الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا يوجد (جدل) في دمشق؟

إبراهيم الجبين

2005 / 9 / 25
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


الجمعة الماضية، منتصف أيلول، كانت بيروت واسعة جداً كي تستضيف شاعرين سوريين ليقوما بقراءة قصائدهما على بعد بضعة أمتار من انفجار الأشرفية، الذي وقع ليلتها...وكانت دمشق تغط في نومها المعتاد.
(جدل بيزنطي) هو اسم ذلك المكان الذي قدم لنا الدعوة ـ الشاعر السوري طه خليل وأنا ـ إلى أمسية خاصة في ليل بيروت، رتبها شعراء لبنان الآن ناظم السيد وغسان جواد والآخرون الذين بدأت يومياتهم تتحول إلى تقاليد جميلة، وهي الآن بلا ذلك اليأس البارد الذي كان يُسمع في بحة أصواتهم قبل أشهر فقط من الآن...بيروت تختلف والليل فيها يعود ليصبح حركة من نوع آخر..حافلاً بالجديد..وحافلاً بالبحث عن الآخر من جديد أيضاً.
في (جدل) الذي يملكه ويديره الشاعر اللبناني شبيب الأمين تعرف جيداً وعن كثب، كيف يمكن أن يكون هناك جدل ما دون أن يقاطعك أحد ودون أن يغضب أحد، ودون أن ينسحب أحد...صبايا وشباب من أجيال مختلفة، يأتون إلى هناك ليسمعوا ويشاركوا في كتابة نص جديد، هو أداء لبناني بجدارة، وهو فوق ذلك احتراف من نوع خاص يعمل على تأسيسه مجموعة شجاعة تعيش وتكتب في لبنان.
مع فيديل سبيتي وعلي مطر ولوركا وزينب شرف الدين... وآخرون...بدأت الأمسية، وقبل ذلك بساعات، كنا تسللنا ناظم السيد وأنا لزيارة غسان جواد في مشوار سري، بينما ذهب طه لرؤية يوسف بزي ويحيى جابر في مقهى رصيف في الحمرا.
انتهت مشاويرنا الخاصة، وعدنا لنلتقي من جديد في الحمرا، جاء يوسف وابنه عاصم، أبهجتني رؤيته، تمنيت لو أنه يوافق على مرافقتنا إلى (جدل) ولكنه قال إنه لا يذهب إلى هناك، لديه أسبابه، ولكنه شجعني على الفكرة.
فجأة صرنا في المكان، لا أعرف كيف، لكنني نهضت للسلام على شبيب وصديق له هناك، معي غسان وناظم وطه وصديقته الكردية، مكان بارد، وأقواسه الحجرية تلتف حول الصور البيضاء والسوداء لزوار المكان وشخوص الثقافة اللبنانية، البار والمدخل الطولاني الذي يتسع بعد الدرج..الطاولات والوجوه التي تنظر في عمق الغد.
قرأ طه عن اللاجئين الأكراد في أنحاء العالم، وقرأت عن حنانيا، وعن الثلج... وسمع الموجودون وشاركونا في القراءة، حتى أنني كنت أنشغل بين الوقت والآخر مع جارة ما، والمايكروفون في يدي، بينما يختلس فيديل النظر إلى الورقة ويكمل القراءة نيابة عني...اللبنانيون يشعّون فرحاً، وغبطتهم تلك ليست منفصلة عن التغييرات التي طرأت على حياتهم بعد انسحاب الجيش السوري واستعادة المكان هويته وهواءه ، لم نتكلم في السياسة، ولكن كل ما قيل كان سياسياً، ومعارضاً وحراً، وجديداً.
نقلت لهم رسالة من صديقي الفنان التشكيلي السوري الكردي بشار العيسى، الذي يعيش في باريس منذ قرابة ربع القرن بلا انقطاع، والذي كان قد طلب أن أهدي الكلمات إلى شخص أحبَّ بيروت ولم يعرف مدينة غيرها، وعندما غادرها غادر العالم...إلى الراحل الموجود ناجي العلي.
غنت جاهدة وهبة لعبد الوهاب، وجاء طلال سلمان في آخر الليل، وجاءتنا أخبار انفجار الأشرفية، واختفى طه مع أصدقاء إلى مكان ما.
الآن...عدنا إلى دمشق، وفي ظهيرة اليوم نفسه، دعيت لشرب القهوة في مكان بدمشق القديمة، كان يستعد لتكريم الإعلامية السورية الرقيقة هيام حموي، تحدثت عن (جدل)، وقلت إنها فرصة كبيرة أن يقول اللبنانيون إنهم يحاولون ترسيخ ثقافة مكان، كانت مشتعلة في دمشق (الهافانا مثلاً كما كتب ناظم السيد في النهار) وأن دمشق عليها أن تستعيد ذاك الزمن لأنها تستحقه...والحقيقة أنني أظلم المدينة إذا قلت جازماً أن عليها وأنها يجب..وإذا استعملت كل تلك العبارات، هل حقاً بإمكان مدينة مثل العاصمة السورية أن تقيم ذلك الـ (جدل) الذي تتمكن منه بيروت ببساطة وتلقائية ؟!
وهل يجب أن نتوقع من سكانها أن يقرؤوا شعراً هكذا..بلا رسميات وهيئات اصطناعية؟!
لا أظن أن السوريين جاهزون الآن لمثل هذه التجربة، إذا تناسينا ـ وهل بإمكاننا فعل ذلك حقاً؟ ـ الموافقات الأمنية والموانع والمحاظير وتحريم التجمعات ووجوب دراسة النصوص التي من المحتمل أن تقرأ على الناس في أية أمسية ووو ..إلى آخر قائمة الأسلاك الشائكة في الحياة الثقافية السورية.
هل يمكن تخيّل حياة بهذا الشكل ؟! هل تتصورون معنى ذلك؟! في الوقت الذي تخبو فيه التجارب الشعرية في سوريا وتتحول إلى فزاعات واقفة في المشهد السوري، تعوم وحدها على المياه الآسنة التي يصنعها مناخ البلاد، إنهم معذورون في بقائهم هكذا، فقد تآكلت شجاعتهم وهم يمرون عبر ذلك الصراط الذي امتد أربعة عقود عجاف.
من يذكر فيلم الفلسطيني ميشيل خليفي (عرس الجليل) ؟! وكيف ناقش التأثير الرهيب للحياة الفلسطينية البائسة والعنيفة على الحب ؟! وعلى علاقة الفلسطيني مع حبيبته حتى في ليلة العرس؟! أليس الواقع الشخصي للسوريين شبيهاً بخلل جارح وعميق كهذا؟!
والحق أن موضوع كهذا لا يحمل سوى الاكتئاب ولا يجدي الحديث فيه إذا لم ينتبه أحد إلى أن الوقت يمر وإلى أن ذلك الشعب ـ في سورياـ الذي يكافح للعثور على صيغ يتغلب بها على كافة أشكال القهر والحرمان، إنما يمضي إلى هاوية ودرك أكثر ظلمة مما يتخيل السياسيون السوريون الذين يمضون الوقت في تحليل آليات عمل السلطة واستعراض بطولات الكشف عن فساد هنا وهناك، أو عن رسم واقع وهمي لحياة سياسية مفترضة لن تتحقق، ولن يكون على الشعراء السوريين سوى أن ينتظروا اليوم الذي تعود فيه خلاياهم للعمل دون تلك الأغلفة التي تحيط بها.
عرفت في (جدل) أنه لا يمكن لشاعر سوري أن يقرأ شعراً بهذه الطريقة، لسنا استثناء على كل حال، ولكن لأننا ربما نتحدر من ثقافة خارج النسق السوري المألوف، ولا يمكن لجمهور سوري أن يسمع بهذه الطريقة، لأنه اعتاد على الإصغاء وهز الرأس، واعتاد على تلك الأيقونة التي تتصدر المشهد خلف الشاعر، أيقونة الآب والابن والروح السوداء غير المقدسة التي تخيم على سوريا طيلة الوقت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الهدنة في غزة: ماذا بعد تعقّد المفاوضات؟ • فرانس 24


.. هل تكمل قطر دور الوساطة بين حماس وإسرائيل؟ • فرانس 24




.. 4 قتلى وعدة إصابات بغارة إسرائيلية استهدفت بلدة -ميس الجبل-


.. القوات الجوية الأوكرانية تعلن أنها دمرت 23 طائرة روسية موجّه




.. حماس وإسرائيل تتمسكان بشروطهما.. والضبابية تحيط بمصير محادثا