الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستلاب الثقافي

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2015 / 4 / 10
الادب والفن


الإستلاب الثقافي

اذا كان لعصر التنوير سبق تشخيص بعض علل تخلف المجتمعات العربية، فإن أجيال منتصف القرن العشرين وما تلاها تتحمل عبء مسؤولية التعامل مع تلك العلل، ومحاولة إيجاد الحلول لها.
لا أحد يشك اليوم منا بصدقية مقولة بنجمن دزرائيلي (الشرق صنعة)، رغم أن الغرب ـ سياسيا أولا وثقافيا ثانيا ـ مسؤول عن صناعة تلك (الصنعة)، ورغم أن بساطة أو إنعدام إرثنا الثقافي، المجلو والمنظم، هو المسؤول الأول عن توفير الجو المثالي للتهيئة لها؛ وهو الأمر الذي دفع المفكر الفلسطيني، ادوارد سعيد، للقول (بمعنى ما، الشرق حدث وانقضى أجله)، وهذه الحقيقة وإرثها التأريخي والثقافي، هما اللذان يصعبان الأمر على أجيال مثقفي ما بعد منتصف القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، وتجعلهم يسبحون ضد تيار... بل موجة تسونامي، وخاصة في جانب ما يحكمنا من إرث ماضوي في الثقافة العربية.
ورغم أن أرث صناعة (صنعة الشرق) مسؤول عن ترويجه الإستشراق (بصفته المؤسسية لا بنثار جهد المستشرقين المعتدلين) وبالجانب أو الوجه السياسي لهذه المؤسسة، إلا أن فقرنا الثقافي هو المسؤول الأول عنها بلا منازع، وخاصة في الجانب الإجرائي الذي تقوده مؤسساتنا السياسية، وصنعائها من مؤسسات ثقافية ممثلة لتوجهها الايدلوجي.
وهذا طبعا لا يعني إننا حققنا شيئا مهما على صعيد التنظير، إلا أن التركة اللاثقافية التي نعيشها ونعاني منها هي فعلا حمل كبير يعجز عن مواجهته مثقفون عزل لا يتبناهم جهد مؤسساتي محايد، وتضاددهم المؤسسة السياسية في كل صغيرة وكبيرة، وخاصة في أهم شروط إشتغالهم: الحرية.
ولسنا هنا بصدد الدفاع عن المثقفين، بل بصدد نثر الأوراق على الطاولة والتشخيص، وعليه تكون إنتكاسة الجهد الثقافي العربي، بسقوط بغداد على يد هولاكو، والتمزق الذي تبع ذلك السقوط لوحدة الدولة العربية، وما لحقه من تشرذم وإستعمارات متتالية، يكون هو أحد أهم أوجه المسؤولية، وخاصة أن المشروع الثقافي الذي بدأت نواته في العهد الأموي وبلغ مرحلة شبابه في العصر العباسي، لم يؤسس على قواعد مدروسة أو كمشروع تعي دوره وأهميته مؤسسة الدولة، إنما هو كان جهدا شخصيا للعقول المتفتحة التي دخلت الإسلام ـ من غير العرب ـ وتعايشت داخل بنيته الإجتماعية الجديدة، ولكن بإرثها الثقافي الذي نشأت عليه وجلبته معها، وفيما بعد، ثاقفت به المجتمع العربي.
مشكلتنا اليوم في هذا الجانب تتمثل في عداء وإهمال المؤسسات الرسمية العربية (سياسية وثقافية سلطوية) للجهد والفعل الثقافيين، وهذا الإهمال إمتد، بتوالي القسر والتصالح والتقية، ليشمل أهم مؤسستين توقدان الفعل الثقافي وتتبنياه: الجامعة والتعليم الأكاديمي ودور النشر.
فالجامعات العربية، ولأسباب سلطوية (تتعلق بأيدلوجية الحاكم العربي وتوجهاته) ولأسباب مصلحية شخصية (تتعلق بحرص الأستاذ على منصبه ومصدر عيشه) تخلت عن دورها الريادي في تخليّق وإنتاج الفعل الثقافي والتعليمي المتقن ـ وعيا وثقافة ـ للتعامل به والتفاعل معه والمساهمة في تكريسه، ودور النشر في تخليها عن دورها الخلاق في الإنتاج وخضوعها لقوانين الربح والخسارة التجاريين أولا، وللرقابة السلطوية على مطبوعاتها ثانيا، وممالاتها لرغبات وتوجهات السلطات، إتقاء للنبذ والكساد ثالثا.
فالأستاذ الجامعي، وخلال ربع القرن الأخير، على وجه التخصيص، تخلى عن أمانته الأدبية (بمعناها الأخلاقي) والعلمية والمعرفية ودوره في صناعة الفعل الثقافي، للأسباب التي ذكرنا، ولم يعد يشغله غير تأدية عمله بما يرضي رؤسائه وتوجهات الوزارة التي يتبع لها ويستلم منها مرتبه الشهري، ودور النشر العربية (المستقلة شكليا) لم يعد يعنيها من الإنتاج الثقافي غير ما تتقبل عرضه معارض الكتب الرسمية (التابعة للسلطة طبعا، تحت مسمى وزارات الثقافة) وما يمكن توزيعه من الكتب دون إصطدام مع رقابة الدول العربية على المنشورات، وأخيرا مراعاة ما يناسب سوق التوزيع والترويج الجديدة لها وللكتاب: الجوائز الأدبية بمكاقئاتها السخية؛ وطبعا من نافلة القول ان نذكر هنا ان مؤسسات النشر التابعة لوزارات الثقافة العربية، هي في الحقيقة ليست أكثر من مؤسسات رقابية على المطبوعات ولا هم لها غير إحتواء والسيطرة على الإنتاج الثقافي وتدجينه بما يناسب رؤاها الأيدلوجية والمذهبية، وهي تمارس دور تسطيح ثقافي قاتل، سواء كان بوعي أم من دونه.
وهذا يعني، أن المثقف خارج حدود المؤسسة الرسمية، وطبعا بأجياله المتعاقبة، هو من يتحمل عملية التصدي لإنتاج الفعل الثقافي ويسعى لتطبيقه دون أي مساندة أو تنظيم ورعاية مؤسساتية محايدة، وتعمل على تفعيل جهده وترفده بالمراكز البحثية المتخصصة وتكرسها لخدمة جهده ولفعل تكريسه في الواقع المعيش.
وأيضا فإن هذا المثقف هو الوحيد الذي يواجه مشكلة النشر مع دور النشر ويعاني الأمرين في طباعة نتاجه وتوزيعه، ببساطة لأنه لا ينسجم مع رؤية السلطات المؤسساتية في توجهاتها، وأيضا لأنه ينطوي على فعل المضاددة والتثوير والتحريض على التمرد، برؤية المؤسسة الرسمية طبعا.
وبالتأكيد فإن هذا كان الجو المثالي، الذي تنبهت إليه السلطات الإستعمارية، وحقق لها أغراضها في الغزو والإستعمار، وأيضا هو الذي فتح للمستشرقين (المؤسساتيين) الباب لتغذية فكرة إستثمار جثة الشرق الذي كان وإنقضى أجله، والعمل على تكريس فكرة أن لا مجال لقيام هذه الجثة من رقدتها، وإقتراحها على المراكز البحثية الأكاديمية والرسمية (التابعة لسلطات الدول الاستعمارية العسكرية والأمنية) من أجل إغنائها بالمزيد من الدراسة والبحث، ومن أجل إستثمارها الإستثمار الأمثل، في ضوء فكرة أن الشرق صنعة وإعادة إنتاجه أو تصنيعه وفق أطرها المصلحية، من وجهة رؤيتهم لهذه الفكرة لا وجهتنا، كأصحاب لهذه الجثة.
الأمر الذي يثير دهشة وتساؤل المثقف العربي هو إصرار المؤسسة السلطوية العربية على إبقاء الوضع على ما هو عليه، رغم صراخه هو بخطورة الوضع وإدعاء السلطات، في مناسباتها الرسمية، الوعي بالقضية وحجم خطورتها؛ وهي لا تتمثلها الا بمزيد من الكبح والإضطهاد للمثقف ولطروحاته في هذا الصدد، وكأنها ـ السلطة ـ أداة تكريس مأجورة لإبقاء الوضع على ما هو عليه.... ليبقى الشرق صنعة ما يلقي الآخرون في روع السلطة العربية؛ ولتبقى الثقافة العربية شرقا كان وقضى أجله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز