الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصا موسى

هويدا نمر-زعاترة

2015 / 3 / 25
الادب والفن


ضرب موسى عصاه فانشق بحر الناس تحت وابل الرصاص... سبيلٌ واحدٌ يؤدّي إلى البحر، إلى الخارج... يتراكضُ قطيعُ الناس المحشور في السبيل حيثُ ضَرب موسى عصاه.
ثلاثةُ اخوةٍ يأخذهم البحر إلى لبنان وهي تفلت من الموت المنهال على حيفا وتلجأ الى بيت العائلة، عائلةِ زوجها في الناصرة حيث تسكن وتملك بيتًا وأرضًا.
أربعةُ اولادٍ لها في عمر الورد تتفتّح حيواتهم على قسوة الكدّ والعمل، وطفلةٌ في عامها الثاني تكبر في قفص الحكم العسكريّ وفي ظلّ قصص التهجير واللجوء والعائلة التي تفرّقت في الأرض، إنّها والدتي...
أهمّ شي تتعلّموا... العلم سلاح، خاصّة للبنت... تعويذة تردّدها والدتي تُحفر في أرواحنا.
لم أكمل تعليمي يمّا، حرمت أو ربما تخلّيت عن حلمي. لم يكن ذاك زمنَ الأحلام، لقد كان زمنَ البقاء...
طريقٌ وعرة معتمة، بردٌ قارس كسيخٍ ينغرز في العظم، الوحلُ حتى كاحلي ومطرٌ لا يتوقّف، بعيدًا في أعلى التلة يبدو شبحُ والدتي جدّتِك شامخًا، أصِلُ ذراعيها عصفورةً مبللةً... أرتعد من البرد، نهبط التلةَ نغوص في الأوحال، نصل البيت.
آخرَ الليل وعلى ضوءٍ شحيح سقيم يعلو فيه تيّارُ المولّد المتهالك ويهبط، وبآخرِ ما بقي لهذه العصفورة النحيفة من قوّة، تنجز الفروض المدرسيّة، فأعمالُ المنزل أوّلا!
... عكّازتها أنا، هيك ستّك كانت تسميني يمّا، آخر العنقود، ابنة الشيخوخة، سمّوني باسمة لكنّ حي-موت هو الاسم الذي التصق بي في طفولتي المبكّرة. قمتُ من بين الأموات طفلةً لم يبزغ عليها سوى بضعة شموس تمرّدت على الموت وطردته بعيدًا لأكون عكّازتها ويد يمينها في أعباء المنزل، وساعِدَ والدي الأيمن في أعمال الفلاحة. ايدك خضرا يابا خدي ازرعي ها الشتلات.
زرعت وفلحت ورعيت المواشي والدواجن...
وأدرت ظهري للمدرسة!

والدي،
لم يكمل والدُه عقدَه الثالث ليتركه طفلًا رضيعًا في حضن أمّه. عام الثورة... سفك دماء وقلاقل وحياة على كفّ عفريت. يجب أن نزّوجها!
...أصبحتْ من عائلة أخرى وأقامت عائلةً جديدةً.
انتُزع أبي من حضن أمّه ليتلقّفه حضن جدّته الدافئ المتدفّق نهر حنان في محاولةٍ لتعويضه عن اليتم واللطم من طرف أمّ على قيد الزواج والتقاليد والاضطرابات... ولد له أخوة قاموسيًّا ليسوا بأشقّاء، عاطفيًّا أكثر من ذلك، جيناتهم تشبه جيناته، يلفّهم حبل سرّة ومحبّة غامرة لا تأبهُ لكونهم يحملون اسم عائلة أخرى.
يولد في عام الثورة ويشبّ في عام النكبة ويصاب ويلاحق ويسجن في أعوام النضال ضد الحكم العسكريّ ليس قبل أن تسجن أخته لتكون أوّل معتقلة من النساء الفلسطينيّات في السجون الإسرائيلية.
فكيف حدث ذلك؟
... أجساد لشباب ورجال ونساء ممدّدة أمام الشاحنات.
لن تحمّلوهم على شاحناتكم وتمشوا إلّا فوق أجسادنا!
من هؤلاء؟
إنّهم من عصبة التحرّر الوطنيّ يحاولون منع تهجير الأهالي، سكّان الحي الشرقيّ... أعرفها عصبة التحرر الوطنيّ أسمعها تتردّد على لسان جدّتي التي لا ترى ابنها إلا لِمامًا. لا يعطونه التصريح صعب المنال للقدوم من حيفا إلى الناصرة!
ما بيعطوها يامو لابن الجيران فكيف يعطوها لخالك يا قبّارتي وهو عضو في العصبة؟ هكذا تمخر اللهجة الشامية المحبّبة في نهر حنان الجدّة التي جاء بها الجدّ عروسًا/طفلةً من بلاد الشام...

أريد أن أكون كهؤلاء. يجب أن نرفع عنّا الظلم، أن نكسر قضبان السجن الكبير الذي يقيّد حركتنا ويحسب علينا أنفاسنا.

كلّ خطوة يحاصرها تصريح، لا أماكنَ عمل هنا. الخال والأخ الأكبر يعملان في حيفا... وفراقٌ آخر وشتاتٌ عائليّ آخر...
يعيش الأخوان، أبي وعمّتي مع الجدة تحيطهما بحبّها ورعايتها،
بعيدًا عن الأمّ، بعيدًا عن الأخ الأكبر، بعيدًا عن الخال، بعيدًا عن الأشقّاء،
عائلة توزّعها يد الحظّ والحاكم العسكري وتصاريحه، ويخنقها شظف العيش وتعالي رغيف الخبز!
الرغيف الذي يُخبز في فرن والده والذي استأجره بعد وفاته لاجئ من صفد عمل عنده وسكن هو وعائلته بكلّ ترحاب حوشه.
ليه تترك المدرسة يامو؟ ما انت من أشطر رفقاتك، مو قلت لك بتتدبَّر يا قبّارتي؟...

منجرة الخال تصبح بيتَه الثاني يتعلّم الصنعة بسرعة ويبدع بها، يخطّط ويرسم أجمل التصاميم ويصبّ بها روحه التوّاقة للجمال والفنّ.
والقصة تعيد ذاتها مع الأخت النجيبة التي تترك مقاعد الدراسة مرغمةً، تتعلّم مهنة الخياطة وتنقل ما تتعلّمه للرفيقات المشاركات في دورة بادرت لإقامتها في جمعيّة النهضة النسائية، "فتحرر المرأة يبدأ من تحررها اقتصاديًّا"...
يعمل الأخوان ويزيحان بعض الهمّ عن الجدّة أمّا عطشهما للفهم والمعرفة فيشبعانه بالمطالعة "والتثقيف الذاتيّ" والمشاركة بالمحاضرات التثقيفيّة في مقرّ العصبة وهناك يتعرّفان على الماركسية والفكر الشيوعيّ وسرعان ما يتبنّيانه، فيلتحقان بصفوف شبيبة العصبة التي تنضمّ الى مثيلتها في الوسط اليهوديّ لتُعرَف فيما بعد باسم الحزب الشيوعيّ الاسرائيليّ وتصبح أخته قائدة نسائية وأوّل محترفة حزبيّة، امّا هو فيكدح في صنعته كنجّار ويبدع كخطّاط، يوظّف موهبته في كتابة الشعارات الثورية ليلًا على حيطان المدينة، وعلى ورق مقوًّى يُرفع في المظاهرات.
... لا للتمييز القوميّ، فليسقط الحكم العسكريّ، عاش الأول من أيّار، يا عمّال العالم اتّحدوا...
يحمل كلمة الحزب نهارًا على متن الجريدة التي يجوب الشوارع ليوصلها إلى الناس.

يتزوّج، يبني عشّا وينشئ عائلة صغيرة تتكوّن من ثلاثة، أنا وأخوَيّ.
"يعاني" اخواي في بيتنا من التمييز المصحّح، لا يحصلون على ميزات الذكور بل يعامَلون كما تُعامل أختهم، لا فرقَ في الحدود ولا القوانين بينما أحصل انا على ميزات البكر "الوحدانيّة"!

تعلّمني عمّتي الأغاني والأناشيد الثوريّة والأمميّة ويحفّظني والدي أشعار رفاقهم؛ توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران.
تتباهى عمّتي وتزهو والدتي وتغرورق عينا والدي بدموع حبيسة تتكاثف فيها كلُّ تجارب العمر مختلطًا حلوُها ومرُّها بزهوّ الأب الفخور بفرخه العوّام حين أغنّي او ألقي القصائد أمام الأصدقاء والمعارف.
أقف أمامهم فينطلق لساني:
" فلتسمع كلّ الدنيا ... فلتسمع
سنجوع .. ونعرى
قطعًا .. نتقطّع
ونسفّ ترابَك
يا أرضا تتوجّع
ونموت .. ولكن
لن يسقط من أيدينا
علم الأحرار المشرع
لكن .. لن نركع
للقوّة .. للفانتوم ... للمدفع
لن نخضع
لن يخضع منا
حتّى طفل يرضع"
!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي