الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإبداع والثورة والحدس باللا معقول

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2015 / 4 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


"لا يسير الثوار تحت أقواس النصر" "هذا مثل قديم حكيم، يعنى أن المتمردين المبدعين الذين يغيرون نظام العالم لا يقطفون ثمرة كفاحهم بل ينزفون الدم والروح فى المعركة، وإن نجوا من الموت تتربص بهم القوى المسيطرة لسحلهم وإقصائهم عن الحكم". لم تحدث ثورة فى التاريخ دون أن تسبقها تضحيات هذه العقول المبدعة الثائرة الشجاعة، وعلينا التنقيب عنهم وتدريس أعمالهم للأطفال والكبار.
لم يتطور التعليم فى بلادنا ليقدم الأفكار الجديدة التى تفتح العقول وتنمى المواهب. كتبت من قبل عن الطفلة "حنين" التى اعتبرت مريضة نفسيا وهى بصحة جيدة بل تتمتع بالذكاء الخارق، وعندنا الملايين منها، ولكن لا أحد يهتم بهم ولا نعثر عليهم إلا بالصدفة البحتة ويتصور الكثيرون منا أن العبقرية منحة تهبط من السماء على القلة المميزة من الرجال، وقد قسم أرسطو (384 - 322 ق.م) الموجودات فى المجتمع اليونانى إلى قسمين: الأول الأشخاص وهم الأسياد الرجال الملاك. والثانى الأشياء وهم العبيد والنساء والماشية. ارتفع الاسياد إلى مصاف الآلهة وامتلكوا العقل والعبقرية، أما العبيد والنساء فكانوا أجسادا بلا عقول. ولعبت ثورات العبيد والنساء دورا فى تحريرهم، لكن المرأة ظلت ناقصة العقل فى نظر رجال الدين والعلم منهم "سيجموند فرويد" الذى تصور أن الأنا العليا ضامرة عند المرأة، وبالتالى تنتج الأطفال وليس الأفكار. وتقدمت العلوم بفضل المبدعين والمبدعات ولم تعد العبقرية تتعلق بالجنس أو الطبقة أو الدين أو الهوية، بل أصبحت صفة انسانية يتمتع بها الاطفال جميعا ولم يعد الاحساس (أو الحدس) منفصلا عن العقل أو الوعى، بل أصبح هو "الوعى الاعلى" حين يتحول اللا وعى إلى وعى، ولم تعد العبقرية لحظة عشوائية او ضربة حظ إذا توافرت لديهم الجينات والبيئة والتربية السليمة تفاجئ الانسان فيقفز من الماء مثل أرشميدس صارخا "وجدتها وجدتها" إنها الرؤية الناتجة عن تراكم خبرات الحياة بخلايا الجسم والمخ، منذ الولادة حتى الموات، إنها صبر طويل وعمل منظم دقيق، يفرضه الانسان (أو فريق العمل) نفسه من أجل تحقيق حلمه الابداعى.
هناك عوامل متعددة تقتل العبقرية مثل القيود السياسية والدينية التى تمنع الحرية وتشيع الخوف من الاختلاف عن الآخرين والقيود الاقتصادية التى تفرض الفقر والأعمال الجسدية على الفقراء والنساء، مثل دعك المراحيض ومسح التراب المتراكم على الشبابيك وغسل الصحون، وتقشير البصل والثوم وغيرها من أعمال تقوم بها الآلات الحديثة، ويقود الإبداع إلى الثورة وهدم النظام القديم، وبناء نظام جديد أكثر حرية وعدالة وكرامة، وهى تشبه عملية الهدم والبناء داخل الجسد الحي، كالدوامات فى البحر والهواء مثلها فى المجتمعات الحية، تحدث الطفرات والثورات، تهدم النظام القديم وتبنى النظام الجديد، وتستمر الحياة المتطورة إلى الأمام. هناك مسافة من الزمن بين الهدم والبناء أو بين النظامين القديم والجديد، يغلب عليها العشوائية أو الفوضى، وهى فترة خطيرة فى حياة الفرد أو المجتمع تشبه الجحيم فى رسالة "أبى العلاء المعرى" أو الكوميديا الإلهية لـ"دانتى". كأنما الانسان المبدع يسبح فى البحر من شاطيء قديم معروف إلى شاطئ آخر مجهول، يتخيل المبدع أو يتنبأ بالحدس أنه سيكون أكثر جمالا وعدالة.
وبين الشاطئين مسافة مظلمة غويطة قد يجتازها الإنسان المبدع بشجاعته وثقته بنفسه ومهارته وإصراره ويصل إلى الشاطئ الآخر أو النظام الجديد، وقد يغرق الانسان المبدع فى هذا الخضم المظلم إن لم يكن مسلحا بالصفات السابقة ويصبح مريضا نفسيا أو مجنونا، وهنا الفرق بين العبقرية والجنون، فالعبقرى مجنون عاقل شجاع ثائر يهدم النظام القديم ويبنى النظام الجديد الأفضل، لكن المجنون يهدم ثم يغرق فى خضم الفوضي.
نشأت نظرية "الفوضى" أو علم اللا متوقع، من هذا الخضم المظلم بين الشاطئين، بعض العلماء الجدد تصوروا أن نظام الكون سوف يتبدد تدريجيا ليغرق فى الفوضى وأن الكمال لأى نظام مستحيل لكن هناك سؤالا ليست له إجابه: كيف يمكن لتدفق الطاقة اللا منظمة أن تمد الحياة بنظامها الدقيق فى الكون وداخل مخ الإنسان؟ قد تبدو الإجابة بديهية، فالعبقرية نتجت عن النظام الدقيق والتنسيق الكامل بين خلايا المخ، ونتجت أيضا عن الانفلات من النظام إلى الفوضى من أجل بناء عقل جديد أكثر تطورا وذكاء، وهذا يحدث أيضا فى الطفرات والثورات الاجتماعية.
وأصبح الإبداع الفكرى مثل الثورة الاجتماعية جهدا جماعيا، تقوم به فئات شعبية متعددة أو فرق مختلفة التخصص فى الطب والبيولوجيا والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الكون والموسيقى والنحت والكتابة. وأصبح الحدس باللامعقول واللا متوقع ضروريا لتصحيح التوقعات الموروثة والثورة على المعقولات المألوفة فى العلوم والفنون والأديان وغيرها من فروع المعرفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلم الدولة الكردية.. بين واقعٍ معقّد ووعود لم تتحقق


.. ا?لعاب ا?ولمبية باريس 2024: سباح فلسطيني يمثل ب?ده ويأمل في




.. منيرة الصلح تمثل لبنان في بينالي البندقية مع -رقصة من حكايته


.. البحث عن الجذور بأي ثمن.. برازيليون يبحثون عن أصولهم الأفريق




.. إجلاء اثنين من الحيتان البيضاء من منطقة حرب في أوكرانيا إلى