الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتمرد البريء

عصمت محمد بدل

2015 / 4 / 2
الادب والفن


كنت حاضراً بجسدي فقط في الفصل، فيما خيالي ينقلني من عالم الى آخر. من واقعي المظلم الى عالم متخيل لذيذ. لم أكن أشعر لا بالحصة وزعيق المعلم ولا بنفسي الجالس في الفصل. في لحظة ما انتبهت الى (شيمو) الذي كان يجلس أمامي بثلاثة صفوف وتذكرت ذلك اليوم عندما كان المعلم يدير ظهره الينا، نهض (شيمو) وأخذ يقوم بحركات راقصة صامتة مضحكة. ذكرى سخيفة دفعتني الى الابتسام رغم محاولتي السيطرة عليها وكبحها. لمحني المعلم، فما كان منه سوى أن يلتقط الخيزرانة الموضوعة على الرحلة الاولى وأسرع صوبي. صاح بي غاضباً والشرر يتطاير من عينيه:
- لماذا تضحك؟
حال لون وجهي وتلعثم لساني وجف حلقي «كيف سأخبره عن سبب ابتسامتي؟ لا بد أنه سيضربنا أنا و(شيمو) حتى الموت، كيف سأقول له أنني تذكرت (شيمو) وهو يؤدي، صامتاً، رقصات مضحكة عندما كنتَ تتجه الى السبورة وظهركَ الينا؟».
- انهض وابسط كفيك!.
فتحت كلتا يدي، التقط كف يدي اليمنى وقلبها وجعل ظاهر الكف للأعلى وبكل ما أوتي من قوة انهال عليها بالعصا فتعالى صياحي وأنا أحاول أن أسحب يدي الصغيرة الباردة من كفه الضخمة الدافئة، لكنه كان يعصر يدي أكثر ويعذبها بالعصا.
غرق الطلاب في صمت قاتل، والخوف مارد اسطوري خيم فوق رؤوسهم. لم يكن مني سوى أن أتوسل:
- حباً لله استاذ، أرجوك سامحني هذه المرة!
- يجب أن تقول لماذا كنت تضحك؟
ضجت عينيّ بالدموع واختنقت حنجرتي ببكاء صامت وأنا أتوسل دون فائدة.
«ماذا سأقول له؟ كل ذنبي أن ذكرى طفولية بريئة بلا معنى دهمت ذاكرتي وابتسمتُ دون قصد مني»
في هذه الاثناء وفيما صراعنا في أوجه، دُق الباب وفُتح مباشرة ودلف المدير الى داخل الفصل. يبدو أنه كان ماراً قرب الفصل وسمع صوت صياحي واستغاثاتي. ورغم أن مجيئه أنقذني لكنني ألفيت نفسي متهماً خطيراً في غرفته. انهال علي بسيل من الشتائم والكلام البذيء وأنا مطأطئ الرأس. وكان زعيقه وتهديده لا يسمح بأن أنبس ببنت شفة كلما حاولت أن أدافع عن نفسي وأختلق ذريعة لتصرفي البريء.
امتلأ قلبي بالحقد والغيظ وتمنيت لو استطعت أن أتحول الى بطل من أبطال إحدى الحكايات التي كان جدي يسردها لي، أو أن أتحول الى سوبرمان فأمسكه من قفاه وأسحله على ظهره. في لحظة ما رنّ الهاتف وأنقذني من شتائمه.
قال لي:
- اذهب الى بيتكم، لن تعود الى الدراسة حتى يحضر والدك الى هنا!
فرحت إذ نجوت من ذلك الظرف القاسي، تراجعت الى الخلف، فتحت الباب وخرجت من غرفة المدير. وعندما كنت أهمّ بإغلاق الباب رأيت المفتاح في فتحة قفل الباب. وفي لحظة دهمتني فكرة شيطانية «فلأنتقم إذن شر انتقام». امتدت يدي الى المفتاح وبهدوء شديد أدرته مرتين وقبضت بشدة على المفتاح في كفي. من حسن حظي أن فرّاش المدير لم يكن موجوداً ساعتها والسيد المدير كان مشغولاً بمكالمته الهاتفية.
أسرعت الخطى صوب بوابة المدرسة. انتابتني مشاعر سجين أُطلق سراحه للتو. على الشارع العام ورغم هبوب نسمات باردة بعض الشيء إلا أنني كنت أشعر بحرية عذبة، يداي حرتان، لا كتب ولا حقيبة.
حثثت الخطى أكثر ووصلت الى رأس الجسر، وقفت مطلاً على النهر، فتحت قبضة يدي المضمومة وتركت المفتاح يسقط في الماء. تنهدت بعمق وأنا أرى الخطوط الحمراء على ظاهر كف يدي.
بمسير يشبه الرقص داومت في مشيتي ووصلت الى الجهة الاخرى من الجسر. ثمة على جانب الشارع حديقة مهملة، أرضها عارية وبلا زهور، تملأها أكوام الزبالة. لمحت بعض الصبية يلعبون. عرجت صوبهم واقتربت منهم وبدأت ألعب معهم. لم أفكر في المدرسة ولا في البيت، كل ما أردته لحظتها أن أنسى كل شيء، لفترة، ولو كانت قصيرة، أكون خلالها حراً.
قال أكبر الصبية سناً:
- يبدو من ملابسك أنك تلميذ؟
- ها… نعم.. كنت طالباً، ولكنني تركت الدراسة.
تصايح الجميع جذلاً:
- هي ي ي ي ي… مبروك.
بقيت معهم حتى وقت متأخر ثم تذكرت أمي، فقفلت عائداً الى البيت، وعندما وصلت كانت الشمس تجنح الى المغيب. كانت امي تجلس عند عتبة الدار وهي تبكي:
- أمي، لماذا تبكين؟
رفعت رأسها، نهضت، رفعت يدها اليمنى وانهالت بصفعة على خدي.
- أين كنت يا ولد؟ لقد متّ رعباً عليك. ظننت أن مكروهاً قد أصابك.
انفلت مني زمام بكائي، احتضنتني أمي وأخذتني الى الداخل، دفعني حضنها الى البكاء بحرارة أكبر. ثم سألتني طاردة كل الحزن والخوف:
- أين كتبك؟
- في المدرسة.
- وماذا تفعل هناك؟
- لقد طردني المدير.
- ولماذا طردك؟
- لأنني ابتسمت في الفصل، ضربني المعلم بالعصا.
أريتها آثار العصا على ظاهر كفي، ثم قلت لها:
- جاء المدير وأخذني الى غرفته وقال إن على أبي الحضور الى المدرسة. ذلك يعني أنني لن أذهب ثانية الى المدرسة، لم أقل له أنني بلا أب.
رأيت حزناً عميقاً يحتل ملامح وجه امي.
في صباح اليوم التالي عندما جاءت أمي تفيقني، كنت أعيش حلماً لذيذاً… رأيت رجلاً يقطر وجهه عطفاً ورحمة. كانوا ينادونه (بابا). أنا أيضاً كنت أناديه (بابا). حملني الى صدره وقـبّـلني بحنو. كان قد جلب لي هدايا جميلة.
فتحت عينيّ، كانت أمي تلثم وجنتيّ. حملتني واحتضنتني:
- انهض يا بني، تناول فطورك ستذهب الى المدرسة.
فركت عينيّ وقلت:
- المدير قال يجب أن يحضر والدك. لا أجرؤ على الذهاب.
- انهض، سآتي معك.
لم أمتلك الشجاعة الكافية لأخبرها بقصة المفتاح. رافقتها خائفاً الى المدرسة. كنت أشعر وكأنني سأذهب الى السجن مرة أخرى.
دهوك ـ العراق
ترجمة: سامي الحاج








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي


.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني




.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم


.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع




.. هام لأولياء الأمور .. لأول مرة تدريس اللغة الثانية بالإعدادي