الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!! .. شحّاتين الّطرب

ياسر العدل

2005 / 9 / 22
كتابات ساخرة


فى ستينات القرن الماضى، حملت سبات البوص أسابيع وشهورا وسنين عددا، مليئة بالعيش الحاف والجبن القريش والبيض المسلوق، أدوخ بها على الطرق وسقوف السيارات بين قريتى وبين مدينة المنصورة، كانت محتويات السبت ومعها خمسون قرشا أسبوعيا، هى كل زادى الأسبوعى للدراسة فى المرحلة الثانوية، وعند مداخل الشباب طرقت باب القاهرة أدرس بعض العلم فى الجامعة، مقتنعا بما أملكه من قدرات تسمح لى بشَغٌل كثير من الوظائف التى تدر دخلا وتحقق شهرة، تعتمد حياتى الاقتصادية على حُوالة بريديّة يرسلها أبى من القرية، تحمل الخمسة جنيهات، مصروفى الشهرى للطعام والسكن والترفيه أيضا.
ذات مرة تأخر وصول حوالة المصروف، فعضّنى ضنك الأيام تمرُّ فى انتظار الفَرَج وفى استعراض الحلول الممكنة لتجاوز تلك الأزمة، وفى صبيحة يوم الخميس، السّابع من تاريخ تأخر وصول الحوالة، قرأت إعلانا عن مسابقة ستجرى فى مساء نفس اليوم، لتعيين مطربين جدد، فقررت دخول المسابقة، واثقا أن السّويعات الباقية أمامى، تكفى جداً لتجهيز مُعدّات شغٌل أية وظيفة.
ذهبتُ للمكوجى، حاملاً جاكتّتى الوحيدة، خضراء اللون مشقوقة الجانبين، متأبّطا بقايا صحيفة لففت بها بنطلونى الرّمادى، مرتديا قميصى الأبيض، وأخبرت المكوجى بما أنا مقدم عليه، فأخذ بتلابيب هدومى يكويها ويقدم النّصح لى، واستعرضت أمام رواد المحل إمكانياتى الصوتية، منفرطا فى تقليب وتعديل ما أحفظه من أغنيات، وأنفرط صديقى المكوجى يدندن بمواويل وأنغام وطرف، رأيتها نبراسا لى وهدى لأدائى المتوقع،
ولما كانت الأحداث تَتٌرى لصالحى، فقد انطلق راديو صديقى يقلد صوت ليلى مراد ( يا شحاتين الغرامّ)، وأصغيت للعظيمة مقلدا ومردّدا ومُؤلّفا، وعند نهاية الأغنية أصبحت مدينا بثلاثة قروش لمكوة الجاكته، وبقرش ونصف لمكوة البنطلون، وبعض التعاطف من المارة، وحين علم المكوجى بأننى سأتسابق بنفس قميصى الأبيض، طلب منّى خلٌع القميص وكوى اليَاقة والصَّدر مجانا.
أخذتنى حمى الطرب، أتراقص فى الشارع وأتواثب على السّلم، أدرَّب حنجرتى على مقاطع اقتدار لمطربين ومطربات أحبهم، صالح البرش وعيشة المنصورية وأبو دراع، ومررت بحنجرتى على أصوات لا احبها، عبد الحليم وشادية وفيروز، ودخلت الشقة رافعا حنجرتى بالغناء، أدسُّ صوتى فى أذن زميل يسكن معى، ويقرضنى بعض النقود، ولسبب غير واضح، امتعض زميلى وامتشق فردة حذاء، وتأسد يطارد جثتى فى أرجاء الشقة، فانفردت فى الحمام استكمل تدريباتى الأخيرة، وأرطّب الجثّة المنهكة بالماء البارد، كان رجعُ الصَّدى فى الحمَّام، يملأنى ثقة فى أننى سأحصل على ذهب كل المطربين، وسأسدّد ديونى لكل البشر.
فى الموعد المحدّد، وقفت على خشبة مسرح متسع، تراصت أمامى لجنة استماع ومن خلفها عدد من المتسابقين والمتسابقات، هدومهم مكوية جميعا، وتراصّت خلفى فرقة موسيقية، سألنى قائدها، ماذا ستقدم يا أستاذ؟ فأجبته واثقا ( الست ليلى، يا شحاتين )، فجأة أشار أحدهم ( سَمَعٌ هُسّ) فصمت كثيرون، وخفتت إضاءة المسرح، وتجسدت أعضاء الفرقة أشباحا تلعب موسيقى لا أعرف لها ضبطاً أو ربطاً، وانصرفت بعيدا عن الجميع أقضب الجبين وارفع الحواجب واغمض العينين، أتحسس بالإبهام شحمة أذنى اليسرى، أرجع أدائى بثقة الحافظ المُردّد، وحين رأيت كثيرا من العيون تشعٌّ بتيه الطّرب من أدائى، رفعت عقيرتى بالغناء، ناظراً إلى ظلمة سقف المسرح ومستمرا فى الطرب، فجأة شعرت بأن الموسيقى قد توقفت، ولمحت إشارات حانية من اللجنة تستسمحنى التوقف، عندها أيقّنت أن انتصاراً قد تحقق، فاستمرأت ترديد المزيد من الأغنيات، حتى صدمنى قول أحدهم (قَرَفتُونا الله يخرب بيوتكم)، عندها هاجمتنى الأنوار المبهرة تكشف المسرح، وبانت لى اللجنة تأمرنى بالتّوقف.
لم أعرف نتيجة المسابقة حتى اليوم، ومازلت أتساءل، لماذا تتسلط إضاءة المسرح على عيال من مطربي هذه الأيام، صوتهم دون صوتى، وكثير منهم لا يكوى الهدوم؟
د. ياسر العدل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزراء الزراعة وقطاع الا?عمال والاستثمار والعمل والثقافة يو?د


.. لبنى.. ابنة الفنان المصري أحمد راتب تخطت صدمة وفاة والدها ب




.. نصير شمة يحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس بيت العود العربي في الق


.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي




.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر