الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دولة القانون، إدعاءٌ برَّاق في مواجهة واقع عقيم مساهمة في الجدل الدائر حول مسودة الدستور العراقي

يوسف محمد

2005 / 9 / 22
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


مشروع الدستور في العراق، حاله حال أي مشروع لصياغة وإقرار أي دستور، يسعى، ضمن ما يسعى إليه، الى التأسيس لما يُطلق عليه في الأدب السياسي: "دولة القانون"، وإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة وفق رؤية جديدة تبلور عقداً اجتماعياً معيناً بين المواطنين. ورغم قناعتي الشديدة بأن مفهوم "دولة القانون"، وكأي مفهوم ومقولة أخرى، يخفي في طياته رؤية سياسية معينة ويعكس مصالح اجتماعية-طبقية محددة، وقابل للتفسير على أوجه مختلفة، إلا أن الخوض في هذا الغمار، ربما فيه الكثير من الفائدة لتوضيح أسس اتخاذ موقف محدد من الدستور.
وليس خافياً على أحد أن مشروع صياغة الدستور والسعي لإقراره والمصادقة عليه في استفتاء عام، هو حلقة من حلقات الاستراتيجية والمخططات الأمريكية في العراق. فبعد سيناريو الانتخابات الخادع، وتشكيل حكومة الطالباني-الجعفري، القومية-الإسلامية، والسعي لتثبيت هذا البديل الرجعي وإضفاء الشرعية عليه، في مسرحية هزيلة، من خلال صناديق الاقتراع، يأتي الدستور كتتمة لذلك السيناريو والمضي في مسار تعميق أوضاع الفوضى والاضطراب والموت المجاني وغياب الأمن وحمامات الدم والحرب الطائفية القائمة على قدم وساق. ولهذا سعت أمريكا وحلفائها والقوى القومية والإسلامية الدائرة في فلكها والتابعة لها الى الانتهاء من هذا الموضوع بأي ثمن كان.
إن السؤال الرئيسي هنا هل أن الواقع العراقي الحالي الحافل بالاضطراب والشائك، هذا الواقع الغارق في حمامات دم يومية وإعادة إنتاج للموت والقتل والدمار، والواقع المتداعي الذي يقف على حافة الهاوية، هل هو مؤهل لاحتضان إدَّعاء براق وطموح جداً مثل "دولة القانون"؟ هل أن القوى التي تقف خلف الدستور وتتربع الآن على كرسي الحكم ستحترم الدستور والقوانين التي صاغتها بأيديها ليمكننا القول أن هذا الدستور سيؤدي الى بناء "دولة القانون"؟ وحتى بعد ذلك، هل أن هذا الدستور، والقوانين التي ستصاغ وفقاً له، ستستجيب لتطلعات وطموحات الجماهير العراقية الغفيرة في حياة حرة كريمة مرفهة ومستقبل أفضل؟ أنا شخصياً لا يراودني أي شك في أن الإجابة ستكون منفية.
وبمراجعة بسيطة وعودة الى تاريخ القوى التي تقف خلف مشروع الدستور، أمريكا وحلفائها والقوى القومية والإسلامية التابعة لها والرابضة كابوساً على أفئدة الجماهير وتحكم باسمها، سيتبدد أي إدعاء بصدد التأسيس لـ"دولة القانون". تاريخ تلك القوى هو تاريخ العداء لأي تطلع جماهيري نحو الحرية والمساواة والرفاه والعدالة الاجتماعية والغد الإنساني المشرق. بل إن من المضحكات المبكيات أن تتحول الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة السجل الأسود في القتل الجماعي للبشر، تتحول الى رمز للتحرر والنزعة التحررية ونهضة الشعوب ودمقرطة العالم!! وكأن العالم يتناسى أن جريمة إبادة مدينتين في ظرف ثواني معدودة بقنابل ذرية، هيروشيما وناغازاكي، وجريمة الحصار الاقتصادي الذي راح ضحيته أكثر من مليون ونصف إنسان، لم تكن سوى غيض من فيض جرائمها ضد البشرية؟!
أما فيما يتعلق بالقوى السياسية البرجوازية العراقية، بمختلف أطيافها وتلاوينها، الإسلامية والقومية منها بشكل خاص، فما هناك حاجة لمراجعة التاريخ القديم وتقليب أوراقه السوداء الطافحة بالخزي والعار، بل إن نظرة على تاريخها وممارساتها طوال العامين المنصرمين كافية للحكم على المستقبل الذي تسعى لصياغته لهذه المجتمع المصاب ببلائها. لأكثر من عامين سعى الإسلاميون الى بناء جمهورية الرعب والموت والدم الإسلامية الإيرانية بنسختها العراقية في المناطق الوسطى والجنوبية وسعى بعضٌ منهم الى تأسيس إمارة طالبان الجديدة، على الأقل في الفلوجة ومناطق غرب العراق ذات الهوى السُّني. فكان لنا أن شهدنا إطلاق النار على نزهات الطلاب في جامعة البصرة، وتفجير مكاتب الفيديو والأقراص المدمجة، والحجاب الإجباري للفتيات من الأطفال والنساء عموماً، وحرق وتفجير صالونات تجميل النساء، دعك عن قتل وتعذيب بعض الحلاقين الرجال بسبب استخدامهم الأشكال العصرية لقص الشعر، وإبادة المسيحيين والتعرض للصابئة ووصل الأمر حد الإفتاء باغتصاب الفتيات في سن العاشرة خوفاً من اغتصاب قوات الاحتلال لهن؟؟!!هذا عدا عن الصراع والحرب بين المذاهب في الدين الواحد و...و...و...الخ من الشواهد الحية في ذاكرة الجميع.
وبخصوص القوى القومية العربية والكردية منها، فلن أطيل الحديث بصددها لأنها كانت شريكة، بدرجات أكثر أو أقل، بحسب موقعها ومكانتها في السلطة والمجتمع، في كل ما جرى ويجري الآن، وكانت لها يد في تعميق هذا السيناريو الأسود وهذا الواقع الوخيم، وأقول فقط أنها باعت تبجحها وإدعاءاتها العلمانية وضجيجها حول الديمقراطية والمجتمع المدني والعراق المتمدن وأخفت رأسها في الرمل مقابل حفنة من المكاسب الوقتية الزائلة الممنوحة لها الآن، وليس الجدل حول المادة الخاصة بدور الدين في التشريع سوى دليل على البلاهة وضيق الأفق والصفاقة السياسية لدى تلك القوى، وأذكر بهذا الخصوص تصريحات فؤاد معصوم (أحد قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني) حول (أل) التعريف العربية في عبارة (المصدر الأساسي للتشريع) وحذفها ليتحول الأمر الى (مصدر أساسي) وكأنه يستغفلنا، رغم أنه، في الحقيقة، كان يستغفل نفسه بتناسيه المواد والفقرات التالية المؤكدة على عدم جواز سن قانون يتعارض مع (ثوابت أحكام الإسلام!) و(ضمان الدستور للهوية الإسلامية!!) و(تأكيد صيانة الدولة للعتبات المقدسة والمقامات الدينية!!!) فضلاً الفقرات الخاصة بتنظيم الأحول الشخصية وفق (المذاهب!) ودور (المرجعية الدينية؟!) والعشرات من الفقرات المنثورة داخل طيات مسودة الدستور.
باختصار شديد، سأعود للسؤال، هل أن مثل هذه القوى، بالتاريخ والممارسات والشخصية السياسية والبرامج واللوائح العملية التي تحملها واشرنا إليها باختصار فيما تقدم، مؤهلة للإدعاء ببناء "دولة القانون"؟ وما هي الضمانات التي ستقدمها بهذا الخصوص؟ وأية "دولة قانون" تلك التي سيؤسس لها هذا الدستور؟ إنها حقاً نكتة سمجة ومحاولة لذر الرماد في عيون الناس ونسخة أخرى للخداع والتضليل.
إن دستوراً يؤسس لثيوقراطية مطلقة ودكتاتورية أصحاب العمائم واللحى ويخلط الدين بالدولة والتربية والتعليم ويصنف المواطنين على أساس الهويات المذهبية والقومية والأثنية والطائفية الزائفة ويعرف العلاقة فيما بينهم وكذلك العلاقة مع الدولة ومؤسسات الحكم على هذا الأساس، دستور يشرّع للتمييز والاضطهاد الجنسي ضد أكثر من نصف المجتمع وأقصد النساء ويجعل منه ركناً أساسياً من أركان القوانين، دستور يصادر الحقوق والحريات المدنية الأساسية والبديهية للإنسان وينتهكها بصراحة فاضحة، ليس أجدر به من رميه الى مزابل التاريخ. ذلك أن جماهير العراق، حالها حال بقية الجماهير في لعالم المتمدن، هي جديرة بدستور علماني يفصل الدين عن الدولة وعن نظام التربية والتعليم، وينطلق من الهوية الإنسانية للبشر ويستند على هوية المواطنة في تعريف حقوق وواجبات المواطنين العراقيين ومساواتهم التامة مع بعض بغض النظر عن الجنس والعنصر واللون واللغة والانتماء القومي والديني والأثني، ويجعل المساواة الحقوقية التامة بين المرأة والرجل عنصراً أساسياً من عناصره، ويرتكز على جملة من الحريات والحقوق الأساسية من قبيل حرية المعتقد وحرية التعبير والحريات السياسية غير المقيدة وغير المشروطة، ويقر بحق جماهير كردستان في القرار على مصيرها من خلال استفتاء حر وعام وصولاً الى حقها في الانفصال وتشكيل دولة مستقلة. مثل هكذا دستور هو القادر على يناء "دولة القانون"، ومثل هكذا دستور هو ما تطمح إليه جماهير العراق. وإذن لنخطو في سبيل فضح وإحباط مشروع الدستور الحالي والعمل من أجل دستور يستجيب لتطلعاتنا وطموحاتنا وحاجاتنا الإنسانية النبيلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام في حرم جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة للمطالبة بإن


.. القوات الإسرائيلية تقتحم معبر رفح البري وتوقف حركة المسافرين




.. جرافة لجيش الاحتلال تجري عمليات تجريف قرب مخيم طولكرم في الض


.. مشاهد متداولة تظهر اقتحام دبابة للجيش الإسرائيلي معبر رفح من




.. مشاهد جوية ترصد حجم الدمار الذي خلفته الفيضانات جنوب البرازي