الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفات ما قبل الأفلاطونية: قراءة نيتشه أنموذجاً.

الاعرج بوجمعة

2015 / 3 / 24
كتابات ساخرة


تعتبر فكرة الأصل الأساس الذي انطلقت منه الفلسفات قبل الأفلاطونية، حيث نجد معظم الفلاسفة؛ إن لم نقل كلهم منذ القديم إلى اليوم قد بحثوا مرة واحدة على الأقل في مسألة الأصل، أي البحث في الوجود، من هنا نجد أن الفلسفة اليونانية اهتمت بمشكلة الوجود أكثر من اهتمامها بمشكلة المعرفة. هنا نجد المشروع النتشوي يندرج في إطار إثبات أصالة الفلسفة اليونانية، وخاصة الفلسفات ما قبل الأفلاطونية، فخصص لهم عدة محاضرات ألقيت سنة 1870، وهي عبارة عن دروس خرجت إلى حيز الوجود في كتاب يحمل عنوان: "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي".
يحاول نيتشه أن يبين أن الممارسة الحالية هي عبارة عن تتويج وقراءة جديدة للفكر أو المرحلة ما قبل السقراطية، على اعتبار أنها مرحلة تتميز بالدقة، متحدثا عن العديد من المدارس السقراطية: كالكلبية وغيرها من المدارس. لذا فالفكر السابق على سقراط يمكن تقسيمه إلى جزأين، بحيث يمكن تسمية الأول بعصر انكسيمندرس والثاني بعصر بارمنيدس. من هنا يرى نيتشه أن هؤلاء الحكماء القدامى، من طاليس إلى سقراط، قد قالوا (...) كل ما يحدد في أعيننا سجية الإغريق حتى لو عبروا عن ذلك بكثير من العمومية.
هذه المكانة التي حظيت بها الفلسفة اليونانية دفعت نيتشه إلى القول "إن الشعوب تشعر بالخجل عندما نتناول مجتمعا من الفلاسفة نموذجيا بهذا الشكل البديع، مجتمع المعلمين الأوائل في اليونان: طاليس وانكسيمندرس وهيراقليطس وبارمنيدس وانكساغوراس وأنباذوقليس وديمقريطس وسقراط.. فإنهم يشكلون جميعا ما أطلق عليه شوبنهاور بالتعارض مع جمهورية العلماء، اسم جمهورية العباقرة.
هذا التمجيد يدفعنا إلى طرح السؤال عن تأثير الأقوام السابقة على اليونان؟ هنا يعترف نيتشه بتعلم الإغريق من شعوب أخرى (كالمشارقة)، لكنه يستدرك أن ميزة الإغريق هضموا الثقافة الحية لشعوب أخرى، فإنهم عرفوا أن يلتقطوا الرمح من حيث تركه شعب أخر لكي يلقوا به إلى أبعد. أنهم لجديرون بالإعجاب من حيث فنهم في التعلم بشكل مفيد، وعلينا أن نحذو حذوهم في التعلم من جيراننا واضعين المعرفة المكتسبة كدعامة في خدمة الحياة، وليس في خدمة المعرفة الموسوعية التي ننطلق منها لكي نتعالى على الجار". إذاً حسب نيتشه لا عجب أن نتناول الفلاسفة السابقين لأفلاطون، وكأنهم مجتمع منسجم. من هنا نتساءل: كيف نفسر هذا الإعجاب النتشوي بالإغريق؟ ولماذا وصف الفلسفة اليونانية بالمأساوي، ووصفهم بالعباقرة؟
1. بدايات فعل التفلسف.
يقول نيتشه: "إن الفلسفة اليونانية تبدأ بفكرة غريبة؛ وهي أن الماء أصل كل الأشياء، هل من الضروري حقا أن نتوقف عند هذه الفكرة وأن نأخذها على محمل الجد؟ بالتأكيد وذلك لثلاثة أسباب:
أولا: هذه العبارة تتناول بطريقة ما أصل الأشياء.
ثانيا: لأنها تتناوله بمعزل عن السرد الخيالي (الأسطورة).
ثالثا: هذه العبارة تتضمن فكرة "أن الكل هو واحد".
إذاً نيتشه هنا يتحدث عن أول الفلاسفة الطبيعيين: طاليس Thalès
حسب السبب الأول ما زال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينين والخرافيين، لكنه يخرج لسبب الثاني كمفكر في الطبيعة، أما المبدأ الثالث يجعل منه أول فيلسوف يوناني.
اعتبر نيتشه طاليس أول فيلسوف يوناني لأنه أرجع بنوع من الحدس الفلسفي التعدد الموجود في الكون إلى عنصر واحد، هو (الماء) متجاوزا الاعتقاد الأسطوري والخرافة. هذا المفهوم الذي اعتمده طاليس (الحدس) في بناء فلسفته، سيصبح من أهم المفاهيم المعاصرة خاصة عند برغسون.
إذا كان طاليس أرجع التعدد الموجود في الكون إلى الوحدة والقول بالماء، فإن انكسيمندرس يحاول أن يحتوي فكرة طاليس ومتجاوزها في نفس الوقت، فهو يتساءل كيف يمكن لهذا التعدد أن يكون ممكنا بالرغم من ذلك، إنه ليس هناك إلا وحدة أبدية.
بهذا الاكتشاف الذي قام به الفلاسفة ما قبل السقراطية فإنهم في نظر نيتشه يشكلون جميعا ما أطلق عليه شوبنهاور بالتعارض مع جمهورية العلماء، اسم جمهورية العباقرة. بل أكثر من ذلك أغلب نصوص نيتشه كانت على شكل حوار مع هؤلاء العظماء بلغة هايدجر والعباقرة كما وصفهم شوبنهاور. فمثلا استعادة الحوار على القمم بين انكساغوراس وكانط، فالصيغة الشهيرة لأنكساغوراس "الواقع في العالم شبيه بلعبة النرد، في كل منطقة لها معنى مختلف". أنكساغوراس ممن يقول بتعدد الجواهر، فالجواهر بالنسبة له غير محدود. وهي الفكرة التي ستروق كانط فيما بعد.
2. هيراقليطس ضــد بارمنيدس:
يمثل هيراقليطس فيلسوف الصيرورة، حيث يقول "إنني لا أرى سوى الصيرورة، لا تنخدعوا؟ إنه لتأثير نظركم القاصر، ولا علاقة لذلك بجوهر الأشياء، إذا كان يتراءى لكم في مكان ما أنكم ترون أرضا صلبة على بحر الصيرورة والموجودات الزائلة. إنكم تستعملون أسماء الأشياء كما لو كان لها زمن ثابت ولكن حتى النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية ليس هو نفسه كما كان لأول مرة".
فالصيرورة عند هيراقليطس شملت الزمان ذاته ذاته، حيث يقول "إن كل لحظة من لحظات الزمان لا تتحقق إلا بإزالة اللحظة السابقة، وسرعان ما تتعرض هي نفسها للزوال". فكل صيرورة تولد من صراع الأضداد، والصراع مستمر إلى الأبد. هنا سيجد هيغل في هيراقليطس تلك الشخصية المفهومية بلغة جيل دولوز حيث سيأخذ منه فكرة صراع الأضداد، ليؤثث نسقه الفلسفي.
هنا شكل بارمنيدس نقيض هيراقليطس، بحيث يعتبر فيلسوف السكون والوحدة. هنا توصل بارمنيدس إلى وحدة الوجود بفضل الاستنتاج المنطقي، حيث قال: "إن الوجود موجود واللاوجود ليس موجودا". في نظره لا يمكن أن تكون أ = لا أ ، هذا انحراف في الفكر، فلا وجود سوى للوحدة الأبدية، منتصرا للفكر على الحواس(فالحواس في نظره لا تنتج إلا أوهاما)، ولمبدأ عدم التناقض، هنا يعتبر بارمنيدس مؤسس المنطق. حسب بارمنيدس لا يمكن لنا إدراك اللاوجود بالفكر؛ لأنه خارج متناولنا، كما لا يمكننا أن نعبر عنه بعبارات، في الواقع أن الفكر والوجود هما نفس الشيء.
لقد وصف لنا شوينهاور هذا الصراع الخاص بكل صيرورة، وهذا التعاقب الأبدي، وصفا جميلا في كتابه "العالم كإرادة وتمثل"، يقول:
"إن العالم هو لعبة زوس Zeus، أو بعبارة فيزيائية لعبة النار مع نفسها، وبهذا المعنى فقط يكون الواحد هو في نفس الوقت المتعدد".
لتوضيح الصيرورة الموجودة في العالم كذلك والتي لا يمكن أن يراها الرجل المنغلق داخل حدوده، فهو يتجاوز هذا القصور بفضل استعارة رائعة، يقول: "وحدها في هذا العالم، لعبة الفنان والطفل تعرف الصيرورة والموت، تبنى وتعدم، بدون أي اتهام أخلاقي، وداخل براءة دائمة. فهكذا تلعب النار الحية أبدا، مثل الطفل والفنان، هي كذلك تبني وتهدم بكل براءة.. وهذه اللعبة، هي الأبدية تلعب مع نفسها. إن النار بتحولها إلى تراب وماء، تكدس مثل الطفل أكواما من الرمل على شاطئ البحر، إنها تكدس ثم تهدم. وهي من وقت لأخر تكرر لعبتها مرة أخرى، فتتوقف لحظة التخوم، ثم تنتابها الحاجة كالفنان الذي تدفعه الحاجة نحو الإبداع... إن الطفل يرمي دميته لحظة، ولكنه ما يلبث أن يلتقطها منساقا وراء نزوته البريئة.."
حاصل القول، إن البحث في الفلسفات ما قبل الأفلاطونية، باعتبارها تمثل بديات العقلانية العلمية، يتطلب بذل مزيدا من الجهد، لذا نجد لها صدى حتى ما بعد نيتشه مثلا القراءة التي قام بها هايدجر لهؤلاء لا تقل أهمية عن نيتشه. هذا الأخير يعترف بأن الإغريق يتصف بالصحة، فإنهم منحوا الفلسفة نفسها شرعيتها نظرا لأنهم تفلسفوا متخطين بذلك جميع الشعوب. فالفلسفة مع اليونان وخاصة الحكماء السبعة كانت تبحث في ظواهر الكون، والبحث عن المصدر الأول، أو بعبارة طاليس" الكل هو واحد"، بمعزل عن السرد الخيالي؛ أي الجانب العلمي حاضر، بعيدة عن الاحساس والعواطف، لأن البحث في هذه القضايا ينزع عن الفلسفة ذلك الطابع الحدسي الفلسفي، حيث يقول هايدجر "بالعواطف الجميلة ينشأ الأدب الرديء".
الهوامش:
- فريديريك نيتشه، "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ط2.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب