الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الشعوب غير المكتوب

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2015 / 3 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


البرد يزحف بطيئا فوق الأسفلت، من تحت أجسادهم فى المقبرة وفى السجن أواخر نوفمير 2014، البرد فى نهاية الخريف يشبه البرد فى نهاية الشتاء، منذ أربع سنوات إلا بضعة شهور، رأيتها فى ميدان التحرير راقدة فوق الأسفلت، فى فبراير 2011، سقوط مبارك واعتلاء المجلس العسكرى برئاسة طنطاوي، اقتحمت الفرق المسلحة الميدان فوق الأحصنة والجمال، الرصاص وكرات النار تطير مشتعلة، والدم يراق فوق الأسفلت، وهى ثابتة فى مكانها.
ملامحها منحوتة فى صخرة وسط الخضم، تضربها الأمواج من كل جانب وهى شامخة لا تنكسر، تنكسر الأمواج فوق هامتها المرفوعة لا تنحني، شعرها الأسود زحف اليه الشيب، رأسها فخرها تكشفه بكل ثقة واعتزاز، عيناها نفاذتان ممدودتان إلى ما وراء الأفق، يكسوهما بريق يخطف البصر والقلب، لا يطرف لها جفن لا يرتعش لها رمش، بشرتها سمراء محروقة بالشمس، يداها مشققتان من طول ما اشتغلت وشقيت، شفتاها مزموتان بغضب أقوى من غضب النمور الغاضبة، أقوى من غضب النساء والعبيد منذ نشوء العبودية، واقفة صامدة كالأسدة، خطفوا منها أشبالها، لا تتزحزح من مكانها، من خلفها طابور الأمهات صامدات، بقوة الحزن والغضب، بقوة الأمومة لا تعلوها قوة، لا تغلبها القوى العظمى على الأرض والمجرات والكواكب.
إغتالوا أولادها وبناتها غدرا وخيانة، لم يقترفوا جريمة أو جنحة، إلا تلبية نداء الثورة دفاعا عن الوطن، وما هو الوطن؟ أليس هو حضن الأم؟ الأمان والحب والعدل والحرية والكرامة؟ كيف يقتل الوطن من يفدونه بالروح والدم؟ ثم يكافئ من يسرقونه وينهبونه ويهربون المليارات؟ كيف يقتل الوطن أبناءه وبناته، من أجل قلة تملك الأراضى والعقارات والأحزاب والأسلحة والقوانين والأديان والثقافة والتعليم والأخلاق والشرف، قلة قليلة يتاجرون فى البورصات والأسواق الحرة بكل شيء، من الوطنية والثورية إلى الدين والأبوة؟
فى الميدان واقفة كالصخرة، لا تصرخ لا تبكى لا تبل عينيها دمعة، لا تنتفض بوجهها عضلة، يقولون لها أبناؤك وبناتك ليسوا ضحية، وإن أريقت دماؤهم لا يموتون، يعيشون رغم أنف التاريخ المكتوب، ومن يكتب التاريخ؟ أليست هى الطبقة ذاتها التى تملك الأوراق والأقلام والأراضى والقوانين والمحاكم والسجلات والأختام ودهاليز الحكم والسياسة والإعلام؟
يقبل الليل باردا، الشتاء يزحف فى فبراير 2011، يهبط المطر فوق رأسها العارى لا تغطيه، رأسها هو شرفها وكبرياؤها كيف تخفيه؟ يخلو الميدان إلا من طفلة تمشى وحدها فى الظلمة تحمل علما صغيرا، جسمها نحيف داخل جلباب قديم، يغرق شبشبها البلاستيك الأصفر فى ماء المطر والوحل، الهواء يضرب شعرها المربوط بشريط أسود، تمشى رافعة رأسها لا تهاب العسس وعربات البوكس، تبحث عن صورتها بين الصور المعلقة على الجدار لم تعثر على صورتها أو جثتها بالمشرحة، الجدار دهنوه بطلاء براق، فوقه صور جديدة لامعة المتنافسين على مقاعد البرلمان.
مرت ثلاث سنوات وتسعة شهور، منذ انطلقت الرصاصات من العربة البوكس واخترقت صدره، قميصه الأبيض المغسول بيديها أصبح أحمر اللون، دماؤه تتدفق على الأسفلت، جمعتها بكفيها المشققتين لتملأ بها صدره، يشحب وجهه ويخلو صدره من الدم ليمتلئ من جديد، يفتح عينيه ويبتسم فى وجهها، يتعرف عليها من بين الملايين، عيناها سوداوتان بلون عينيه، وبريق الحب هو البريق، بشرتها سمراء بلون بشرته، أصابعها الطويلة النحيفة تشبه أصابعه، يلثمها بشفتيه، كفاها مشققتان من طول ما اشتغلت وشقيت، من طول ما غسلت الصحون والهدوم ودعكت السيراميك والمراحيض.
كانت تشقى الليل والنهار لتنقذ أولادها وبناتها من الظلم والهوان، من أجل ألا تتشقق أيديهم بالصودا الكاوية والفنيك، ليمسكوا القلم والريشة بدلا من المكنسة والخيشة، ليصبحوا من البشر وليس من العبيد، ليصبح العدل فوق القوة ويصبح الشعب فوق الحكومة.
الصخب والهتافات باسم الديموقراطية والانتخابات، تطغى أخبار توزيع الدوائر والمقاعد، على أخبار الذين ماتوا فداء الوطن، الذين فقدوا عيونهم ودخلوا السجون، نسيهم أصحاب المليارات وإعلامهم، لم تجرؤ الأرض على أن تشرب الدم، هذا الدم الذى أسقط الحكام القدامى ورفع الحكام الجدد يتبارى الكتاب والصحفيون والصحفيات على تدبيج المقالات، كعادتهم فى كل عهد يسبحون مع التيار باسم الوطن، لا يذكرون من قدموا دماءهم فداء الوطن، يكرر التاريخ نفسه بغباء شديد، وتظل الأم صامدة كالصخرة، من خلفها طابور الأمهات، ينتظرن اللحظة لينقضضن كالنمور الكاسرة، على من أكلوا أولادهن وبناتهن، إنه تاريخ الشعوب غير المكتوب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شعوب تعشق جلاديها ؟
س . السندي ( 2015 / 3 / 26 - 21:49 )
بداية تحياتي لك سيدتي نوال السعداوي وتعلقي ؟

1: أحييك علو شجاعتك في طرح الأفكار ولكن لمن فقد غدى الكل دواعش أو حوالش أو في الغدر ثوار ؟

2: مصيبة المرأة في أوطاننا أنها لا ترحم نفسها ولا الاخريات من بني جنسها لأنها بكل أسف وألم هى كالرجل متشبعة بالثقافة البدوية العفنة والمريضة ؟

3: الانتخابات البرلمانية في مصر على الأبواب ، فلما لا تنتخب المراة في مصر فقط من هن من بني جنسها ليتمكن من إحتلال نصف مقاعد البرلمان دون منة من حكومة أو سلف أو إخوان ؟

4: وأخيرا ...؟
أرجو أن يكون من خلالك صرخة لمن لازلن يعشق الرقص على ظلال الدجل والخرافة بأن يفقن من سباتهم ، سلام ؟


2 - تاريخ
ناس حدهو م أحمد ( 2015 / 3 / 27 - 19:48 )
وماذا بعد يادكتورة نوال وقد مرت كل هذه الأحداث وتم إسقاط لصوص المال العام لتجري الإنتخابات ويصبح الشعب المصري أمام لصوص الأرواح ولصوص الحرية ولصوص الإرادات الحرة وتصبح من جديد تحت قبضة حديدية لعصابة لا تسمح لمن يسائلها لأنها تتحدث بالمطلق . عصابة تتآمر على الوطن مع الخارج لأنها لا تؤمن بالمواطنة ولا يحرية التعبير ولا بالتنوع ولا يحرية العقيدة بينما الشعب المصري 20 في المائة من نسيجه الإجتماعي هم من الأقباط المصريين الذين يتموقعون في الدرجة الثانية من المواطنة . ولولا الثورة الثانية التصحيحية لكانت مصر اليوم قد تهاوت إلى حرب أهلية طاحنة . وكيف يعقل أن يحكم مصر مثل هؤلاء المتزمتون ذوو الفكر البائد والتعاليم المطلقة التي تحارب كل من لا يخدم مسارها . ماذا بعد ياسيدتي ومصر لم تتغير بعد ؟

اخر الافلام

.. توقعات بتسليم واشنطن قنابل نوعية للجيش الإسرائيلي قريبا


.. غالانت: لا نسعى إلى الحرب مع حزب الله لكننا مستعدون لخوضها




.. حشود في مسيرة شعبية بصنعاء للمطالبة بدعم المقاومة الفلسطينية


.. فايز الدويري: الاحتلال فشل استخباراتيا على المستوى الاستراتي




.. ساري عرابي: رؤية سموتريتش هي نتاج مسار استيطاني طويل