الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اهدموا أهراماتكم

السيد نصر الدين السيد

2015 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


لم تكن اهرامات الجيزة الثلاث رمزا لخلود ما يقيمه الانسان من منشآت فقط، بل كانت أيضا "نموذجا" يحتذى به ... !. نموذجا لما ينبغي ان يكون عليه تنظيم ما يقيمه الانسان من كيانات اجتماعية واقتصادية وسياسية؟ وهكذا ألهم المصريون بقية الأمم "البنية الهرمية"، او "الهرمية" Hierarchy، لتكون الهيئة التي تنتظم عليها مكونات أي كيان، بشرا كانوا او وظائف او تقسيمات إدارية. ففي هذه البنية تتراص المكونات في طبقات يعلو بعضها البعض الآخر، ويسيطر من يوجدون في الطبقة الأعلى على من يشغلون الطبقة الأدنى بما يحوزه من عناصر القوة. وهي العناصر التي تتنوع اشكالها ما بين سلطة اتخاذ القرارات والسيطرة على أدوات تنفيذه، او القدرة على التوصل الى المعلومات. ويتدرج توزيع هذه العناصر على طبقات الهرمية فيزداد تمركزها كلما صعدنا الى أعلى نحو القمة ويقل تواجدها كل اتجهنا نحو القاعدة. وتأخذ هذه الهرميات اشكال متعددة فهي قد تتجسد في "المكان" فتكون على هيئة هياكل تنظيمية كتلك التي نراها المؤسسات الحكومية او الشركات. وهي قد تكون على هيئة قيم واعراف تحكم علاقات البشر بعضهم بالبعض الآخر فتسمع امثالا من قبيل "العين ما تعلاش على الحاجب" و"الميه ما تجريش في العالي" وغيرها من أمثال واقوال ترسخ "الدونية" في نفوس البسطاء وتحثهم على البحث عن "كبير" يحتمون به "واللى ما لوش كبير يدورله على واحد". وهكذا يفقد الانسان استقلاليته وتتآكل قدرته على "المبادرة" ويتحول الى كائن رخو في حالة "انقياد" دائم للكبير وينتظر ما سيأمر به "الكبير". وللكبير هذا اشكال متنوعة فهو قد يكون شيخ قبيلة او اب لعائلة ممتدة او رجل دين إسلاميا كان او مسيحي. ولا يقتصر وجود الهرميات على "المكان" بل نراها أيضا في "الزمان" وذلك عندما تتحكم منتجات مرحلة زمنية سابقة احداث مرحلة زمنية لاحقة فيؤمن المعاصرون ايمانا لا يتزعزع بما ورثوه عن الاقدمين ويعتقدون انه كلما تقادم الشيء وتعتق كلما ارتفعت قيمته وازدادت مصداقيته...!؟

وإذا كانت اهرامات الجيزة ظلت صامدة ومقاومة لأفعال الزمان، فان النموذج الذي الهمته، وهو الهرمية كبنية تنظيمية، لم يكن له نفس المصير. فلقد شهد النصف الثاني من العشرين العديد من التوجهات التي أدت مجتمعة الى "تسطيح" الهرميات، او الى تقليل عدد طبقات الهرمية الى اقل عدد ممكن، هذا بالإضافة الى ظهور وانتشار بنية تنظيمية أخرى هي "الشبكة". و"الشبكة" هي البنية التنظيمية التي تتمتع كل مكوناتها باستقلالية في الفكر والفعل، وتحكم التفاعلات فيما بينهم علاقة "الند بالند"، على عكس علاقة "التابع والمتبوع" او "الآمر والمأمور" التي تحكم التفاعلات بين مكونات الهرمية، وأخيرا تحظى هذه المكونات بنصيب شبه متساوي من عناصر القوة.

وأول هذه التوجهات هي "العولمة (الكوكبة)" التي تعني امتداد رقعة النشاط الإنساني لتشمل كوكب الأرض كله متجاوزة في ذلك حدود الدول والاقاليم. وهي التي يعرفها البعض بأنها "عملية التكامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي بين البلاد على مستوى العالم". وبالطبع يتطلب تنفيذ الأنشطة العابرة للحدود (او المكوكبة) تعاونا بين أطراف متعددة متعارضة المصالح يتمتع كل منها بقدر كبير من الاستقلالية وحرية اتخاذ القرار. وهنا تبرز بعض قصور "الهرمية" كبنية تنظيمية لإدارة الأنشطة وذلك لطبيعتها المتعلقة بتركيز عناصر القوة في أيدي عدد محدود من المكونات يشغلون طبقاتها العليا.

اما ثاني هذه التوجهات فهو "التعقد الفائق" الذي تشهده المجتمعات المعاصرة. وهو التعقد الذي تشكله ثلاثة عوامل متداخلة هي “التنوع الفائق"، "التواقف المتزايد"، و"التغير المتسارع". ويتعلق "التنوع الفائق"، أول أبعاد التعقد، بتعدد وتنوع مكونات المجتمع المادية والمعنوية والبنيوية. فعلى سبيل المثال ينتج المجتمع الفرنسي حوالي 350 وأكثر من أنواع الجبن بينما لا ينتج المجتمع المصري إلا 4 أنواع فقط (الرومي، الدمياطي، القريش، المش). ولايقتصر تعدد وتنوع مكونات المجتمع الحديث على مكوناته المادية المتمثلة فيما ينتجه من سلع مصنعة بل يمتد أيضا ليشمل مكوناته غير المادية (المعنوية). وهي المكونات التي تشمل الرؤى والمعتقدات والأفكار المختلفة التي يعزز تواجدها مبدأ "حرية التفكير"، هذا بالإضافة إلى البنى الاجتماعية والسياسية التي تضمن وجودها وفعاليتها "مبادئ حقوق الإنسان". أما ثاني أبعاد التعقد، "التواقف" (أو "الاعتمادية المتبادلة") Interdependence، فيتعلق بطبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع الحديث التي تتميز بتشابكها الشديد ومن ثم اعتماد وجود كل مكون من هذه المكونات وأفعاله على إمكانيات وأفعال بقية المكونات. ونصل أخيرا إلى ثالث أبعاد التعقد، "التغير المتسارع"، فلقد بلغت معدلات التغيير خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبلغ خمسة أضعاف متوسط معدلات التغيير في القرن العشرين. فعلى سبيل المثال تطرح شركة سوني اليابانية منتجا جديدا كل 20 دقيقة بينما تقدم شركة ديزني الأمريكية منتجا جديدا كل 3 دقائق ...! ولا يمكن مواجهة هذا التعقد وادارته الا بتنشيط روح "المبادأة" لدى أعضاء المجتمع وتفعيل الدور الذي يلعبه كل منهم في تنظيم وإدارة شئون حياته بوصفه انسانا له رؤيته الخاصة وليس مجرد ترس في آلة. فبدون هذا الدور النشط للفرد يتحول المجتمع الى كيان متيبس غير قادر على التعامل مع تعقد الواقع المعاصر.

اما ثالث هذه التوجهات فهو ظهور برمجيات التواصل وانتشارها غير المسبوق. فعلى سبيل المثال بلغ عدد مستخدمو الفيسبوك Facebook على مستوى العالم المليار و400 مليون مستخدم. وتعتبر هذه البرمجيات تجسيدا ملموسا للبنية الشبكية التي تتساوى فيها الرؤوس والتي تتيح لمستخدميها التعبير عن آراءهم دون قيود، وتيسر لهم تشكيل "مجموعات مصالح"Interest Groups. وهي بذلك توفر البنية الاساسية لـ "ديموقراطية المشاركة" لتحل محل "ديموقراطية التمثيل".

لقد أدت هذه التوجهات وما صاحبها من تغيرات الى الكشف عن عجز "الهرميات"، بشتى اشكالها، مواكبة التغير الذي تزايدت معدلاته، وعن عدم قدرتها على التكيف مع مستجدات الواقع. وهذا العجز هو نتيجة طبيعية لحصرها ميزة المبادأة وحرية اتخاذ القرار في قلة تحتل قمة الهرمية، بتحديدها اتجاه الحوار ليكون من اعلى لأسفل، وبقصرها موضوع الحوار على الأوامر والنواهي والممنوعات والمسموحات. وهي بذلك تحرم المجتمع من الطاقات الكامنة في الكثرة من افراده وتكرس فيهم حالة القنوط والإحباط واللامبالاة.

ان انتشار الهرميات، بشتى أنواعها، وتغلغلها في صلب تكوين مكونات مجتمعنا، مؤسسات وافراد، يقلل من فرص نجاح عملية "التنمية المستدامة" ويشكل عائقا امام محاولات تحديثه. لذا يصبح هدم هذه الهرميات، او حتى تسطيحها، امر لا غنى عنه ان رغبنا دخول نادي "النمور الاسيوية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا اشتعلت النيران في جسد الجندي الإسرائيلي بعد قنصه من قب


.. غزة.. ماذا بعد؟ | مقاومة شرسة تواجهها قوات الاحتلال في غزة




.. طلاب جامعة -نيشان تشي- التركية يتضامنون مع فلسطين


.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تعلن تدمير 4 دبابات إ




.. بكين ترسل تحذيرا إلى سفينة حربية أميركية أبحرت في بحر الصين