الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما نامت أمي

مصطفى مجدي الجمال

2015 / 3 / 20
سيرة ذاتية


عندما نامت أمي

هذه السطور أختزنها منذ أكثر من 25 عامًا.. وهي مليئة بالشوق والضعف الإنساني والحب العارم للإنسانة الجميلة التي أنجبتني.. لكنها سطور مشوبة بشعور حارق بالذنب الذي لم أقترفه..

كانت أمي رحمها الله المولودة في العقد الثاني من القرن العشرين ذات نصيب وافر من الجمال (وأرجو ألا يسألني أحد لِمَ أنا هكذا!!)، ومن الغريب وقتها أن تقدِم أسرة من البرجوازية المتوسطة على تسمية ابنتها باسم مثل "كاميليا".. وفوق جمالها كانت ذات روح مرحة نادرة حتى أنها كانت بهجة كل اللقاءات والمناسبات.. كانت تحب الحياة والمسرة، حتى أنها باعت الأرض الزراعية التي ورثتها كي تساعد أبي في بناء "عشة" (فيلا) في رأس البر..

مع ذلك كانت حازمة جدًا، لأنها تزوجت من رجل متدين تدينًا جوهريًا ومن النوع الذي يتمتم بالقرآن طول يومه، ولا يزيد محصول حديثه اليومي عن بضع جمل.. كان أبي معروفًا في عمله بالكفاءة والنظافة والاستقامة وحسن الخلق.. وظلت سمعته واسمه معروفين في دمياط (حيث كان مدير أعمال شبكات المياه) لسنوات طويلة بعد تقاعده.

كان حزم الاثنين واجبًا مع إنجابهم خمسة أبناء، فقد بخل الزمان على الاثنين بأي أنثى.. ورغم اتساع مساحة الشقة التي نسكنها فلك أن تتخيل ماذا يعني أن يتجمع هذا العدد من الأولاد متقاربي العمر في حيز يضيق مهما اتسع.. وقد أثمرت تربيتهما عن باقة رائعة من إخوتي الأربعة المحبوبين من الجميع..

توفي أبي رحمه الله قبل أحداث يناير 1977 بقليل.. ولم أعرف بخبر وفاته إلا بعد أسبوع حيث كنت طالبًا بكلية ضباط الاحتياط في إسنا.. ولم تستجب إدارة الكلية للتلغرافات التي أرسلها إخوتي وظنوا أنها محاولة لاقتناص إجازة.. وحينما أدركوا خطأهم أشفقوا من إبلاغي بالخبر، وقالوا لي: إن والدك مريض، وسمحنا لك بإجازة خاصة..

لا أنسى نظرات أمي المشفقة عليّ حينما رأتني أصعد الدرج.. ومن ثوبها الأسود أدركت كل شيء.. والغريب أن الدموع لم تطفر من عيني لساعات طويلة حتى وقفت أمام قبر أبي أقرأ له الفاتحة..

بوفاة أبي بدأت حالة أمي النفسية تتدهور، فكانت بدايات زهايمر على استحياء وعلى فترات، والعجيب أنها كانت تتعامل مع حالتها بروح مرحة، وكان لهذا دعابات وطرائف لا حد لها.. وإن كان الحزن يشق صدري أحيانًا على ما آل إليه حال أمي المرحة الجميلة..

بالطبع كنت أنا أكبر عبء على هذه الأسرة الجميلة الناجحة، فرغم أن إخوتي جميعًا كانت لديهم ميول يسارية وتقدمية، إلا أنني كنت من غرق بالكامل في العمل السياسي السري الذي أصبح مضمون ومعنى حياتي كلها.. كنت إذا سافرت أضع لأمي ورقة في الصباح أنني سافرت وربما أبيت في القاهرة حتى لا تنتظرني في المساء.. وكلما خرجت كانت تسألني: "خارج رايح فين".. فأرد بذات الإجابة (حتى لو كنا في السابعة صباحًا): "رايح السيما".. ولم تمل أبدًا من السؤال، ولم أبتكر أبدًا غير هذه الإجابة الساخرة..

هكذا كنت أعيش فيما أسميه "المدينة الجامعية".. لا أنفق مليمًا واحدًا في البيت، وأضف إلى ذلك حرية كاملة في السفر واستضافة الرفاق والأصدقاء.. وكانت تبدي استغرابًا لأن بعض زواري كانوا من كبار السن وبعضهم كان يأتي إليّ وهم مرتدين الجلاليب.. بل إن بعضهم كان يسأل عني باسمي الحركي، فكانت تقول لي "فيه واحد برة بيسأل عليك بالسيم!!"

في منتصف الثمانينيات بدأت أمي تخشي من الاستمرار في الإقامة بمنزلنا القديم في المنصورة وأصرت على "العزال" (الغريب أن هذا البيت مازال صامدًا حتى اليوم) وبالفعل انتقلنا إلى شقة أصغر على بعد 500 متر.. وسارت الحياة على ذات المنوال.. حتى جاء اليوم الكئيب في 12 أبريل 1989 الموافق السادس من رمضان..

كانت أمي نائمة.. وأخي الأصغر يشاهد التلفزيون.. وأنا أعد طعام السحور.. كنت أفكر في سبب المراقبة البوليسية اللصيقة التي تعرضت لها في اليومين الماضيين.. وأيضًا أفكر في تفصيلات عملية توزيع المنشور المرسل من القاهرة، وكيف يمكن تفادي كارثة سابقة حيث قبض على بعض رفاقي بسبب إهمال أو خيانة من زملاء في القاهرة..

في الواحدة والنصف صباحًا دق جرس الباب، وفتح أخي الباب لأسمع همهمة فذهبت لأرى وجهًا مألوفًا يدخل مبتسمًا.. وتلقائيًا وجدت نفسي أرحب بالزائر وصافحته، وبهت هو، فقد تصورته أحد أصدقائي الذي لم أذكر اسمه لحظتها (ولم أفكر حينها كيف يمكن أن يأتي صديق في وقت هكذا)..

المهم أنه سرعان ما أصبح داخل شقتنا الصغيرة المكدسة بالأثاث ضابطان من أمن الدولة يرتديان الزي المدني وضابط من قسم الشرطة ومجموعة من المخبرين وصول ضخم الجثة يرتدي الزي الميري.. بدأت عملية التفتيش بهدوء أول الأمر، وبدا لي أنهم واثقون من العثور على مبتغاهم (منشورات أو مطبوعات سرية).. بمرور الوقت ازدادت عصبيتهم.. وكنت حريصًا على متابعة التفتيش بدقة حتى لا يدسوا عليّ شيئًا..

لم يكن في البيت أي وثائق أو أشياء تدينني سوى بعض أوراق خطيرة جدًا.. وهذا سر أعترف به للمرة الأولى.. كنت أخفيتها في مكان خفي بجسم الثلاجة وكنت أفصل التيار الكهربائي حين أخرجها.. وتأكدت أنهم لم يصلوا إليها، وظللت حريصًا طوال الليلة الطويلة ألا أنظر للثلاجة مطلقًا..

المهم أن الميول العدوانية تزايدت عند الصول العملاق فأخذ يفتش بعنف وحقد، ولما أبديت اعتراضي اضطر الضابط الأكبر لتنبيهه.. كان أخي واقفًا بلا حراك.. أما أمي فكانت نائمة ولم تستيقظ قط ليلتها رغم أن العادي منها الاستيقاظ ثلاث أو أربع مرات في الليلة..

جدير بالذكر أن الضابط الأصغر كانت له علاقة عن طريق أصدقاء المقهى مع أخي.. وظل طوال التفتيش خافضًا رأسه إلى الأرض، ولم ينظر إلى عيني قط.. وظل منشغلاً بلغز لم يفهمه.. ألا وهو كيس النقود المعدنية الذي يوجد به كم هائل من العملات الصغيرة، فقد تعودت- ومازلت- أن أضع فيه كل يوم الفكة التي تتبقى معي، على سبيل الادخار وربما المزاح مع نفسي.. وكان سؤاله الوحيد لي: "ايه ده".. فقلت له: "فلوس".

كان المشهد عجيبًا.. الدنيا مقلوبة في الشقة.. حتى همهمة الجيران ازدادت.. بينما أمي نائمة ومغطاة في سريرها، وباب الغرفة مفتوح.. أراد الله العلي القدير لها ألا تستيقظ على هذا الموقف العبثي.. بينما هم أطالوا التفتيش قرابة الساعتين على أمل أن تستيقظ..

بدأوا فعلاً في إقناع أخي لإيقاظ أمي.. وكاد أن يوافق.. ربما حتى يمهد لها ولا تستيقظ فجأة فيصيبها مكروه مما ترى.. لكنني نهرت الضابطين بشدة.. فقال لي أكبرهما: "أرجوك صحيها أنت.. ده واجبنا.. ومن مصلحتك هذا حتى ننهي الموضوع.. وانت خايف من ايه.. احنا مالقيناش حاجة".. قلت له بحدة: "أنا مش ندل عشان أحط ورق في أوضة أمي"..

انتهى التفتيش.. أخذوني معهم لتبدأ رحلة عذاب ومؤامرة فجة للزج بي في تهم خطيرة من خلال "شاهد ملك" هو شبه عميل لهم.. كان الأخطر هي مشاعري تجاه الأم التي ستستيقظ لتجد بيتها مقلوبًا وابنها غير موجود.. أما أخي فقد ظل حتى الصباح يجري الاتصالات بينما يحاول عبثًا ترتيب البيت.. ولا أعرف حتى الآن كيف برر لها الموقف؟

علمت بعد ذلك أن الضابط الأصغر اعتذر لأخي وقال له إن القضية جاءتهم من القاهرة، وإنهم في مباحث المنصورة غير موافقين عليها، وبالتالي هم جهة تنفيذ لا أكثر.

بالفعل لم يمر يوم حتى عقد وزير الداخلية زكي بدر مؤتمرًا صحفيًا أعلن فيه ضبط "خلية شيوعية خطيرة لقلب نظام الحكم قيادتها في المنصورة ومعظم أعضائها في الإسكندرية".. ونشر الخبر في الصفحات الأولى من الجرائد وأخبار التلفزيون.. وكنت أنا المتهم الأول.. وممن كانوا معي في هذه الحبسة: هاني عمار، أحمد يوسف، شهاب حسن على، جمال على حسن، أيمن حمودة من الإسكندرية، سيد اسحاق ويوسف عبد الحليم من القاهرة، سيد فتحي، صلاح عبد المطلب من القليوبية، محمد عبد الفتاح من بورسعيد، حمدي حسين من المحلة، وشاب آخر لا أذكر اسمه من أسوان.. بالإضافة إلى شاهد الملك تبعهم.

وكان الأكثر إيلامًا لي أن علمت بعدما خرجت من السجن بعد 77 يومًا أن الحملة عادت إلى أمي في الصباح بعدما غادر أخي المنزل ليبحث عني.. وقد علمت أيضًا أن مباحث المنصورة جاءها توبيخ من القاهرة لأن الحملة لم تفتش الشقة القديمة المهجورة.. وبالطبع لم يجرؤ الضباط على تفتيش غرفة أمي لأن هذا كان يعني أنهم قصروا في عملهم في الليلة السابقة..

المهم حسبما علمت من الجيران أن "الحاجة" تعاملت مع قوة التفتيش برباطة جأش.. قالوا لها إنهم يريدون أن تأتي معهم لتفتيش الشقة الأخرى.. ولم يستحضرونني لأنني كنت قد رحلت إلى القاهرة.. ولا أحد يعلم ماهو الحديث الذي دار بينهم وبينها.. المهم أنهم نزلوا وانتظروها أسفل المنزل حتى ارتدت ملابسها.. وطلبوا منها أن تركب معهم فرفضت بقوة.. كما أن الحاجة كانت تتمتع باحترام وحب كبيرين في المنطقة..

سارت أمامهم بهدوء وعزة، ووراءها مخبر وضابط وسيارات الأمن في موكب استمر حسب سرعة مشيها.. وبالطبع لم يجدوا بالشقة المهجورة أي شيء يدينني..

لم أتناقش مع أمي أبدًا في هذه الواقعة.. فإن كانت نسيتها فما الداعي لتذكيرها، أو تقليب المواجع.. غير أن زلة لسان أفلتت منها مرة وقالت بدون مناسبة لي إنهم وهم يفتشون أمسك المخبر بقاموس وسط كتبي وطلب من الضابط أن يأخذه لابنته فوافق.. وقالت : "الكلب أخد القاموس".. وهي التي كانت تعتبر كتبي من أهم أعدائها والتي "قضت على مستقبل ابنها".. رغم أنها لم تراجعني يومًا في تصرف ولم تلمني على شيء، وكانت تمطرنا جميعًا بدعوات أن يصلح الله أحوالنا..

صعدت روح أمي إلى بارئها بعد هذه الواقعة بست سنوات.. ومازلت حتى اليوم أشعر بالذنب تجاهها.. وأحمد الله أن ظلت نائمة ليلتها ولم تستيقظ لأنه لو كان حدث لها مكروه لكنت قتلت الضابط..

رحم الله أمي.. وكل الأمهات اللاتي يتعذبن بسبب أبنائهن أصحاب الرؤوس "الناشفة" والحية..









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط