسيواجهونه وحدهم.. فعلينا تزويدهم بما يلزم، وأول الزاد هو "الاستقلالية" اي القدرة على التصرف بما يجب دون الرجوع لأهلهم.
ومن أحد أدوات هذه الاستقلالية (غير العلم والمعرفة والقدرة على العمل والقدرة المادية...) هي القدرة على التفاوض.
دون التفاوض يغدو العيش مع الآخرين مستحيلاً، وليس التفاوض حِكراً على الدول أو كبار الشركات أو أصحاب رؤوس الأموال... التفاوض هو عمل صحي يقوم به الانسان يومياً كي يستطيع الاستفادة من وضعٍ بعينه، سامحاً (في الوقت نفسه) للآخر مقابله أن يستفيد.
القدرة على التفاوض خاصة إنسانية ضرورية يبدأ التدرب عليها منذ الصغر.
ومثل غيره من خصال الانسان .. يتعلم الطفل التفاوض بالمثال الصالح...
يتعلمه بمراقبة الأبوين وببمارسة التفاوض معهما في جوّ صحي منفتح... يتعلم أن يسمع ما يقوله الآخر قبل أن يضع أوراقه على الطاولة، ويعرف ماذا يريد الآخر فيحسن إعطاءه ما يريد ليأخذ هو ما يريد أيضاً.
العائلة التي لايُقبل فيها التفاوض هي عائلة ضيقة... حدودها قاسية وصلبة لا تسمح لأفرادها بالنمو.

حتى في الأمور التي تبدو مستحيلة القبول بالنسبة للأهل يمكن أن نسمح فيها للطفل بالتفاوض، ولا نخشى عليه من كلمة "لا" لأن التفاوض خارج المنزل يمكن أن يحمل له القبول أو الرفض ومن الضروري أن يتدرب على نوعي الرد.
نسعى في عيادة علاقة الأهل والأبناء لتمرين الطفل وأبويه على مهارات التفاوض، وكلما رافقنا الطرفين في هذا التمرين ازدادت سهولة العلاقة ونقصت حالات الأزمة. طبعاً يسبق هذا التمرين تمارين عديدة على طريقة طلب العون (وهذا هو لبّ النظرية العلمية التي ترتكز عليها هذه العيادة).
يحضرني هنا مثال إيفا وهي فتاة في الخامسة عشر لديها حالة اكتئاب حاد ورهاب مدرسي، تعكس حالة عائلية مقلقلة ومحزنة منذ طفولتها الباكرة.
بعد فترة استشفاء طويلة وحالات أزمة متعددة، وصلنا حالياً لتمرين التفاوض. منذ أسبوع طلبت إيفا من والديها كلباً. الأبوان يكرهان الكلاب ولديهما مبالغة في موضوع النظافة المنزلية ولا يمكن أن يحتملا وجود حيوان في المنزل فرفضا وعاد الحال إلى الخلاف بين إيفا ووالديها، والتهديد بالانتحار. كان واضحاً عدم قدرتها على المناقشة معهما، فالمناقشات في هذه العائلة تخفي الخلاف ولاتظهره... أو تذهب إلى أبعد الجهات في رفض الآخر وأفكاره حتى القسوة الكاملة والعنف الظاهر والمستتر.
رغم ذلك ورغم صلابة رفض الجهتين وعدم قابليتهما للتفاوض، طلبت من إيفا أن تحضّر قائمة تذكر فيها أشياء يمكن أن تسرّ والديها إذا فعلتها هي. بصعوبة، حضّرنا القائمة التي ضمت أفكاراً مثل : تنظيف غرفتها مرة في الأسبوع لمدة شهر، الدراسة لمدة ساعة كل مساء (غيرنا دوامها المدرسي إلى دوام صباحي وألغينا الامتحانات والوظائف المنزلية)، مساعدة أخيها الصغير في دروسه يومياً، تنظيف سيارة الأب أو الأم مرة في الشهر، شراء الخبز يومياً، تحضير مائدة العشاء يومياً.....
وضعنا الأفكار بالترتيب وكان على إيفا عرض لائحتها على أبويها بالتدريج .. أي أن تعرض فكرة ما ثم تتفاوض مع الوالدين حتى يقبلا شراء الكلب مقابلها.
استمر التفاوض أياماً طويلة ... حتى وصلَتْ إيفا إلى حلّ مناسب مع الوالدين ... حلّ لم يكن واضحاً في البداية فقد أصرّا على عدم شراء الكلب لكنهما قبلا اصطحاب إيفا إلى ملجأالحيوانات الضالّة مرة في الأسبوع كي تساهم في العناية بالحيوانات هناك وخصوصاً الكلاب.

لم يَفُت الأوان بعد بالنسبة لإيفا وأهلها، ولعائلاتٍ كثيرةٍ وجدت طريقها إلى عيادتنا...إذ يمكن تعليم التفاوض للأطفال مادام الأهل يتقبلون ويسمحون بفتح باب تكفي سعته كي يرى الطفل العالم في رحابته، بدل ألا يرى حوله إلا الطرق المسدودة.
البدءُ الباكر أفضل في كلّ الحالات، وبفضله يفهم الطفل أن للصلابةِ وقتاً وللمرونةِ وقتٌ آخر... وأنّ على عينه أن تتعلم التفريق بين الحالتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو