الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليس البحر بحرا ......

احمد الطالبي

2015 / 3 / 21
الادب والفن


..............ليس البحر بحرا ................

إنطلقت السيارة تلتهم الطريق ، كأنها وحش أسطوري يبتلع شريطا أسودا طويلا بلا نهاية ، كانت جامحة مثل حصان ،و كانت الوجهة جنوبا في يوم من ايام غشت الحارة ، الشمس تسكب جام لهيبها على الأرض دون رحمة ، لم يكترث للحرارة المفرطة مادام المحرك يهدر بقوة ، هو وحده يعرف سحر الجنوب في عز القيظ ، لذلك إختار أن يقلب الوجهة ، عينه على أشجار الغظى والطلح الممتدة في الأفق ، وهي تعاند بإصرار، تقاوم العطش و الرياح الجافة ، إنها تتحدى الموت و شظف الحياة ...

كان يستعجل لحظة وصوله إلى تلك الرقعة ، ليتخلص من عبئ الوطن ، الوطن الهارب من نفسه ، الهارب إلى شواطء البحار بحثا عن لحظة رظوبة عابرة ، لا تظفئ نارا و لا تروي عطشا ..

لا ليس هذا وطني و لا هو بموطني ، هكذا فكر وهو يضغط بغضب على دواسة السرعة مستعجلا الوصول إلى هناك ليفتح عينيه على على الأفق الواسع وعلى السراب ، يريد ان يكون وحيدا ليكون ما يشاء ، لكي لا يكون ما كان ، يريد أن ينغمس في حقيقة الكون . لم يعد يأبه بما حوله من ألوان زائفة ، من أرواح فارغة من كل شيء عدا جموح المتعة و اللذة .. يريد أن يلفظ كل شيء ، ويسال نفسه من هو ؟ ومن اين اثى ؟ يريد أن يتحسس نفسه ، جسده ، أعضاءه ....

وهو غارق في هذيانه ، شعر أن السيارة تقود نفسها ، تناور تتجاوز ، تندفع بكل قوة وبكل ثقة ، أحس بها مطواعة ، رخوة كالفرس وهي تتمايل ، وترفع ساقيها الأممايتين ثم تنطلق كالسهم ..خيل إليه أنه يسمع صوت البارود ، صدحت البنادق وامتلأت السماء نقعا و دخانا ،وعلت زغاريد النساء..

ما أجملك ايها الوطن لو ....

و الآخرون ، إلى أين يذهبون ؟ هو وحده يسير في ذلك الإتجاه ، آه. إنه غشت ،شهر الحرارة و القيظ .. إنهم يذهبون باحثين عن الرطوبة على شواطئ البحار ، يعرضون جتثهم على الرمال المبللة بماء البحر ، وهل البحر بحر ؟ لا ليس بحرا مادام لا يبحر ، لم يتجاوز بعد مكانه ، إنه يخشى ، منذ الأزل ما زال كما كان ، لا يتحرك .. إنه ليس بحرا ، من سماه كذلك ؟ لماذا ينكسر موجه ؟ حتى في أيام غضبه ينكسر موجه لماذا ؟ لهذا لم يعد يحب البحر ، إنه ينكسر عند أول اصطدام ، ينكسر حتى على الرمال ، ويصبح موجه زبدا أبيضا تنثره الرياح .....

محرك السيارة يهدر بصوت غريب إنتشله من تلك الغفلة ، وجد السيارة تتسلق مرتفعا جبليا .. آه يجب تغيير درجة السرعة من الرابعة إلى التالثة ، هكذا لن يختنق المحرك ، وهوما كان ، فما أن فعل ، حتى انطلقت السيارة بجموح الفرس صاعدة دون اكتراث ، وحده يسير في اتجاه الجنوب ، في اتجاه السراب والرمال والعطش ، هو يهرب من شيء ما لا يعرفه ، كأنه مطارد ، لم تعد المقاهي مكانه ، لا الشوارع و لا الحدائق .. الفضاءات كلها ، لا شيء ...

قطع مسافة ، شعر بجفاف في أنفه فانتعش ، إنه يقترب ، نعم يقترب ، بعد قليل سيجتاز آخر المنعرجات ويطل على الأفق الواسع ، ويرى السراب الحقيقي ، لقد مل من سماع السراب ، في كل الأمكنة يسمع سرابا ، سرابا سرابا ، سمعه في المدارس عندما كان صغيرا ، سمعه في مدرجات الجامعة ...

ما أجمل سراب الصحراء ، ليس خداعا ، هو يقول ، أنا السراب ، من يريد أن يلاحقني فليفعل ، لكني سراب ...

إستعجل الوصول ليستمتع بالسراب و الرمال ، ضغط دواسة السرعة وأطلق لخياله العنان ، ربما هي آخر المنعرجات ، وحده يسير ، والسيارة تبتلع الشريط الأسود ، خيل إليه أنها واقفة ، والشريط يأتيها مطواعا ، فجأة رأى شاحنة ضخمة أمامه ، ناور و تجاوز دون اكتراث .. مع آخر منعرج ، وهو يدور يسارا هبت موجة من رياح الشركي الحارة ...

لقد وصل ، فكر في الشاي ، كم هو لذيذ على نار أغصان الغظى .. إنتعش ، واتسع الأفق وزاد تركيزه ، رأى علامة تشوير : خفف الدرك ...

خفف من السرعة ، فتح الزجاج وملأ رئتيه بالهواء الجاف ، رأى أمامه دركيا يقف وسط الطريق ، بكل ما لديه من حزم ، يشير بيده اليسرى ، إنه أمر الوقوف على أقصى اليمين ، كان الرجل طويل القامة ، عريض الكثفين ، يحمل نياشين و حذاؤه يلمع من شدة السواد ، على صدره حمالة بيضاء ناصعة ، قفزت إلى مخيلته صور رآها يوما على صفحات ثلاوة أحمد بوكماخ ...

طلب الدركي أوراق السيارة ، سلمها له واحدة واحدة ، نظر إليه نظرة صارمة ، و أمره أن يلتحق به في مخفر صغير قرب الحاجز ....

سيدي لديك ، مخالفة ، لقد تجاززت شاحنة بمنعرج خطير ، فيه خط متصل ، عليك أن تؤدي الغرامة و إلا سحبت منك رخصة السياقة ...
أكد ما قاله الدركي ، أقر وهو يستحضر ضميره الوطني أنه فعل ذلك ،

أخذ الدركي محضرا ، ليحرر المخالفة ، فبادره بالقول : إنتظر لدي ما أقوله لك ، لا تتسرع في تحرير المخالفة . نظر إليه الدركي وابتسم ، قل ما لديك :
- إن الوطن غفور رحيم ، ألا يمكن أن يغفر لي وطني خطيئة واحدة ..
- فكر الدركي مليا وقال ، يمكن بشرط ، واستطرد قائلا مبلغ الغرامة 700 درهم ، ويمكن أن يغفر لك الوطن وتؤدي ، بيني وبينك لا عين رأت و لا أذن سمعت 300 entre nous...

شعر بمغص، وبدوار كأنه يهوي في بئر بلا قاع ، إنتفض في وجه الدركي قائلا : لا يمكن لا ، حرر لي محضر المخالفة ، و سأدفع ، أنا مواطن يجب أن أنضبط للقانون ، لكن أنت ، أنت يا صاحب النياشين و البدلة الأنيقة ، من سيحرر لك محضرا بهذه المخالفة الخطيرة التي تجاوزت فيها القانون والقيم من ؟ من ؟ ...

سكت الدركي ، فاستطرد هو : أنا من سيفعل ، نعم أنا ، و في يوم عيد المدرسة ، سأنصب محكمة من أطفال المدرسة لمحاكمتك ، أنت منذ الآن متهم ، أنت متلبس بأخطر الجرائم ، نعم أنت وذاك ، و الآخر ، والآخرون ، كلكلم ، كلكم ، كلكم ، كلهم ........

خرج من المخفر بسرعة ، والدركي يلهث خلفه حاملا الأوراق ، سيدي سيدي خذ أوراقك ، سيدي إن الوطن غفور رحيم ..
هدر المحرك ، وانطلق بعيدا بعيدا ، وبين أشجار الطلح تساءل وهو يرشف كأسا من الشاي : لماذا لا يبحر البحر؟ لماذا تنكسر أمواجه لماذا ؟ ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل