الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( النجف. الذاكرة والمدينة ) : مسح بانورامي للمدينة

حسين كركوش

2015 / 4 / 1
الادب والفن


حسين كركوش



( النجف. الذاكرة والمدينة ) : مسح بانورامي محايد للمدينة


La mémoire est l’avenir du passé.
الذاكرة هي مستقبل الماضي.
Paul Valéry



كلمات وصفية مثل : جميل ، شيق ، آخاذ ، عذب ... لا يقبلها النقد فيشيح عنها بوجهه ، ويحيلها إلى أدب الأخوانيات ، أو يضعها في خانة الانطباعات العاطفية الذاتية.
ولأن ما سأكتبه في السطور التالية عن الكتاب الأخير لزهير الجزائري (النجف : الذاكرة والمدينة. المدى ، 2015) ليس (نقد) فأنا في حل من صرامة النقد ، و ليعذرني القارئ أن هو وجدَ كلمات كهذه.
كتاب الجزائري ليس رواية ولا وثيقة تاريخية و لا مذكرات شخصية ولا اعترافات ذاتية حميمة. مع ذلك فأن كتابه مزيج من عناصر كل هذه الأجناس الأدبية. فهو يضم تجربة المؤلف الشخصية، و أسماء ناس عرفهم، و أماكن عاش فيها، و أحداث كان شاهدا عليها. أما تقنيا فأن الكتاب أقرب إلى السرد الروائي ، البطل هو مدينة النجف والراوي هو المؤلف نفسه والثيمة المركزية هي تاريخ المدينة ، تاريخها البعيد وتاريخها القريب المعاش حتى هذه الأيام.
ومثل أي محقق محايد مهني وأمين ، يدون زهير الجزائري محضر الحادثة كما هو ، ثم يضعه أمام القاضي ، لتنتهي هنا مهمته. ويظل للقاضي/ القارئ صدور الحكم: استحسان الكتاب أو لا.
وتطبيقا لهذا المنهج الصارم والمحايد في الكتابة فأن المؤلف زهير الجزائري لا يسمح لنفسه أن (يتدخل) و (يشوه) المحضر ، لا بانطباعات شخصية ولا بأحكام مسبقة ، ولا باستخدام مؤثرات داخلية: لا تقعر لغوي يستعرض عبره شطارته اللغوية ، ولا محسنات بديعية يُظهر بواسطتها عواطفه ومشاعره ويؤثر بها على القارئ ، ولا صور شعرية و ابتداعات تخيلية يُرشي بها القارئ كي يواصل القراءة. رغم ذلك فأن سلامة اللغة ، وعفويتها وانسيابيتها ومعها ، الصدق الفني والوجداني ، اللذين يتحلى بهما المؤلف يتركان أثرهما على الأسلوب فيصبح السرد طريا شفافا عذبا وممتعا ، يغري القارئ ويشوقه لحث خطاه حتى يصل الصفحة الأخيرة.
الجزائري يتعرى ، متحررا من أي ثياب آيدولوجية سياسية مناطقية و يكتب نصا ، هو الآخر عاريا ، يكشف به عري مدينة تتدثر بألف ثوب وثوب و تتبرقع بألف برقع وبرقع. وهذه ، بالتأكيد ، شجاعة تحسب للمؤلف ، إذا كررنا أن النص عن (النجف) وليس عن غيرها من بقية المدن العراقية.
هل فكر زهير الجزائري ، قبل شروعه بالكتابة ، أن يسير (ربما لاشعوريا) على خطى سلفه وابن مدينته ، جعفر الخليلي ؟ هل أراد ، وهو يتحدث عن أبناء مدينته النجفيين ، أن يقول: (هكذا عرفتهم) ؟ ربما. لكن ، بسبب فارق السن بينه وبين الخليلي ، والتجربة الشخصية للكاتبين ، والظروف التاريخية الاجتماعية لكل منهما ، وقبل ذلك بسبب الفارق في المنظومة الفكرية والاهتمامات السياسية لكل منهما ، فأن زهير الجزائري يقدم مسحه الطوبوغرافي / الديموغرافي / السوسيولوجي / التاريخي / السياسي/ الثقافي (الخاص) به ، عن مدينة النجف. وهذه الخصوصية (الجزائرية) نجدها في طريقة اقتراب الأبن الروحي للخليلي للمدينة وسكانها: عند أي أماكن يتوقف ، وعن أي نجفيين يتحدث.
زهير الجزائري ، حفيد المرجع الديني الكبير عبد الكريم الجزائري ، والخارج من بيئة نجفية دينية وسلالة دينية أيضا ، يتوقف مطولا عند كبار مراجع النجف وشيوخها: السيد أبو الحسن ، السيد عبد المحسن الحكيم ، السيد علي الصدر ، السيد محمد حسين الحمامي ، السيد محمد سعيد الحبوبي ، الشيخ محمد طه نجف ، السيد روح الله الخميني ، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (...). و لا ينسى أعيان المدينة ومحلاتها ومجالسها الأدبية و عائلاتها العريقة وثورتها ضد الإنكليز في بدايات القرن الماضي، وجهادها، ومقبرتها الفريدة من نوعها في العالم ، مع رائحة الموت التي يتنفسها النجفيون مع ذرات الغبار.
ويتحدث عن الثورة التحديثية الفكرية السياسية الكبرى (المشروطة). و يسجل نشاط الأحزاب السياسية الحديثة في النجف ، خصوصا الحزب الشيوعي الأكثر حضورا في تلك الأيام والأكثر وعيا و فهما لطبيعة البيئة الدينية النجفية : (الشيوعيون ، وأغلبهم قد جاء من صلب العوائل الدينة كانوا واعين مهمتهم الصعبة في هذه المدينة المقدسة ص 235) .
و يصور المؤلف هياج المدينة السياسي الاجتماعي عقب ثورة 14 تموز 1958 ، و يدخل سجونها ومعتقلاتها ويسجل انكسارها وخيبتها بعد انقلاب 8 شباط 1963. ويستعرض نشاط أبناء جيله الذين ( تخرج أفراده من فشلين ، فشل الشيوعيين في الوصول إلى الحكم من خلال مؤازرة عبد الكريم قاسم ، هذا الفشل الذي أوصلهم إلى أقبية التعذيب في سجون البعثيين الرهيبة. يقابله فشل البعثيين الذين وصلوا للسلطة عام 1963 بانقلاب دموي ص 265).
وفي نهاية المطاف أو في نهاية رحلته يتوقف عند الصور الكثيرة المرفوعة لقادة الأحزاب الدينية السياسية في أيامنا هذه.
وقبل هذا كله يوجد ، بالطبع ، ( الصحن العلوي باعتباره مركز المدينة الروحي والمعماري ، ويشكل الدلالة والمعنى للمدينة وهوية ناسها ص 17). به يبدأ زهير كتابه وبه يختمه. والمؤلف على حق. فلولا الصحن العلوي و شخصية من يرقد فيه لما أصبحت النجف هي النجف التي يعرفها العالم ، وما كان زهير قد كتب كتابه ، أصلا.
لهذه المحطات والأحداث التاريخية ولهذه الأماكن ولهذه الشخصيات النجفية البارزة يفرد المؤلف صفحات كثيرة في كتابه. ثم ، يحث خطاه ليرينا ما لا نستطيع رؤيته ، نحن القراء / المسافرون العابرون ، الغرباء عن هذه المدينة لأنه ، ببساطة ، ينقل بعض مشاهداته عندما كان طفلا يُسمح له أن يرى ما لا يراه الكبار.
ولا أدري لماذا تولد عندي انطباع أن الجزائري / الراوي يبدو وكأنه يتقمص شخصية الطفلة (سناء) التي تعرف كل ما يدور حولها في رواية التكرلي (الرجع البعيد). وربما خطرت في باله شخصية الطفلة (ميزي ) في رواية ( ماذا عرفت ميزي What Maisie Knew ) لهنري جيمس ، الصادرة عام (1897) .
فالجزائري يدخل بيوت النجفيين ، لا (البراني) في هذه البيوت، فحسب ، و إنما يخطو خطوات جريئة أبعد من ذلك ، فيتحدث عن الأمور المعروفة للجميع ، لكن المسكوت عنها ، أو التابو (المرأة أجلكم الله ص 147). و هو يصل ويوصلنا نحن القراء معه إلى غرف النوم و مخادع الزوجية و يقودنا إلى الأسطح العالية فيكشف لنا ( هكذا افترض) ما لم يكشفه أي كاتب نجفي آخر كتب عن هذه المدينة: رسائل غرام يتم تبادلها سرا ، علاقات سحاقية: ( الشابات المحرومات من العلاقات والمتزوجات اللواتي لا يسمعن من أزواجهن كلمة حب حتى ولو في السرير يتولهن في حب واحدة من الملتين "مفرد ملاية". حب النساء للنساء الباجيات ، وهو في الأغلب حب رومانسي ، يصل حد الانتحار من الغيرة أو الخيبة. كنت أمر بدراجتي في الزقاق الذي تسكنه الملة فأرى واحدة أو أثنتين من الباجيات المتولهات يخطرن في الزقاق ذهابا وأيابا على أمل أن تخرج الملة وتسلم عليهن أو تدعوهن للدخول ص 153 ).
ثم نسمع شهقات عوانس لم يفتهن القطار بل منعوهن منعا من ركوبه بسبب التقاليد العائلية (واحدة من قريباتي عاقبت نفسها وأهلها ، وقررت أن تبقى طوال حياتها عانس لأنهم رفضوا خاطبا أرادته زوجا ص 149). ونرى رب أسرة علماني من عائلة دينية عريقة يمسك بيده كأس خمر يخفيه ولا يخفيه أمام أفراد عائلته ليشربه منتشيا بالخمر وبخطابات جمال عبد الناصر الذي كان يؤيده وأغاني أم كلثوم. و نتعرف على غيرة وعراك الحماة وكنتها ، تجمع لجيران المحلة حول الراديو الذي يُقتنى لأول مرة ، وبعده التلفزيون .. ألخ.
وقبل ذلك يجوب الجزائري أزقة المدينة ويعدد لنا الحرف الشعبية التي كان شاهدا عليها في طفولته و اندثرت ولم تعد موجودة : جراخ السكاكين ، خياط الفرفوري ، باعة شعر البنات.
ثم ، عندما يتقدم به السن ، يصحبنا المؤلف معه داخل مقاهي النجف ، والمقهى العراقية كما نعرف (عينة) مصغرة للمجتمع. هنا، أيضا يقدم للقارئ مادة خام غير مطبوخة على نار. كأني به وهو يقتطع قطعة لحم نيئة ضخمة ويرميها على حصيرة عارية، و طبعا بدون تطبيق لآداب المائدة، يطلب من القراء أن يأكلوا ما قدم لهم، حتى لو تقززوا. هو يقدم النجف كما هي ، كما عرفها ، لا كما يشتهي لها البعض ان تكون ، ولا كما يتصورها الخيال المقدس وحده.
ولأن من يسكن النجف ليسوا ملائكة ولا شياطين ، إنما هم بشر محكومون بشروطهم الاجتماعية ، فنحن نجد أنماط بشرية نجفية تختلف كليا وتتقاطع جذريا مع الأنماط البشرية التي يذكرها المؤلف وذكرناها نحن في البداية. هنا ، نجد المخمور ، والنفاج ، واللوطي ، والمرابي ، والسكير الذي يُطرد من الجامع لأنه يشرب الخمر داخله ، والتاجر المحتال ، و الشاعر الصعلوك ، وممتهن السخرية ، والشخص (الضراط) المنفلت من أي اعتبارات أخلاقية ، و رجل الأمن والشقي القاتل والمهرب وبائع الخمر الذي حول نفسه إلى بار متجول في أزقة النجف (ص 183).

وبعد أن ينتهي زهير الجزائري في الصفحة الأخيرة من (لظم جميع خرزات مسبحته ) فأنه يبحث عن (الشاهول) ليضعه حتى تكتمل المسبحة. و(الشاهول) هنا هو السؤال ، المؤلم أحيانا ، الذي يطرحه جميع من غادروا مدنهم ، طوعا أو غصبا ، وعادوا إليها بعد غياب طويل : ( ... وأنا أغادر المدينة وأعيد سؤال البداية: ماذا تبقى منها "النجف" في ، وماذا تبقى مني فيها ؟ )
ولأن زهير الجزائري لا يكتب (فقط) عن علاقته العاطفية بمدينته النجف ، وإنما عن المدينة نفسها ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، فأنه يطرح التأمل التالي: (... في هذه المدينة- المتاهة تجاورت أكثر المحرمات صرامة وأكثر الأفكار انفتاحا ، الدين في أكثر حالاته تزمتا ، يقابله الإلحاد وقد تحول دينا. مدينة حائرة بين حاجتها للخروج من أسوارها ، لكنها تهدم سورا لتبني سورا جديدا. ص 296)
كل هذا المسح البانارومي للنجف ، حجرا وبشرا ، يقدمه الخبير السياحي زهير الجزائري بلغة بعيدة عن الصياغات التعبيرية الجاهزة. زهير هو الذي يقود اللغة ، هو الذي يتحكم بها ، وليس عبدا لها تفرض عليه ما اعتاد القراء على تسميته ( وهم على حق ) كليشهيات. ومن هنا يمنحنا كتابه متعة القراءة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب