الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوراق معارضة ( 2 ) ولادة المعارضة

بدر الدين شنن

2015 / 3 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


في مقالي السابق تحت عنوان " أوراق معارضة ( 1 ) ولادة وطن " جرى ربط بدايات نشوء الوعي السياسي السوري " ضمنياً " بالتزامن مع مخاض " ولادة الوطن " ، وبالارتباط مع ، والانصهار في ، المهام الوطنية المباشرة . بمعنى ، أن الأحزاب الناشئة ، وأهمها ، وأكبرها " الكتلة الوطنية " التي وجهت نارها في الثورات التي أشعلتها ، وفي حراكها في المظاهرات التي قامت بها ، وفي عقيدتها " التناحرية المعارضة " في العشرينات والثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن الماضي ، قد كرست وطبقت معادلة ( شعب ثائر ضد احتلال الأجنبي ) .

بعد الاستقلال مباشرة انخرطت " الجمهورية السورية " مباشرة في الحرب ضد الإمبريالية والصهيونية في فلسطين . ما أدى إلى أن تكون مرحلة ما بعد الاستقلال ( 17 نيسان 1946 ) هي استمرار لمرحلة الصراع مع العدو الخارجي ، وهي التعبير الرئيس لتواصل بناء الوعي السياسي المعارض . وقد أسس الصراع ، بين العصابات الصهيونية والثوار العرب في فلسطين ، في الثلاثينات والأربعينات في القرن الماضي ، بداية تكون معادلة ـ صراع ـ تعبر عن معارضة تناحرية أيضاً ، بين المشروع الصهيوني ، وبين حق الشعب الفلسطيني والعربي في تقرير المصير .

في تلك الفترة انتقلت من إدلب إلى حلب .. إلى المدرسة الهاشمية في منطقة باب النصر ، الغنية بتراثها ، وأحيائها القديمة الشعبية العريقة ، وأصالتها الوطنية . ما أحدث نقلة نوعية سريعة كبيرة في وعيي بعامة . إذ أن حلب هي عالم قائم بذاته وبتنوعه وبحركته المتواصلة على مستويات لا تحصى في مختلف المجالات ، لاسيما مجال الوعي والتحضر . وقد لعبت المدرسة الهاشمية وذكاء ووطنية مديرها وأساتذتها دوراً كبيراً بانتقالي وزملائي في المدرسة ، عبر مسرح المدرسة الغني بالوعي الوطني والقومي ، إلى الاهتمام بالخطوط الأولية لمفاهيم السياسة ، وملامسة الصراع الجاري ، بين شعبنا والاستعمار والصهيونية .
وفي خارج المدرسة كنت وبعض الزملاء ، نلعب بعض الوقت بين يوم وآخر ، بجوار منازل أقربائنا ، في أحد الأزقة الصغيرة المغلقة ـ إي لها مدخل فقط ـ وسط سوق السويقة ، الذي يتوسط خانات وأسواق تجارية وحرفية عدة .
غير أن ما يجري في إحدى دور الزقاق ، كان يعوق أحياناً لهونا البريء . ومن ثم صار يلفتنا إلى أمر أثار اهتمامنا ، ثم دخل في حياتنا ووعينا . لقد كانت تلك الدار تستخدم مقراً للتطوع في جيش الإنقاذ العربي المقاتل في فلسطين . وكان صاحب الدار هو " حسين الخربوطلي " شخصاً مهيباً يحمل دائماً سلاحاً في حزامه . وكان هو المسؤول عن استقبال وإرسال المتطوعين في جيش الإنقاذ لقتال " اليهود " في فلسطين . وكنا حين نراه عابراً ، نتوقف عن اللعب والجري ، احتراماً له ، ولنمعن النظر إليه . وكان هو يبتسم لنا ويتابع طريقه .

وتعرفت على كلمات جديدة ، هي أكبر من قدرتي على فهم كل معانيها ، لكنها استقرت في لغتي ووعيي . مثل .. الإنكليز .. فلسطين .. ثوار عرب .. السلاح ..الصهيونية .. إسرائيل ..

وفي غمرة تداعيات حياتنا اليومية ، جاء ذات يوم شاب إلى الزقاق وبرفقته شابين آخرين . ووقفوا بالقرب من باب دار " حسين الخربوطلي " يتحدثون بصوت عال . كان ذاك الشاب يصر على التطوع .. والشابان الآخران ينصحانه بالتريث ، حتى يشتد عوده أكثر . لكنه حزم أمره ودخل . وكنا نحن الصغار نتفرج على هذا المشهد .. فيما الأفكار والتساؤلات تداهمنا .. هل سيتطوع أم لا ؟ .. وما معنى أن يصر هذا الشاب على التطوع بهذه الحماسة .. وهو قد سمع من زميليه أنه سيقتل في تلك الحرب الرهيبة . لم أستطع أن أصل بتفكيري الصغير ، إلى ماذا يعني فعل التطوع .. وإلى ضرورته وأهميته بالنسبة لهذا الشاب وغيره .

ومرت أيام ليست بكثيرة .. فوجئت وزملائي بعدها .. بخروج امرأة حاملة صرة تحتوي ثياباً وأشياء أخرى من دار " الخربوطلي " وهي تبكي ، وهناك عدد من الأشخاص برفقتها يهدئونها مرددين :
ــ قولي الله يرحمه .. لقد نال الشهادة بشرف .
وكانت المرأة ترد وتكرر :
ــ لقد استدان ليشتري البارودة .
وفي تلك اللحظات التي رأيت فيها هذا المشهد ، تذكرت الشهداء الذين كان الجنود الفرنسيون يقتلونهم ، قبل سنوات ، في التظاهرات ، وفي الاشتباكات بإدلب . واكتمل تطابق ، وتماثل ، الشهادة في القتال ضد فرنسا في عقلي الصغير ، والشهادة في القتال ضد العصابات اليهودية الصهيونية . وحلت فلسطين مكان سوريا .. وإسرائيل مكان فرنسا .
وبصورة عامة ، ارتقى الوعي المعارض إلى المستوى القومي ضد أعداء كل البلدان العربية . وربما بقدر غير قليل من الصحة ، قد لعبت هذه المعارك مع الأجنبي دوراً كبيراً ، في تأجيل نشوء الوعي المعارض الداخلي ، وفي تطوره السياسي الديمقراطي .

وما زلت أذكر بشيء من الطرافة ، كيف أجبت على سؤال الأستاذ في الصف الخامس ، حول من هو أبي ، .. فنظرت إلى الصور المعلقة على جدران الصف ، وكانت تضم صوراً عديدة لزعماء وشعراء وكتاب سوريين وعربا .. فأشرت بأصبعي إلى إحداها لأنها تشبه صورة أبي المتبقية في مخيلتي ، لما توفي وعمري ثلاث سنوات .. وكانت الصورة التي أشرت إليها هي " لسعد زغلول " .. فضحك الأستاذ وجميع التلاميذ في الصف .

وحين مكن الاستعمار الدولي والرجعية العربية الصهاينة من احتلال فلسطين ، واغتصابها ، وسلخها عن الجسد السوري والعربي ، وتم تهجير مئات الآلاف من أبنائها إلى البلدان العربية المجاورة ، ومن ثم إلى أقواس شتات أبعد .. فأبعد .. بدأ تحول سياسي جديد بالظهور ذو مضمون وأهداف يعبر عن تطور مسارات المعارضة والوعي المعارض . وقد أدى ذلك إلى اشتغال العقول الصغيرة والكبيرة في التفكير ، في مصير فلسطين الأسود ، وكيف سنعود إلى فلسطين .. وتعود فلسطين إلينا . كما أدى إلى اضطراب في المنظومات العربية الحاكمة . وبدأ الخبث الأجنبي يشتغل على استغلال " النكبة " ـ هكذا سمي اغتصاب فلسطين ـ وارتداداته الاجتماعية والسياسية المهينة ، واستغلال الإحباط الناتج عن الهزيمة ، واستغلال " نقمة " الشعوب العربية على المسؤولين عن وقوع هذه الهزيمة وهذا الإحباط .

وقد فتح هذا في المجال ليقوم المتآمرون والخونة باللعب في خدمة المصالح الأجنبية . وكان أن بدأت في سوريا مرحلة الانقلابات العسكرية ، التي تحمل خلفيات تنفيذ مصالح استعمارية ، متعلقة بالطاقة وعبورها الأراضي السورية إلى الأسواق الغربية والعالمية ، والتي بدأها " الزعيم حسني الزعيم " 23 آذار 1949 ، بزعم استرداد الحق والكرامة ومحاربة الفساد الذي أوصل البلاد إلى هذا الضعف والإحباط . لكنه عمل على تأمين مصالح شركة " التابلاين " . وباسم الحرص على لقمة الفقراء ، كان يرسل أحياناً ـ نفاقاً ـ الشرطة العسكرية إلى الأسواق لمراقبة الأسعار ، أقام نظاماً عسكرياً دكتاتورياً ، ومارس الاعتقال الكيفي " العرفي " لكل من تسول له نفسه معارضته . إلاّ أنه من طرف آخر وبدون قصد ، دفع السياسيين والسياسة في البلاد إلى نقل عقيدة المعارضة من مواجهة الأجنبي إلى مواجهة ظروف وهموم الداخل .. ومع تفاعلات الداخل .. ما أدى إلى ولادة معارضة بمفهومها المقاوم لانحرافات وظلم الداخل ، ولانتزاع حق ممارسة تداول السلطة وفق القرار الشعبي عبر الآليات الديمقراطية .

وقد اشتركت بأول مظاهرة سياسية في حياتي .. وهي تلك المظاهرة التي حض عليها مدير المدرسة وأساتذتها في نيسان 1949 . فخرجنا نحمل حقائبنا بين أيدينا وعلى ظهورنا نركض مرددين " يسقط الزعيم .. يسقط " وقد سارت المظاهرة من حي تراب الغرباء إلى باب النصر ، حيث انفضت قبل أن تصل الشرطة العسكرية .

ومنذ انقلاب " حسني الزعيم " بدأت حركات المعارضة ، تحمل هم ومسؤولية الصراع في الداخل والصراع مع الخارج في آن .. وتصطف العقول ، والأفكار ، والثقافات ، والأحزاب السياسية ، حسب خلفياتها الأيديولوجية ، والسياسية ، وانتماءاتها الاجتماعية ، وعلا قاتها الخارجية . وتكرست مفاعيل معادلة سياسية أخرى تحرك الحياة السياسية .. تقوم على ( معارضة ضد الحكومة ) من أجل حماية الوطن وبنائه وحرية وكرامة أبنائه .

في تلك الأيام ، لم يكن هناك " داعش " المتوحش ، ولم يكن هناك من يتجرأ على التعامل مع الأجنبي علناً ، ويقبض منه ثمن خيانته رواتب وإقامات فاخرة علناً ، وإيثار مصالحه الاستراتيجية على مصالح الوطن ، ويصادر وجود ودور المعارضة الديمقراطي المشروع ، أو ينشر المذهبية والعرقية البغيضة البشعة ، لتشويش الرؤية وتشويه العقل ، وإنما كان هناك الذين كانوا يسمون بالخونة وحسب، لأنهم يتعاملون مع الأجنبي ضد وطنهم ، ويخدمون مؤامراته على أهلهم .. ويتعرضون بسبب ذلك ، للمساءلة والمحاكمة القانونية والعقاب .. وقد كان ذلك عاراً مبيناً ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة