الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [12]

محمد عبد المنعم عرفة

2015 / 4 / 15
الادب والفن


التجديد الديني في القرن الرابع عشر الهجري

إن الكون منذ بداية الخليقة كان يتأهل لظهور النبي والرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن القول إنه بظهور البعثة المحمدية.. فقد فتحت جامعة خاتم الأنبياء والمرسلين بابها على مصراعيه لكل من على الأرض لأن الله قد أرسله للناس كافة بشيرا ونذيرا.

ويمكن القول أيضا أن الكون من حيث التأهيل العقلي لبعثة الرسالة الخاتمة تدرج كما يأتي:
1- من عهد سيدنا آدم إلى عهد سيدنا نوح كان كمدرسة ابتدائية.
2- ومن عهد سيدنا نوح إلى عهد سيدنا إبراهيم انتقل الكون إلى مدرسة إعدادية.
3- ومن عهد سيدنا إبراهيم إلى عهد سيدنا عيسى ارتقى الفكر الديني عن ذلك ففتح الكون مدرسته الثانوية.
4- وبعد أن مهد الكل لظهور بعثته صلى الله عليه وسلم، فتحت الجامعة الكلية أبوابها بمختلف كلياتها وشعبها وتخصصاتها، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر الأساس للعقيدة الحقة والعبادة الخالصة والمعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة، وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتقي بالأمة الإسلامية حتى تمم لها مكارم الأخلاق مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وبعد أن اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة وتطبيق المنهج قال: (إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها)، وبذذلك تركنا على المحجة البياضء ليلها كنهارها، ثم قال (إن عبدا خُيّرَ فيما عند الله وما عند الناس فاختار ما عند الله) واختار الرفيق الأعلى.

إن الله لم يُطِل في عمر حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بالرغم من أنه داعي الخير الأعظم، وعلى جانب الشر فقد أعطى الله إبليس النظرة إلى يوم الوقت المعلوم بناء على طلبه، ولذلك فقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه أمرين وهما: القرآن، ومن يقوم بالقرآن.. فأمنه ربه فيهما.
1- لقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه ضمانا للقرآن حتى لا يحرف ولا يبدل. إذا لا كتاب بعده ليصحح كما صحح القرآن ما قبله من التوراة والإنجيل، فطمأنه ربه بقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، وقال تعالى أيضا لـه (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (فصلت: من الآية42) إلى آخر الآيات التي تدل على ذلك.
2- ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكتاب طلب من ربه من يقوم بالكتاب بيانا وتبيانا فقال لـه (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد: من الآية7) .
ولما نزلت هذه الآية وسئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها)، وبناء على هذا الحديث فإنه يظهر في الأمة من يجدد الله به ما اندرس من معالم الدين وما خفي من سبل أهل اليقين، وقال صلى الله عليه وسلم (العلماء ورثة الأنبياء) وقال أيضا (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل). والعلماء لا يورثون درهما ولا دينارا ولكنهم يورثون العلم والهدى والرحمة، وهذا الميراث لا يفني ولا يبلى، وهو المعنى بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم ما أنت تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي)، ودليل عدم الفصل بين الكتاب والسنة قوله (به) وليس (بهما)، فالكتاب والسنة منهج واحد، والميراث واحد، وهي التركة المشار إليها بـ: تركت فيكم.

إن الله قد حفظ رسول الله في أمته بأمته وبورثته ، فقال لنا مبينا ذلك (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) (الحجرات: من الآية7) ، وقال (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) (آل عمران: من الآية101)، ولم يقل وفيكم محمد.. فلم يناده باسمه في القرآن أبدا إظهارا لعظمة مقامه، بل بوظيفته الخالدة التي لن تموت أبدا.

حفظ الله رسوله في أمته بأمته وبورثته، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم منبها عقولنا عن ذلك بقوله : (حسين مني وأنا من حسين)، وقال لـه ربه في كتابه العزيز (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء:219) ، أي تقلب أنوارك وعلومك وحكمك وسنتك في الساجدين، فكم من ساجد لا يتقبل الله صلاته، ولكن السجود هنا لمن سجد ظاهره وباطنه لله، والعبد إذا سجد بقلبه لله فلن يرفع أبدا وأن تقلب في دنيا الناس لكن حقيقته ساجدة لله، وهذا ما يعنيه ربنا في قوله )وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64)، أي قلوبهم ساجدة لله عند مبيتهم وحقائقهم قائمة بقيومية الله وقياما بحق العبودية لـه سبحانه وتعالى، ولذلك كان سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يقول (اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجة، إما ظاهرا مشهورا وإما باطنا مغمورا).
وصدق الله العظيم فقد قال لـه: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(الرعد: من الآية7)أي يهدون بأمر الله من بعدك وعلى نهجك وسنتك، وهم الأئمة والورثة والعلماء العارفون بالله تعالى وبأيامه وبأحكامه وبحكمة أحكامه تبارك وتعالى.

والوراثة ألوان مع اختلاف المراتب والمنازل، ولكل عالم قسط من الميراث على قدر سعة قلبه وتزكية نفسه واتصال روحه بأصلها (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ) (آل عمران: من الآية163) ، فالميراث موزع بين علماء الأمة، ولذلك وبإيجاز شديد تنقسم الوراثة إلى أربعة أصناف:
1- ورثة الأقوال: وهم حملة الشريعة الأمناء الممنوحون الفهم.
2- ورثة الأعمال: وهم العمال الورعون.
3- ورثة الأحوال : وهم أهل المواجيد الروحانية الصادقة الذين يعيشون بيننا بأبدانهم وأرواحهم في الملأ الأعلى.
4- الوارث الفرد الجامع: وكل صنف من الثلاثة السابق ذكرهم يتبعه مجاميع كثيرة، أما الصنف الرابع فهو فرد واحد على راس كل مائة عام، ورث الأقوال والأعمال والأحوال وراثة كاملة ومنح الزيادة، وهو المعني بقول الحق سبحانه وتعالى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد: من الآية7) ، أي أن الكل ورثة بقدر مراتبهم ومقاماتهم وبقدر ما أهلوا لـه روحيا وعلى رأسهم فرد قمة.

وكان إمام العصر ينضم تحت لوائه أفراد يكرمهم الله بمعرفته، فكما يذكر الإمام الشعراني في كتاب الطبقات الكبرى في باب الأولياء أن من أكبر الدلائل على إمامه الوارث الأكمل لعصر من العصور أن يسلك على يديه علماء ربانيون ورثة للأنبياء، وكم انضم تحت لواء الإمام أبي العزائم رجال أفراد كمل ليتجملوا على يديه ويُمنحوا من ربهم المزيد، تركوا دنياهم ومناصبهم الدينية العالية ليدخلوا إلى حضرته تلاميذا يتعلمون من جديد.

وقد ورد في الاثر في فضل العلماء أن دماء الشهداء يوزن ومداد العلماء يوزن، فيرجح مداد العلماء، لأن الشهيد. ضحى بدمه في سبيل إرساء قواعد الدين، والعلماء جاهدوا بألسنتهم وقلوبهم وتلك هي صفة الأنبياء كما أخبر صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت معلما).

ولذلك فقد ورد عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يطلب من تلميذ الربيع الجيزي أن يحتفظ بمخلفات بري أقلامه البوص حتى كوم منها أكواما كثيرة وهو لا يدري ما يريده الإمام من ذلك، إلى أن جاء الوقت الذي أملى فيه الإمام وصيته ، فطلب منه أن يجعل من هذه المخلفات الوقود لتدفئة ماء غسله رضي الله عنه، وهذا سر قول الله تعالى (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)(يّـس: من الآية12).

والورثة هم الأئمة القائمون ، وفيهم يقول الإمام:
أئمة الهدى هم الروح السارية في الجسد الإسلامي ليحيا حياة طيبة عاملا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يحفظ الله بهم شريعته ويعينهم فيسيرون في الناس بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم محافظين على الأحكام من أن يغيرها أو يعمل بخلافها المفسدون. وهم على يقظة تامة بحراسة الشريعة المطهرة وتعظيم شعائر الله تعالى وإقامة حدوده سبحانه والمسارعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم الذين يمنعون الجاهلين من أن يسيروا بغير سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من ضياع الشريعة وفساد جماعة المسلمين بما يقوم به أهل الضلال بين العامة فيغيرون أحكام الله تعالى بالبدبع والضلالات بآرائهم الفاسدة وعقائدهم الزائغة بالكيد والخديعة التي يخدعون بها قلوب العامة فيخرجونهم من حصن الشريعة المطهرة ويوقعونهم في مساخط الله تعالى ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأئمة بهم قوام الدين وحياة الشريعة وحفظ أركانها، قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.

إذا تهاون أئمة المسلمين في القيام بواجبهم تمكن الخوارج المفسدون من الأمة فأفسدوا العامة وشغلوا الخاصة، وإن الخارج على المسلمين بسيفه أخف ضررا عن الخارج بعقيدته الزائغة ورأيه الفاسد، لأن القلوب تميل إليه فيتفرق المسلمون بعضهم على بعض، لأن الأمة ما اتحدت على الحق فإن الله معها ورسول الله صلى الله عليه وسلم معها، ومتى اختلفت الأمة التفت الله بوجهه الجميل عنهم ووكلهم إلى أنفسهم- قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية103).

ويقول عنهم أيضا: وورثة الرسل صلوات الله على نبينا وعليهمم هم الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وهم الراسخون في العلم، آمنوا بكل الكتاب وسلموا لله متشابهه وعملوا بمحكمه وأقبلوا على الله تعالى بقلوبهم متلفتين عن الدنيا بالكلية وعن الآخرة. ولولا أن الله تعالى رغبهم.. لما رغبوا فيها.. وهم نوعان: نوع تولاهم الله فجذبهم إليه به جل جلاله وملأ قلوبهم علما به وخشية منه وهم أصفاء الله السابحة قلوبهم في ملكوت الله تعالى، تراهم على الأرض مع الناس وقلوبهم في الرفيق الأعلى، انكسرت قلوبهم من خشية الله فصمتوا إقبالا على الله بالقلوب والجوارح وغابوا عن الكون الأدنى بالكون الأعلى وعن الكون الأعلى بالعلي العظيم. صغرت الدنيا في قلوبهم فنظروا إليها بعين ملؤها البغض فيها والزهد في زينتها، سقاهم ربهم شرابا طهورا فغابوا عن أنفسهم بعد معرفتها غيبة ذكرتهم بنشأتهم الأولى والأخرى فكانوا إذا لحظوا أنفسهم لحظوا عدما وطينا أو ماء مهينا وشهدوا النعمة للمنعم والفضل للمتفضل والوجود بالله، ,الحياة بالحي والقيام بالقيوم، فكان الحق جل جلاله معالم بين أعينهم لا يغيبون إذا غاب الناس ولا يحجبون إذا حجب الناس، وهم أولياء الله حقا وأصفياؤه صدقا، وهم ورثة رسله وأبدال أبينائه والصديقون من عباده رضي الله عنهم.

ويقول عن وظائفهم: ووظيفة ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم معالجة النفوس الجامحة إلى الغواية وتزكيتها من أدران الأخلاق الفاسدة وتطيرها مما ألم بها من فساد الوهم أو اختلال الخيال أو الهبوط إلى أفق الهبيمية لعدم تناسب الأعضاء أو الإخلاد إلى الأرض بسبب ما اكتسبته النفوس من المجتمع الذي نشأت فيه.

فتراهم (أي ورثة رسول الله ص) دائما يميلون إلى أهل المعاصي، ويألفون أهل الأخلاق التي ليست على الوسط بما وهب الله تعالى لهم من الحكمة والعلم بأمراض النفوس، ولذلك فقد قال سيدنا عيسى عليه السلام عندما أنكر عليه اليهود صحبة الأشرار لـه: إنما أنا طبيب وإنما يميل الطبيب إلى المرضى، وكذلك العلماء بالله تعالى هم أطباء النفوس.

ومن وظائفهم أنهم يبينون للنفوس سبيل الهل تعالى لأنهم سُرُجُ الدنيا ومصابيح الآخرة فهم النور الذي يستبين به محجة الله تعالى وتقوم به حجته سبحانه، وكما أن الشمس تبين محجة المنافع وطرق المواصلات لنيل الخيرات من زراعة وتجارة وإمارة وغير ذلك، فكذلك أهل المعرفة بالله شموس تنبعث منها الأنوار التي تستبين بها طرق الله تعالى ويظهر بها الصراط المستقيم. وهم أنفع للمجتمع من شمس النهار المشرقة ضحوة ، لأن الشمس تبين طرق الأرض وهم يبينون طرق الله تعالى الموصلة إلى الخير الحقيقي والسعادة الدائمة، وشتان بين الشمس التي توصل إلى المقصود التي نهايتها الموت وبين شمس توصل إلى المقصد الأعظم الذي هو رضوان الله تعالى والفوز بجواره في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ولما كانت هذه الوظيفة هي أعظم وأجل وأنفع الوظائف للمجتمع، كان لهؤلاء القوم في القلوب محبة وهيبة.. يخضع لهم ذو الجلال، ويهابهم السلطان ويحبهم المؤمنون ويتوسل بهم العامة.. كل ذلك لما جملهم الله تعالى به من الأخلاق الجميلة والرحمة والرأفة ولين الجانب، ولما أطلق به ألسنتهم من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأن النفوس لها ميل إلى القوة التي فوق الأسباب وقد فطرت على التقرب إلى الله تعالى بأهل التقوى، فنرى جميع النفوس تحب المتقين وخصوصا المبالغين للعزلة عن الناس المشغولين بذكر الله تعالى، الزاهدين فيما في أيدي الناس من أهل الصفاء والإقبال على الله بالكلية.

ولا يعترض على معترض فيقول: إن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم عاداهم أهل الكفر بالله تعالى، فأجيبه أن رسل الله صلوات الله عليهم تحدوا الناس بدين الله تعالى وأقاموا الحجة على الخلق بما جاءوا به من عند الله تعالى وعرضوا أنفسهم على العالم وبينوا للناس عاقبة ما هم عليه من الضلال والكفر بالله تعالى فكان ذلك موجبا لمعاداتهم، أما أهل الصفا من أولياء الله تعالى فإنهم لم يكلّفوا بالتحدي ولم يطالَبوا بدعوة الناس إلى الحق لفرارهم من الخلق وإقبالهم على العبادة والتنسك، ولكن الناس يألفونهم ويتقربون إليهم - لا فرق بين المسلم والكافر - لا لطلب العلم فقط بل لأغراض أخرى، يعتقدون أن الله تعالى ييسرها لهم ببركتهم، وباجتماع الناس عليهم يشرح الله صدورهم لما يسمعونه من العلوم التي تزكي النفوس إلى الاستقامة أو إلى الإسلام، وكم أسلم مشرك على أيديهم وكم استقام عاص واهتدى فاسق. ولا عجب فإن الله تعالى يلقي محبة منه على من اجتباهم من عباده بقدر ما يوفقهم لـه من القربات ومن إقبالهم بظاهرهم وباطنهم على الله تعالى.

فإذا منحهم الله لسان البيان والحكمة وبلغ أحدهم من المقامات ما صار به وارثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان من التمكين بحال، به يحبه أهل الإيمان والتقوى ، وكان ممن قدر الله لهم السعادة، فيبغه أهل النفاق والكفر، فيكون لهم قسط وافر من سر الأنبياء وسيرهم صلاة الله وسلامه على نبينا وعليهم وهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمناء الله تعالى على شريعته.

إننا نتكلم عن أئمة الهدى الذي يظهرهم الله بتجدد الأزمنة فيقومون كالأنجم المضيئة في المجتمع الإسلامي، إما بقول وعمل كالعلماء، وإما بعمل وحال كالعباد الزهاد، وإما بحال ومجاهدة جامعة وبيان كورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس برجل من لم يكن منهم أو معهم.

ومعلوم أن الرسل صلوات الله عليهم لم يورثوا درهما ولا دينارا ولا كنوزا ولا عقارا، وإنما ورثوا هدى ونورا وبيانا وأخلاقا طاهرة ومعاملة لله خالصة ورحمة على الخلق وحنانا ولما كانت النفوس تتفاوت جوناهرها استعدادا وقبولا، وكان نيل هذا الفضل العظيم إنما هو بفضل الله تعالى، وكان من أعظم الفضل ظهور وارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى تفضل الله تعالى على العالَم بوارث دل ذلك على عميم إحسانه على أهل عصره، ولكن لابد هنا من الميزان الذي يزن به السالك نفسه ويزن به غيره.

ومعلوم إن الاتصال بالوارث المحمدي سبب لفهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتزكية النفس، وتعليم ما لم يعلمه الإنسان بالدراسة وطول الدرس والمذاكرة كما قال الله تعالى (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: من الآية151) فما من سالك مع الوارث إلا ويهبه الله قسطا من تلك المعاني، وتلك العطية تُمنح بفضل الله، وتحفظ ويحصل النفع بها بأمرين عظيمين:
الأمر الأول: الأدب مع من جعله الله سببا لهذا الخير.
الأمر الثاني: شكر الله على تلك النعمة الذي به المزيد مع مجاهدة النفس خوفا من الغرور بنسيان المرشد.

العلماء الربانيون والراسخون في العلم هم النور المشرق المبين لمناهج القرآن وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكشف الله تعالى لهم غوامض أسرار القرآن ويمنحهم الحكمة والبيان، ويلهمهم الصواب في القول والعمل والحكم، ويمدهم بروحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم، و هم الذين اشتاق إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل واشتاق إليهم سيدنا على بن أبي طالب كرم الله وجهه في حديث كميل في قوله : "واشوقاه إليهم" وهم الذين أثنى الله عليهم وأخبر أنهم أولوا الأمر من المسلمين بقوله ) وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )(النساء: من الآية83). ولو كانوا مجهولين أخفياء لا يعرفهم أحد فإنهم معروفون لله، معروفون للملأ الأعلى. وكل واحد منهم شمس يضيء لأهل السماء كما تضيء الشمس لأهل الأرض، وهم العرائس ضنائن الله تعالى في أرضه لا يوصل الله تعالى إليهم إلا من سبقت لهم الحسنى وقدّر الله لهم الوصول إليه سبحانه وتعالى باتصاله بهؤلاء الأخيار.
أولئك والله الأئمة الهداة يرحم الله بهم وينظر إلى من شاء من عباده في قلوبهم، ذرة من أعمال قلوبهم خير من أعمال الجوارح الدهر كله.. وهم الذين أكرمهم الله تعالى فكان معهم وجعلهم معه سبحانه، أرضاهم عنه ورضي عنهم، لا تفي عباراتنا بأحوالهم ولا تكشف إشاراتنا مبادئ شهودهم في وجودهم قال تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) ومن صفاتهم إخفاء حالهم وستر مقاماتهم، فلا يقهرهم ولا يشغلهم مقام ولا يغضبهم مؤلم، يغضبون لله ويرضون لله، تراهم منقبضين على بساط المؤانسة وخائفين وهم في حصن (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(الأنعام: من الآية82) وفي خشية وهم على موائد إكرام الله تعالى لهم بالاستجابة، قال صلى الله عليه وسلم (رب أشعت أغبر لو أقسم على الله لأبره).
كمل والله توحيدهم شهودا فأفردوا ربهم بالعزة والجلال والعظمة والكبرياء والعطاء والمنع والضر والنفع، فذلوا للحق ولأهل الحق ذلا للحق، وعزوا على الباطل وعلى أهل الباطل كراهة لما كره الله وحبا لما أحب الله. ذلوا للمؤمنين كما أمر الله تعالى وعزوا على الكافرين إعزازا للحق، صغرت الدنيا في أعينهم عن أن تشاغلهم عن الآخرة نفسا.. فكيف تشغلهم عن الله تعالى؟!
إذا رُؤوا ذُكِرَ الله، مجالستهم تجذب النفوس إلى حضرة القدوس ومحبتهم تحبب في الله، والقرب منهم تقريب من الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني اسألك حبك وحب من حبه يحببني فيك) وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا يوقظ قلوب المؤمنين إلى محبة أهل المعرفة بالله تعالى المقبلين على الله تعالى بكليتهم، وهم الحياة لأهل عصرهم والنور لمن والاهم والنجاة لمن اقتدى بهم رضي الله عنهم.

إن الذي أقنع الناس بإمامة أبي العزائم، وأنه الحجة وأنه الوارث الكامل لهذا العصر، وأنه الرجل الذي كان ينتظره الرجال ليتكملوا على يديه.. ما تخلق به من الأخلاق النبوية، إنه نعمة كبرى أنعم الله بها على أهل هذا العصر، ولذلك فإن الحديث عنه هو أيضا حديث عن الدين، به علمنا الأخلاق المحمدية، وبقيت عندنا نغماته العذبة التي كان يشدو بها.
وقد التقى الشيخ خضير، وهو شيخ طريقة صوفية من حضرموت، وهو أيضا من أهل البصيرة، مع المرحوم فضيلة العارف بالله الشيخ "طاهر محمد السيد مخاريطة" كبير وعاظ آل العزائم آنذاك، وكان ذلك في الأراضي الحجازية. تفرس الرجل في وجه الشيخ طاهر فوجد من سيما الصلاح والتقوى ما دعاه ليسأله قائلا: أأنت تابع أم متبوع؟
فقال: تابع
فسأل لمن؟
فأجابه الأستاذ طاهر قائل: لمولانا السيد محمد ماضي أبي العزائم
طلب الشيخ خضير وكان يصحبه مجموعة من مريديه أن يجلس معه قليلا، ثم سأله على الفور: هل السيد محمد ماضي أبو العزائم سليل النسبين؟
فقال الشيخ طاهر: نعم حسيني من جهة والده وحسني من جهة والدته
فرفع الشيخ خضير يديه إلى السماء وقال: إذن هو
فسأل وقال: أولد بمسجد؟
فكان الرد: نعم ولد بمسجد سيدي زغلول برشيد
فقال الشيخ خضير: إذن هو
ثم سأل أكان يملي أم يكتب ؟
فكان الرد: بلي يملي
فقال: إذن هو
ثم سأل وقال: أكان ضرابا على فخده إذا أبطأ الكلام؟
فكان الرد: نعم
فقال: إذن هو
ثم سأل فقال: أله خال على وجهه؟
فكان الرد: نعم
فقال: إذن هو
ثم سأل فقال: أأفلج الركبتين؟
فكان الرد: نعم
فقال: إذن هو
ثم سأل فقال: أأول خليفة لـه اسمه أحمد؟
فكان الرد: نعم
فقال: إذن هو
ثم سأل فقال: أله زوجة حتى الآن أول حرف من اسمها هو ع؟
فكان الرد: نعم اسمها السيدة عزيزة السماحي
فقال: إذن هو
فقام الرجل ووجه كلامه إلى أتباعه قائلا: يا أبنائي إن لم ننل من حَجِّنا هذا العام إلا معرفة الإمام الختم أبا العزائم لكفانا، إنه تفوه بصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتفوه بها إمام قبله (فأعطاه الشيخ طاهر نسخة من الصلوات كانت معه).

قال الإمام رضي الله عنه مبينا أسرار الرجال: نعم للرجال أسرار حجبت عنها أهل العقول، سبحان من يهب الحكمة من يشاء. إن الحق تقدست صفاته وتعالت آياته اختص من عباده قوما اجتباهم للدار الآخرة فشغلهم بها، فأجسامهم في الدنيا عاملة على نوال تلك الحظوة التى تحققوا يقينا بأنها ولا محالة كائنة ولابد من الرجوع إليها، وأنها لا تنال السعادة فيها إلا بنوال الوسيلة إليها في تلك الدار الدنيا، فوفق الموافق من أحب للجد والنشاط في كل ما به نوال تلك السعادة الآجلة في الظاهر العاجة في اليقين، حتى بشدة صدقهم تحققوا أنهم يرون الجنة ويتمتعون بها عند العمل الصالح كما يتحقق التاجر بربح السلعة الرابحة ويجد في طلبها منشرح الصدر مرتبا ماليته وما يربحه حتى كأنه قبل البيع قد ملك الربح في خزينته، فهؤلاء بهم اليقين حتى ذاقوا لذة وقوع البشرى والوعد كما يذوق المحقق لذة حصول النتيجة.
وثمة أناس حسن لهم الحظ والهوي تلك الحظوظ الفانية فطلبوها، وقوي ذلك الرأي الناتج عن تلك الأميال، وزين مدد الرب لهم ﴿-;-قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ﴾-;- حتى رأوا حزبًا يحسن ما حسنوا أو يقبح ما قبحوا، فسعي بهم ساعي المهلة إلى القول بالرأي والعمل بالهوي، فعلاماتهم : ألسنة تنادي بتقويم أود الدين وقلوب ملؤها الحظ والشقاق والتفرقة ومساعدة أهل السؤدد الدنيوي، وأبدان متعاصية على أعمال الدين ﴿-;-وَإِذَا قَامُواْ إلى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَي يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾-;- الحج عندهم ساقط لأن الله أوجبه ولأنه بأرض بها آثار دينية مجردة عن الزينات والبهجة الدنيوية، فتري أعلمهم يري بلاد الكفر كعبة له والتجول فيها قربة لربه الذي يسعي في نواله، وأهل العقول القاصرة التي لا تمتد إلى كشف حقيقة السعادة إخوان لهم حتى حكموا أن الله ليس إلا كما يتخيلون محكوم عليه بعقولهم، لا يختص بسر غامض عن الأعضاء الحسية عبداَ من عباده، وكيف يمكنه أن يفعل ذلك وقد حكم عقلهم السخيف عليه سبحانه بحكم لا يتعداه وفهم هذا الوهم الكاسد كتابه العزيز برأي حكم أنه مراد الله حقًا حتى لو كان لله مراد سواه لخاف الحق سبحانه من هذا الشريك وغير مراده بمراده .
تعسًا لك أيها الغبي الغر، إن للرجال أسرار أذاقهم حلاوتها بعد أن هذب نفوسهم بتوفيقه وألبسهم حلل الذل والتسليم والمجاهدة لذاته وفي ذاته، منهم المجملة أبدانهم بالعمل الصالح والخشوع والتواضع والذل، وقلوبهم بالثقة والتوكل واليقين والتسليم والتوجه إليه والرضا عنه والحب فيه والدعوة له بالحكمة والموعظة الحسنة، للرجال سر أخفاه حتى عن الملائكة حتى كان العبد المصطفي له سبحانه يبتليه، فاذا صبر اجتباه وإذا رضي اصطفاه بنص الحديث . لم يكن الدين أيها الغر كما تزعم عكوف على العمل الصرف للدنيا والغفلة عما أمر الله أن يعمل .. الدين عقيدة كما نص القرآن، وخلق كما كان الأنبياء، وعمل كما كان الصديقون، ومعاملة كما كان الحلماء الرحماء والكرماء، أكان الدين جدل ومعارضات ورأي وترجيح ؟ قم فتريض وزك نفسك وقف موقف الجاهل بنفسك أمام الحق ليفيض عليك علم من أنت، ولديها تذوق لذة أسرار الرجال.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي