الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( صبية وسائق وبلطجى )

فاتن عامر خاطر

2015 / 3 / 22
الادب والفن


ما أسوأ البرد الذى يأتيك فى الدماغ والمعدة!!
يا له من مسكين هذا الإنسان، لفحة هواء باردة تكشف له مدى ضعفه
حتى وإن كان عنيدا غير منشغلا بها ويسعى منطلقا على رزقه..داعيا ربه
" اللهم أنت الشافى "
فيكأفاه بالقصص التى تطيب القلب والبدن والخاطر، فيرفع رأسه المتعبة فى المساء بعد يوم طويل على سائق عجوز نحيل بنظارة يكسوها إطار بنى عتيق وشعرا فضيا، ومرتديا فى وقار بدلة شتوية بديعة تتفق فى اللون مع إطار نظارته:
حد عايز حاجة ساقعة
يضحك ركاب المينى باص القلائل وتبادر هى بالرد:
تسلم ..إحنا محتاجين حاجة سخنة
حاولت بعدها أن تلتقط على عجل ردود الأفعال، فلم تجد أحدا علق مجرد تعليق أو بادر بنظرة ذات مغزى على كلمة سخنة تلك، فقط بدأت تتلاشى الضحكات مع نسمات الهواء البارد وظلت معلقة على النوافذ الزجاجية، عاد السائق العجوز حاملا زجاجة سبرايت مثلجة وكوب شاى أسود تتصاعد منه رائحة شاى التموين الزهيد، الذى تسرب بخاره فى العربة بأكملها وشعر الجميع بالدفأ، أخذته من يده المرتعشة بكل أدب ولم تتلفظ بكلمة شكر لأن الكلمة إستحت منه، وعلى الرغم أنها لا تحتسى الشاى الأسود إلا نادرا وبالنعناع الأخضر وتتركه غالبا حتى يهدأ ويصير دافئا شربت منه رشفات سريعة إكراما لهذا السائق....وإنطلق المينى باص
بدأ يهدأ السير عند شارع المريوطية وأوشك شخصا لحظتها أن يرتطم بمقدمة العربة فضحك السائق:
يا بنى أنت عايز قلمين
ضحك الركاب مرة أخرى فأعاد:
والنبى عايز قلمين عشان يفوق بس مش هيفوق برضه...
لحظتها صعد أربع ركاب، إستقل اثنين المقعد الخلفي، وجلس الثالث على المقعد المقابل لها على اليسار تماما،شابا قمحى البشرة متوسط الطول، لم تخطئ لحظة فى أنه بلطجى عتيد من طراز نادر بداية من حذاء قدمه الرياضى المنحوت عند الأصابع الكبرى، وبنطلونه الجنيز قديم الطراز وحزام وسطه الجلدى المرصع بالكباسين، وجاكته الجلدى الأسود والكوفية القماش الملفوفة بإحكام على رقبة متعبة،ورأسه الحليقة التى يخيل للرآى أنها بإمكانها كسر الحديد نفسه، وشاربه الأسود الكثيف الذى تتدلى أطرافه بكل أدب على زوايتى فم واسع منفرج قليلا يمتزج بنظرة عيونه السود البعيدة ، حتى السيجارة التى لم تشتعل بعد بين أصابعه التى تنحنى لها ثلاث دبل فضية عريضة، يعلوهم حظاظة مصمتة من نفس الخامة....صعد خلفه مباشرة صبى ضئيل مرتديا بنطلون وسترة قطنية ثقيلة بغطاء للرأس تشعر أنه لا يزيد عن الخمس أعوام، لكنه كان فى السابعة أو الثامنةجلس على الموتور و أمام البلطجى مباشرة، سألى السائق :
أنت مع مين يا حبيبى
لوحدى
فأعاد مرة أخرى لحظتها لاحظت أن سمعه ثقيلا، وكرر الصبى ، وبعد المرة الثالثة تطوع البلطجى بالإجابة المفاجئة:
دى بنت يا عم الحاج
إلتفت لها السائق العجوز وتأملها بعمق..إنتبهت الفتاة التى مازالت ممسكة بكوب الشاى أنها صبية بالفعل يكسو أظافرها الصغيرة طلاءا أحمرا زاهيا ليس هو العلامة الوحيدة على أنوثتها الصغيرة بل صبيانتها الدليل الأشد وأكدت الفتاة الكبيرة فى قلبها:
ما أجمل الصبية التى يظنها الرآى لوهلة صبيا.
السائق:
مش خايفة حد يخطفك وأنتى عسل كده
محدش يقدر
فأكدت الكبيرة وبصوت مرتفع :
شاطرة هى دى البنت الجدعة
فلاحت نظرة إمتنان فى الفراغ المستقيم تماما من أعين البلطجى ومحذرة فى آن واحد إبتسمت الصغيرة وظلت عيونها طوال الطريق مثبتة على الكبيرة، وإنطلقت العربة فى سكون نادر تواطأ الكون كله لإدخاله على نفوس هؤلاء الركاب...
سألت الكبيرة السائق الذى لم يسمع للمرة الثانية:
الأجرة كام لحد الجيزة يا ...
إيه
الصغيرة:
طنط بتقولك ........
أنت عايزة تدفعى أجرة يا عسل......
أيوه هدفع بس طنط بتقولك........
وهى نازلة..........إنتى بقا نازلة فين
التعاون.......
هتدفعى أجرة...
ناولته جنيها فضيا، أخذه منها وظل يتأمله لحظات ثم أعاده:
خليه معاكى
لأ...ليه
إشترى بيه حاجة حلوة
حاول البلطجى إشعال السيجارة فأسرع السائق محذرا:
مفيش تدخين ف العربية يا محترمين..
توقعت رد فعل البلطجى الذى أعاد الولاعة بكل سهولة ويسر لجيب بنطلونه وظل ممسكا بالسيجارة كما هى طوال الطريق، وإستمرت العربة فى السير.
وعند المحطة أشار السائق لعربة مجاورة لإخفاض السرعة وطلب من الركاب :
حد يعديها الشارع
بادرت الكبيرة :
أنا هعديها
وقف البلطجى :
يلا يا ماما
مدت الصغيرة يدها فأمسكها بخفة و إحكام وأشارت الصبية باليد الأخرى لفتاتها الكبيرة فى تحية نادرة تنحنى لها الكرة الأرضية هذا المساء إجلالا ...
عاد البلطجى وإنطلقت العربة ....
بعد لحظات طويلة، هتك ستر السكون سارينة شرطة، سارت للحظات مجاورة لعربتنا، أطبق البلطجى يده،و بحركة مفاجأة غير محسوبة وضعها على أذنه اليسرى وسدها بعنف، فى تللك اللحظات، حجبت الفتاة التى مازلت حتى الأن ممسكة بكوب الشاى دمعتها، وتأكدت أن هذا الرجل لو نظر فى عيونهم لآرقهم طويلا، ولن يستطيعوا إخضاعه أبدا إلا أن يعلقوه بحبال غليظة وبعدها، قد ينزل من حباله مظهرا لهم رأسا محنية ،لكن أسفلها ستكون تلك القبضة، ونفس النظرة التى ستؤرق مضاجعهم طويلا ولن يتمكنوا أبدا من الهروب منها سوى بتعليقه مرة ثانية وثالثة ورايعة.
تجاوزتنا السارينة وأبطأ السائق السير للحظات حتى غابت، وإنطلقت عربتنا بعدها..
قبل وصولنا لأخر النفق بأمتار سأل السائق:
حد نازل أخر النفق
ناوله البلطجى جنيها، فأكد السائق جنيها ونصف، فناوله النصف المتبقى وأخرج من جيب بنطلونه ورق مهمل رتبه و عده فكان سبعون جنيها بالتمام فأعادهم لجيبه مرة أخرى:
هتعدى من مراد ولا الجامعة
لأ...الجامعة
خلاص هنزل ع الكوبرى
مينفعش...لا ينفع أقف ولا أنت تنزل ..حاجة تخبطك يا عم ...خاف على روحك
خليها على الله
مينفعش يا أستاذ...
خلاص ..اتكل على الله
ظلت الفتاة متحفزة وتوقعت أنه سيقفز فى أى لحظة على الكوبرى وعلى الرغم أنه لم يبدى أى إشارة جسدية تبين أنه سيفعل، كانت كل تعبيرات وجهه التى تجمعت فى نقطة بعيدة وأسنانه التى أطبقت على بعضها بقسوة، تشير بذلك...
لكنه لم يفعلها...
ونزل أخر الكوبرى بكل ثقة شاكرا السائق، الذى أكد:
ليلتك زى الفل
فإبتسم البلطجى وغابت نظرته فى الفراغ وإختفى
قامت الفتاة بعده ، ناولت السائق الكوب والأجرة، فأكد:
خلى يا ست البنات
ربنا يزيد ويبارك
فأكد لها بأكثر الكلمات التى تستخدمها هى نفسها تعبيرا عن الإمتنان:
تعيشى...
فنزلت أخيرا، بهدوء وسكينة والهواء الساكن المنعش يداعب خدودها ...وشعرت لحظتها بدفأ لطيف وسارت وهى تفكر:
ذات مساء...كان هناك صبية وسائق وبلطجى............
دقت الساعة تشير إلى أنها الواحدة تماما.
( صبية وسائق وبلطجى )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا