الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزنزانة

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2015 / 3 / 27
الادب والفن


عندما أقدمت على فعلتي المشؤومة التي أودت بي إلى هذا السجن لم أكن أعرف أني سأخضع للتعذيب بكل أنواعه.
والحقيقة لست نادماً على عملية السطو التي قمت بها،ولو خرجت من السجن لارتكبت نفس الجرم، اللهم أن لا تكون نوبة ذلك الشرطي الذي لم يترك في جسمي شيئا إلا ورّمه.في فترة التحقيق سمعتهم ينادونه أبو الموت،وعندما أتيحت لي الفرصة لأنظر في وجهه،عرفت السبب.فأول ما قابلت أبا الموت،تعرف عليَّ بلطمة من يده على وجهي،أحسست أن بضعة أرطال من أكياس الرمل انهالت علي مرة واحدة.ثم استعمل رجله لزيادة التعارف، فلم أستطع عد الرفسات لكثرتها وسرعتها، وهذا كله قبل أن ينبث بكلمة.وعندما شبع خبطاً ورفسا استجمع قاموس شتائمه وانهال علي،وأنا لا أرى سوى خبطات وأسمع صوته الذي كان أشبه بصوت بغل يسأل ويكرر: من كان معك في الجريمة يا كلب؟وبما أنه لم يستطع كسري،كنت ما زلت أتمتع بمعنويات نفسية قوية،ووصل كرهي للشرطة حده الأقصى ،فأصبح أبو الموت بالنسبة لي كالخرقة الحمراء عند الثور وكنت بكل حواسي مستعداً لإيذائه،لكن السوار الحديدي الذي وضع في معصمي المشدود على الحائط خذلني في بادئ الأمر،إلا أني بصقت عليه وبطريقة كالبرق رفسته ما بين ساقيه،فجعر كالبعير المشرف على الذبح.وبعدها صحوت في المستشفى وقد لفوني بالجص لكثرة العظام التي تكسرت تحت يدي البلدوزر أبو الموت.
في المستشفى قرأت كتاب(هكذا تكلم زرادشت)لنيتشه ونظريته في السوبر مان والإنسان الجديد،وتخيلت بأنه عندما كتب حول السوبر مان،كان ثمة شخص مثلي في مخيلته.فلا يمكن تغيير الواقع إلا بالعنف ولا حياة شريفة في الغاب إلا برصيد القوة.فشاب مثلي قد أنهى الثانوية ولم يستطع الالتحاق بالجامعة لكثرة (الواسطات) ولقلة الموارد المادية.فوالدي مات وأنا في السادسة.وعشت طوال عمري كالخادم عند عمي.ولم يمر علي يوم دون أن يتدرب بي عمي(صاحب الكرش) باللكمات والشتائم قبل النوم.فقد كرهت عمي وحارتي والجيران و لم يبق في نفسي عندما أصبحت في الثامنة عشر إلا شيء واحد وهو أن أقتل شرطياً.ولا أدري لماذا كانت رغبتي هذه تستحثني بشكل دائم من أجل الانتقام،ولماذا أنصب كل كرهي للواقع في الثأر من شرطي،أي شرطي.وأخيراً خططت لعملية سطو على البنك الحكومي،مقابل بائع الحلويات.وأقنعت صديقي (سعدو الكندرجي) أن يحمي ظهري حين أقوم بجمع الألوف من البنك.لكن عندما دخلنا البنك وأشهرت سلاحي أمام موظف البنك الأصلع ذو النظارات السميكة زعق بصوت عالي من شدة خوفه،فجفل سعدو الكندرجي وفر هارباً.وبقيت أنا وحدي في البنك أطلق النار على من يعصي أوامري .بعدها عرفت أني أصبت امرأة حاملاً بجرح بسيط وأصبت شرطياً في صدره.ثم ألقي القبض علي وأحلت إلى التحقيق مع الخبير أبو الموت.وبعد أن خرجت من المستشفى،حكم علي بالسجن عشرين عاماً،وفي بيتي الجديد تعرفت على كثير من الرفاق في القاووش.واخترت مكاناً في الزاوية مرتباً عدتي،من إبريق شاي ووابور كاز صغير من حولي وبدأت رحلتي في السجن...
* * *
في اليوم الأول من إلقاء القبض علي،صرح عمي (أبو كرش) أمام وجهاء الحارة بأني لست قريبه وهو بريء مني إلى يوم الدين.وبالمقابل قلت الشيء نفسه في سريرتي.
لم يعجبني أحد في السجن بادئ الأمر،فمعظمهم قد بدا شاربه كالعريشة المتدلية على كهف مظلم.وتعلمت أسماء البعض وخاصة مطرب القاووش ( أبو الليل) الذي كان عمله اليومي هو طرب المساجين.فكانت مواويله تعجُّ بكلمات الاعتراف بالذنب ولعن الزمن الغدار ورضا الوالدين.كان صوته حزيناً كئيباً مكسوراً.
لم أشارك معظم حلقات الكذب وضرب (المراجل).فكان كل منهم يروي قصة تختلف عن سابقتها في سبب سجنه وطريقة قتله لخصمه،فلا يغدو الأسبوع وإلا كل منهم قد قتل أكثر من عشرة رجال.بالإضافة إلى تلك الروايات،كان تعاطي الحشيش يسود الحلقة وتصبح العيون كبرك دم فاسد.
رأيت شاباً هادئاً يجلس بمفرده لا يشارك المجموعة،يقرأ كتاباً،فنمت بداخلي رغبة بالتحدث إليه.وعندما هممت بالذهاب،اعتراني شعور خجل المبادرة الأولى.وعند وصولي إليه،لمحت عنوان الكتاب (الجريمة والعقاب).وحالما أحس بقدومي،نهض مرحبا،ثم أجلسني بجانبه على بساط من الأحرمة يستعملها للنوم والجلوس.قال وهو يحقن الوابور:
توقعت أن تبادرني..فقلت وأنا أناوله إبريق الشاي:
- بما أنك توقعت ذلك،لماذا لم تكن البادئ !
بعدها قص لي سبب سجنه،لكنه تلعثم عندما وصل إلى مرحلة القتل والخيانة وأخذت شفته السفلى ترتجف وقد طأطأ رأسه:
- قتلتها،نعم قتلتها..لكل شيء ثمن، والخيانة لها ثمن..والثمن عندي هو القتل مرت ثوانٍ وهو صامت،أحسست من خلالها أن شيئاً في داخله يحترق وأنه يراجع حسابات مفجعة،وفمه يرفض الاستمرار في تركيب الكلمات.إلا أنه رفع رأسه ناظراً مباشرةً في وجهي وكأن شيطاناً قد مسه:
- لكني نادم على ما فعلت بها..أحببتها إلى حد العبادة.ثم أخذ صوته يتلون بالشجون والبكاء،وأصبحت الكلمات تمتط في فمه:لكن كي...ف است...طاعت أن تخون.رأيت أن من واجبي أن أعترض عليه سيل أحزانه،فقلت:لكن جرمي يختلف تماماً..فقاطعني:
- ما هو جرمك؟
* * *
أصبحنا أصدقاء،نتبادل الكتب والأفكار.قال لي مرة معلقاً:أن كل ما أرى في هذا المجتمع غريب وهجين،إنه على عتبة السقوط في هاوية الموت..أصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة،فلا بارك الله في هذه الأخلاق الصدئة.وتركته يغوص في الحديث وأنا أغوص في مخيلتي لتصطدم بنيتشه وسوبرمانه،وكما قال أن لكل شيء ثمن،فأنا أدفع ثمن أحلامي وأشعر أن ليس لي رغبة في الحياة أو فهم الواقع،فقد أضحيت كالفأر الذي تحيطه قطط جائعة وأني

لأخشى الجنون أو أن أصبح مثل (طرطور)أجذب حارتنا.
قررنا أنا وصديقي السجين أن ندرس (الحقوق)ونصبح محاميين،لكن من يريد أن يكون قانونياً،عليه أن يؤمن بعدالة قوانين حمورابي والقانون الفرنسي وقانون(الواسطات)،وأنا أرفض هذه القوانين لأنها قوانين الضعف،فإذا عرفت أن لي حقاً فسأحصل عليه بسلاحي...لكن رغم العوائق، بدأنا الطريق...
رأيت أصحاب الشنبات العريضة مرة مجتمعين يهمسون في آذان بعضهم ثم ينظرون حولهم بحذر.ففهمت أن هناك صفقة حشيش ستدخل السجن أو خطة لقتل واحد لم يدفع حصته للمجموعة.لكن بعد أسبوع من ذلك الاجتماع السري،نفذوا الخطة بإحضار الحارس بتمثيل أن أحدهم مريض ثم أنقضوا عليه وخطفوا البندقية منه.وبعدها لم أسمع إلا الرصاص وخفقة الأقدام ومعارك ضارية مع شرطة السجن.انتهزت الفرصة وأسرعت خارجاً من الدهاليز الصغيرة في السجن متجهاً إلى الشارع.إلا أن شرطياً اندفع ورائي وأطلق علي الرصاص،فأصبت في ساقي.وهوى جسمي على الأرض.وكان آخر ما رأيت أن ارتالاً من الشرطة أحاطت بي وانهالت علي بأكعاب البواريد تدق رأسي وظهري،ثم نقلوني إلى المستشفى،ولم أعرف أية أخبار عن صديقي الذي قتل زوجته.
وهاأنا الآن أستلقي في سريري وقد لفوني بالجص لكثرة العظام التي تكسرت تحت أكعاب بنادق رجال الشرطة، وكتابي المفضل (هكذا تكلم زاردشت) أمامي أقرأه مرة أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البلالين ملت الاستوديو?? أجمل أطفال الوسط الفني مع منى الشاذ


.. كواليس أخطر مشهد لـ #عمرو_يوسف في فيلم #شقو ????




.. فيلم زهايمر يعود لدور العرض بعد 14 سنة.. ما القصة؟


.. سكرين شوت | خلاف على استخدام الكمبيوتر في صناعة الموسيقى.. ت




.. سكرين شوت | نزاع الأغاني التراثية والـAI.. من المصنفات الفني