الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثأر والبندقية - قصة قصيرة

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2015 / 3 / 30
الادب والفن


يستيقظ الحاج ياسين قبل بزوغ الشمس كعادته.يصلي الصبح حاضراً ويبتهل بعمق الرجل المؤمن،ثم يتجه إلى دكانه،وما أن يطأ العتبة حتى يشعل النار تحت طنجرة الحمص لتكون جاهزة لزبائن الصباح،ثم يلجأ إلى تكنيس الحانوت والرقعة الأمامية منه.بعدها يتضخم جوعه الروحي،فيجلس على كرسي القش واضعاً المسند الخشبي ويشرع في تلاوة القرآن،وما إن يبلغ تعطشه حد الشبع حتى يهم قبس الفجر بالتهام البقع المظلمة المتوزعة في أزقة المدينة.قد يدلف عليه جاره الحلواني (أبو غفور) فيشاركه كوب الشاي،وغالباً ما يهز رأسه متشكياً من خفة الشاي فيدافع الحاج ياسين عن نفسه قائلاً:الشاي الثقيل تسبب لي وجعاً في الرأس.فيرد عليه أبو غفور بمكر وسخرية:
- بل تسبب وجعاً في جيبك يا حاج.
الحاج ياسين أول من اشترى الحاكي في حي باب الدريب وهذا ما يفسر تجمع الكهول حول الحانوت.فبعد صلاة المغرب مباشرة يصطفون جالسين على حصير مسندين ظهورهم للحائط.
بعدها يخرج الحاج ياسين من دكانه ويضع ألته العجيبة (الحاكي) بتأن على المصطبة،فتتابع العيون حركاته الرزينة في وضع الأسطوانة،وما إن يدير الذراع حتى تبدأ ساعة الطرب،فتميل رؤوس وتخرج أهات ويردد الحاج مع بعض الكهول ..الله .. الله، وقد يقوم أحدهم حاملاً كوزاً من الماء يرشه أمام الجلسة لتبريد الجو.من وقت لآخر يصرخ الحاج طالباً من أقرانه الكف عن الثرثرة والإصغاء إلى مقطع غزلي في الأغنية،فتراه يميل بجذعه مغلقاً عينيه منتشياً من جمال الألحان.وقتها يروق له لو كانت زوجته عزيزة أمامه لتراه وهو يدير جلسة قحام الحي.
في الساعة التاسعة، تكون الظلمة قد تحكمت في المدينة،فيحمل العجائز أنفسهم إلى مأواهم ويبقى على الحاج ياسين إدخال الحاكي والحصير إلى المحل والتوجه إلى البيت،لكن قبل المغادرة يقف برهة يركز طربوشه الخمري الأنيق على رأسه ويشد قنبازه المخطط بالأسود ثم ينطلق وبيده القنديل ليبدد به حلكة الليل الراكدة في الطريق. في تلك اللحظة تكون البيوت مظلمة تغط في السبات ويصبح الصمت رهيباً في الزواريب الضيقة إلا قرقعة قبقاب الحاج ياسين.وكانت هذه علامة تتخذها عزيزة على اقترابه ومجيئه. بدخوله الدار،تدب الفرحة في نفسها،ثم يجلس على كنبة قديمة كان قد ورثها من أبيه،وتهرع هي لإحضار الماء الساخنة في طشت لتفرك رجليه،فتغمره الغبطة ويروح يقص لها عن كل شاردة وواردة في ذلك اليوم.وبعد أن يتعشى،تطلب منه عزيزة أن يقرأ لها صورة مريم،فيجلس في زاوية وقد خيم على وجهه خشوع الرجل المؤمن،يحرك طربوشه قليلاً ثم ينخرط في التلاوة،وما أن تسمع صوته الحنون العذب حتى تجهش في البكاء. عندما يرى عينيها وقد أصبحتا بلون الخوخ،يتوقف ويقول كرجل حكيم عارف ببواطن الإيمان:أن الدموع تقرب العبد من الخالق.
في إحدى الليالي التي خرجت عن المألوف، دق الباب في منتصف الليل بقوة أربع دقات، ارتجف الحاج وتمتم مع عزيزة التي كانت نصف نائمة:الله يجعله خيراً.وخرج حاسر الرأس حافي القدمين إلى الباب وهواجسه الخوف تتدافع داخله.شق الباب بهدوء فوجد أربعة رجال،قرب المصباح منهم وسمع أحدهم يقول له:السلام عليكم يا حاج.عرف صاحب الصوت فقال للتأكيد:نظير أليس كذلك؟فرد الرجل:أجل يا حج . كان نظير يتزعم عصابة من الثوار في حمص لمقاومة الفرنسيين . شده نظير إلى جانب الباب ثم همس في أذنه : السلطات الفرنسية تلاحقنا ونحن بحاجة إلى مأوى هذه الليلة .
فقال الحاج غاضباً:ولماذا اخترتموني أنا بالذات! فأجاب
أحدهم:
- سيكون بيتك آخر ما يشكون به يا حج .
وكاد أن يصرخ ويقول لهم إلى جهنم ليس هذا من شأني. لكنه عاد بالقنديل فوجد عزيزة تقف وراء الباب ترتعد خوفاً. هذا امتحان صعب فإن طرد هؤلاء لا بد أن يطلقوا عليه كلمة (خائن لوطنه) وإن أدخلهم قد يأتي الفرنسيون ويتهمونه بالتعاون مع الثوار. وبعد مشاورة مع زوجته خرج بقراره مكرهاً، فأدخل الرجال إلى الحجرة الشمالية الواقعة في ذيل الدار مفروشة بطراحات محشوة بالصوف وقد وضع وسائد فوقها بجانب الجدران. تحدث أحدهم:
- وصلنا إلى حمص منذ ثلاث ساعات قادمين من تدمر وفي الطريق اعترضتنا دورية فرنسية فاشتبكنا معها وقتلنا قائد الدورية. عندما سمع الحاج الجملة الأخيرة، ارتبك واصفر وجهه، وبدت علائم الخوف واضحة عليه. وأخذت الوساوس تدق رأسه كالمطرقة، ماذا يقول أو يفعل فهو الآن في مأزق. قال قائدهم سرنا على الأقدام بضعة أيام وآخر مرة أكلنا بها كانت في (تل آشور) وفي الصباح سنتجه شمالاً للالتحاق بثوار الجبال. نهض الحاج وخرج من الحجرة طالباً من زوجته أن تعد الطعام للرجال فأخبرته بأنه لا يوجد سوى خبز الذرة في البيت. رجع إلى الحجرة وقد وضع طربوشه ذي اللفة وتثاءب بضع مرات. وآخر مرة خرج الحاج من الحجرة عاد ومعه طبق كبير من القش كانت عزيزة قد رتبت الصحون من حوله. وفي اللحظة التي تكأكأ الرجال على الأطباق قرع الباب بعنف. ارتعش كل من في البيت ولعلع صوت جهوري من الخارج: افتح الباب وإلا كسرناه. انتفض الحاج في مكانه وانشلت قواه ولم يعد يدري ما العمل. هؤلاء الفرنسيون، نعم إنهم الفرنسيون وإذا دخلوا ستكون معركة ضارية وسيموت كل من في البيت.. الوقت ليس من صالحه يجب العمل فوراً. شاهد نظير ورجاله وقد تأهبوا لملاقاة الأعداء.. ماذا.. ماذا، والباب ما زال يدق بالبنادق، وأخيراً لم ير إلا عزيزة تركض وتشير للرجال أن يخرجوا من معبر صغير يؤدي إلى الشارع. كسر الفرنسيون الباب وحولوه إلى شظايا واندفعوا إلى الداخل يحملون الرشاشات. وعندما واجهوا الحاج ياسين في فناء الدار، كان واقفاً كالصنم رافعاً يديه إلى أعلى ويصرخ: لا تطلق النار ..لا تطلق. تغلغلوا في البيت وبعثروا الأشياء وأخيراً اهتدوا إلى المعبر ببابه الواطئ. عندها حملق الضابط الفرنسي في وجه الحاج وزمجر: أين هربوا.. تكلم أين هربوا.. لكن نسي الحاج اللغة ونسي طريقة الكلام ولم يسمع منه الضابط سوى بأبأة لا معنى لها، فأمسك بتلابيبه متوعداً:
- إن لم تتكلم ستموت.
استعان الحاج ببضعة كلمات ناكراً أنه رآهم :
- لم أر . .... قاطعه الضابط :
- بل رأيت ، جارك أبلغنا .
في تلك اللحظة كان الفرنسيون قد لفوا حزاماً من الجنود حول الحي. لجأ الحاج إلى آية الكرسي كعادته في الشدائد يقرؤها وشاهده الضابط يحرك شفتيه وسمع عدة مرات حرف السين ، فصرخ به قائلاً: اسمعني يا حيوان .. لا أسمع ما تقول.
فردد الحاج نفس الجواب الأول فزاد غيظ الضابط، فلطمه بشكل فجائي على وجهه فطار الطربوش الخمري في الهواء وحط قرب قن الدجاج مما أفزع الدجاجات فشاركت في كورس الضجة وهي تفر بعيداً عن الطربوش. تلمس الحاج مكان الصفعة وأخرج من جيبه محرمة يجفف العرق المتصفد من جبهته ثم نظر إلى الضابط زائغ العينين وأحس أن كل شيء يدور أمامه مثل مروحة. لكن عندما هز الضابط قضيب الرمان في الهواء ، لم يره الحاج بل أحس بوقع القضيب يسلخ جلده ، فانهار على الأرض مكوراً ظهره . كانت الأرض ترابية فدخلت في أنفه عفونتها وتعفر الوجه مذلة ، وتلونت لحيته الرمادية بحبيبات التراب ، لا .. لا .. لم يعد يحتمل لسعات القضيب على ظهره، رفع وجهه المعفر إلى الشيطان الفرنسي وقال بسرعة :
ـ نعم لقد كانوا هنا ، أرغموني أن أدخلهم ، هددوني بالقتل والله أقول الحق . قاطعه الضابط:
- إلى أين ذهبوا وإلى أين اتجهوا . رد وهو يلهث:
- إلى الجنوب .. هم قالوا إلى الجنوب . توقف الضابط عن الضرب واستقام إلى الوراء وأردف مهدداً :
- إذا كنت كاذباً ستموت لا محالة . انطلقوا عشرات إلى الجنوب ، لكن بقي الحاج مستلقياً على الأرض ينتحب . وبعد أن خرجوا ، أتت عزيزة وأمسكت به وهي تبكي أيضاً - ماذا بقي للحاج إلا المذلة ، صفعة على الوجه ضربات تقسم الظهر،ولحية عفرها التراب ، يا إلهي .. ما هذه المذلة . ظل يبكي طوال الليل ، وعندما هبط الفجر فجأةً ، كان الحاج يجلس في فناء الدار يسند ظهره إلى الحائط وليس في نفسه أن يصلي أو حتى أن يحيا ، لمن يحمّل هذا الذنب ! للثوار أم لشياطين فرنسا الذين يتحكمون برقاب العباد ، أم لجاره الواشي ؟؟
أعدت له عزيزة كأسا ًمن الليمون ، فلم يشربه وظل على صمته طوال الليل . وأدرك أنه سيموت عاجلاً أو آجلاً لأنه كذب على الضابط عندما أخبره أن الثوار متجهين جنوباً وهو عارف بأنهم أخبروه شمالاً . الموت مؤكد .. وماذا بقي من العمر ، رجل مثله قد خسر الكثير في الحياة ولم يبقى ما يدعو إلى الحزن . وطفق يدور في الفناء كالذبابة ، وأحس بأنه من الممكن أن يثأر لمذلته وأن يكون بطلاً أيضاً . وقتها اتخذ قراره،
فدك البارودة بالخرطوش وودع زوجته ومضى ملتحقاً بثوار الشمال ليثأر لكرامته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر


.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق




.. خناقة الدخان.. مشهد حصري من فيلم #شقو ??


.. وفاة والدة الفنانة يسرا اللوزي وتشييع جثمانها من مسجد عمر مك




.. يا ترى فيلم #شقو هيتعمل منه جزء تاني؟ ??