الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أما آن للدولة المصرية أن تنظر في أمر الزوايا!

السيد شبل

2015 / 3 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


لعقود طويلة توقفت الدولة المصرية عن بناء أو الإشراف على بناء المساجد، ومع التوسع العمراني الحديث احتاج الناس لمزيد منها، فتطوّع القادرون لبنائها. والقادرون هنا هم من توفّر لديهم الحد الأدنى من الثروة الذي يمكّنهم فعليًا من بناء وعمارة المساجد. في باديء الأمر (حتى أواخر السبعينات - مطلع الثمانينات) كانت الأبينة على النمط التقليدي، واحتفظت المساجد، كدور عبادة، بهيبتها ووقارها؛ فكانت الساحات المخصصة للصلاة واسعة، والمآذن شاهقة، والعمارة رشيقة، ولا تخلو من الفنون العربية الإسلامية، بداية من فن المعمار في المأذنة، مرورًا بأرابيسك المنابر، وانتهاءًا بنقوش المحراب. عدد المساجد في هذا الوقت كان يتناسب مع عدد السكان، ومن النادر أن يحدث تداخل بين أذانين، حتى مع دخول الميكرفونات فيما بعد، واحتفظ المسجد بصفة الجامع، الذي يجمع شمل المسلمين عند الصلاة.

مع الوقت، ومع هجرة الطبقة الوسطى للخليج، وعودة عدد لا بأس به منهم، جيوبهم ممتلئة، وعقولهم خاوية، بدأت تظهر الزوايا أسفل العمارات السكنية، وصارت مظهر غير حضاري، من جهة، ولا تحفظ لدور العبادة هيبتها، من جهة أخرى. بعض الزوايا كان على هيئة أكشاك خشبية ملحقة بدور أرضي يتكون من غرفة واحدة ودورة مياة، وبعضها هبط أسفل الشارع الرئيسي لمتر أو أكثر، أما عن الأماكن المخصصة للوضوء، فأصبح أغلبها يفتقد للستر وغير آدمي وصار الفرد في أغلب الأحيان مضطرًا لاختراق صفوف المصلين للوصول إليها!... وبالتبعية انتهى كل ما يمثل طابع إسلامي على مستوى الشكل.

الدولة من جانبها رحبت بالأمر لأنه تكقّل عنها بعبء إقامة مساجد في الأماكن الجديدة التي طالها العمران، كما أنه جاء متناغمًا بصورة أو بأخرى مع طبيعة الامتداد العمراني العشوائي (المفتقدة للتخطيط). الدولة لم تغض الطرف فقط، بل باركت ودعمت عن طريق التكفل بتسديد فواتير المياه والكهرباء وخفض الضرائب على العقارات، وتعيين بعض المشرفين على عميلة البناء كموظفين وعمال بالأوقاف، وهذا شجع البعض لضرب عصفور الدنيا بعصفور الآخرة والخروج رابحًا (بحسب ما يتوهم!). على جانب آخر لم تعد الزوايا مطلب ديني فقط، بل صارت تطلبها النفوس بهدف الشهرة والاستعراض، وهذا أمر يُعدّ متماشيًا مع نمو التيار الوهابي، والتشدد في الحفاظ على صور العبادات مع إهمال جوهرها وروحانيتها.

المحصلة النهائية، أن صار لكل مربع سكني، مابين ثلاث إلى خمس زوايا؛ فوق هذا أصبحت الزوايا محشورة داخل شوارع وأزقة ضيقة لا يتعدى عرض الواحد منها أربعة أمتار. تناسب ارتفاع أعداد الزوايا عكسيًا مع عدد المساجد الكبيرة مساحةً والأنيقة عمارةً، بحيث صارت أغلب الأحياء السكنية خالية على التمام من مسجد (جامع) واحد.

ارتفاع عدد الزوايا تسبب في تداخل الأذانات بصورة غير صحية، جاءت متماهية مع حالة التردي الذوقي التي انصبغ بها المجتمع ككل، ولعب دوره كمضاف لمعدل التلوث السمعي المرتفع أصلًا منذ ظهور السماعات الضخمة (تطورت فيما بعد إلى دي جي) التي لا تخلو منها شوارع مصر بمناسبة أو بغيرها!. أزمة الزوايا وضيق مساحتها برز مع صلوات الجمعة، حيث صارت مسألة افتراش الشوارع المحيطة بالزاوية أمر معتاد، وهذا ضاعف من تراجع وقار دار العبادة، وتسبب في مشكلات مرورية، ناهيك عن كونه يتعارض مع "ألف باء" حضور في الصلاة، حيث يتزامن عبور المارة نساء ورجال وأطفال، في حين يؤدي المصلوّن شعيرتهم، في طريقة لا تخلو من الفوضى.

على المستوى الرسمي، الدولة لم تنتبه لأزمة الزوايا إلا مع نمو الأفكار المتطرفة في التسعينات على يد أئمة الزوايا وخطبائها، وبدأت تحاصرهم أمنيًا. الأفكار الدينية المتطرفة كانت نتاج مشكلات مركّبة، فبعضها ارتبط بأفكار دينية مستوردة، وبعضها بتراجع دور الأزهر على الصعيدين الفقهي والتربوي، وبعضها بتراجع الشق الروحاني والمعرفي من الدين، وبعضها بالمناخ العام المتطرف والحاد والزاعق، وبعضها بتقاعس الدولة عن دورها في دعم الطبقات الكادحة وتوفير فرص العمل، وبتقهقرها عن بلورة مشروع وطني وقومي واحد... وهذا شأن آخر يطول الشرح فيه.

...ما الحل؟

الحل لا بد أن يكون حكوميًا، فكما كان انسحاب الدولة عن القيام بدورها، سبب رئيس في المشكلة، فلا بد أن تكون على الأقل صاحبة النصيب الأكبر من الحل. الذي يبدأ في تصورنا بإنشاء هيئة للإشراف على بناء وتصميم المساجد، ولا يُصرّح ببناء دور عبادة إلا من خلال هذه الهيئة، على أن تتم دراسات ميدانية على يد خبراء ورجال دين، لتحديد المساحات بالنسبة إلى عدد السكان، التي تحتاج لبناء مسجد (جامع للمصلين)، ومن ثم تشرع هذه الهيئة في توفير مساحة الأرض اللازمة، حتى لو تطلب الأمر الخروج إلى مساحات فضاء مجاورة للمنطقة السكنية. على أن يتم فتح باب التبرعات، سواء نقديًا أو عينيًا، والحث على المساهمة عبر حملات إعلانية مكثفة ومدروسة في وسائل الإعلام... ولا مانع من كتابة أسماء المتبرعين (إن تكفل أحدهم بتوفير نصف الأموال المطلوبة لبناء مسجد معين قريب من مسكنه، مثلًا) على لوحة رخامية بسيطة، في مكان ما بمدخل المسجد، لمراعاة الجانب النفساني!.

يتزامن هذا الإجراء، مع غلق للزاويا، وإيقاف ممارسة الشعائر الدينية بها، على أن يتم تحويلها إلى أماكن تقدم خدمة اجتماعية (حضانات أو جمعيات لكفالة اليتيم أو جمعيات لرعاية المسنين إلخ.. بإشراف من وزارة التضامن الاجتماعي)، ويمكن أن تُخصّص لأغراض سكنية وتجارية، مع الاستفادة من عائدها المادي في بناء المساجد (الجوامع)، وما من شك في ضرورة التوفيق بين هذا الوضع الجديد وملاك العقارات الأصليين، بناءًا على شروط معينة.

وشرط التزامن مهم للغاية في هذا الإجراء، حيث لا يمكن بأية حال إغلاق الزوايا مع عدم توفير مساجد!. وحضور رجال دين أزاهرة لتبصرة الناس بطبيعة ما يجري أمر ضروري، حيث يجب أن يكون مفهومًا أن الدولة تغلق الزوايا وما لها من آثار سلبية حتى على عملية التدين عينها، وتشرع في بناء مساجد جامعة بما لها من آثار إيجابية، أقلها انها تحفظ لدور العبادة هيبتها ووقارها.

المساجد (الجوامع) الجديدة، ستكون خاضعة لسلطة الأزهر الشريف، وستمارس فيها شعائر الدين بصورة لائقة، وستحقق قدر من التحصين على كافة الأصعدة.... وأتصور أن هذا الأمر لا بد منه كخطوة أولى لإصلاح ما طرأ من عوار على عملية التدين ذاتها، للدرجة التي صارت بها حجابًا يحول بين الناس وبين فهم الدين، والغاية منه: التي هي معرفة الله ومعاملته الحية سبحانه.

والإصلاح الكامل لن يتم إلا بمراجعة الأزهر الشريف، من حيث ما هو مؤسسة عريقة ترتقي إلى مرتبة الرمز والحصن، والإصلاح يتعلق بانحسار فقهائه في الرسميات وتراخيهم عن القيام بأدوارهم الأصلية.

وهنا يصح أن ننبه إلى أن إغفال أهمية عملية التربية والتزكية (الطهارة النفسية بسبيلها الرباني)، في المجتمعات العربية كان هو السبب في تهيئة المناخ لوجود داعش وأمثالها، لدرجة أن صار انضمام أفراد من بيننا إليها، ولو حتى وجدانيًا، أمر عادي!، هذا مع اعتبار دور أجهزة الاستخبارات الغربية في دعم هذه الجماعات (الداعشية) بهدف تعميم الفوضى وتدمير البلدان وأنظمة الحكم من الداخل، فيسهل السيطرة عليها بأدنى كلفة، كخطوة صريحة نحو الحكم العولمي... وهذا ما سنفسح له لاحقًا.

بقيت إشارة أخيرة إلى ثلاثة أمور... الأول: أن السطور السابقة تدور حول مدلول ومفهوم "الزاوية" عند المصريين، وهو يختلف ولا شك عن مدلول الكلمة في بلدان عربية وإسلامية أخرى. حيث ترتبط الزوايا في بلدان المغرب العربي بالاعتكاف الروحي والتصوف، ووجودها قديم وتاريخي، ولعب مشايخها على مر العصور دورًا كبيرًا في حشد أتباعهم لجهاد ومقاومة المحتل الأجنبي، ويعرفها ابن منظور في لسان العرب على أنها (أي الزاوية):"مكان معد للعبادة وإيواء المجاهدين وطلبه العلم والمحتاجين وإطعامهم وتزويدهم بما يلزمهم وما يحتاجونه"؛ الثاني: أن توقّف الدولة عن بناء مساجد لم يكن بالكلية، حيث أشرفت الحكومات المتعاقبة منذ السبعينات على بناء عدد من المساجد في المدن الجديدة (الملحقة بالعاصمة) وهي ما يمكن وصفها –مطمئنين الضمير- بمدن الأشباح نتيجة لخولها من السكان من ناحية، ولتراجع مستوى المرافق بها من ناحية أخرى!، الثالث: أن ثمة قانون ظهر في العام 2001 لتنظيم عملية بناء المساجد، وأعيد الحديث عنه في منتصف عام 2011، واشترط عشر أمور من بينها: تجريم البناء على الأرض المغتصبة، وأن لا تقل المسافة بين المسجد القائم والمسجد المزمع إنشاؤه عن 500 متر، وأن ألا تقل مساحة المسجد عن 175 م2، كما مُنع منعاً باتاً إقامة مساجد أو زوايا تحت العمارات السكنية...، وقد تم مواجهة هذه الضوابط وقتها بانتقادات عنيف من جانب نواب جماعة الإخوان داخل مجلس الشعب وقيادات الجمعية الشرعية ومن دار مدارهم، والنتيجة كانت أن تم حفظ القانون داخل الأدراج ولم تظهر له أية آثار، لأسباب مختلفة، من بينها ما هو رئيسي مثل التفاهمات التي كانت تجري بين نظام حسني مبارك وجماعة الإخوان والقيادات السلفية، التي تسيطر على أغلب تلك الزوايا؛ ومن بينها ما هو ثانوي مثل الحملة التي شنتها الجماعات الإسلامية ضد القانون، على اعتبار أنه مهادنة من جانب الحكومة المصرية للأقباط، وأنه يكيل بمكيالين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو تعزيزات أمنية مكثفة في كاليدونيا الجديدة • MCD


.. المغرب: حملة -تزوجني بدون مهر-.. ما حقيقتها؟ • فرانس 24 / FR




.. كأس أمم أوروبا 2024: ديشان يعلن تشكيلة المنتخب الفرنسي.. ما


.. هل تكسر واشنطن هيمنة الصين بالطاقة النظيفة؟




.. سكان قطاع غزة يعانون انعدام الخيام والمواد الغذائية بعد نزوح