الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية اخرى من يوميات جندي معاقب

سعد محمد موسى

2015 / 4 / 16
الادب والفن


حكاية اخرى من يوميات جندي معاقب
سعد محمد موسى
في الايام الاولى من واجبي كحارس لسجن اللواء والذي كان يضم سجناء عسكريين يقارب عددهم العشرين جندياً ، داخل قاعة مشيدة من الطابوق الاسمنتي والتي تتسع الى اكثر من هذا العدد بقليل .
وكان هنالك بعض الموقوفين والسجناء يطلق سراحهم او يجلبهم الانضباط العسكري مرة اخرى كي يقضوا فترة عقوبتهم داخل هذا السجن المنعزل في اطراف بادية "امام ويس" في مدينة ديالى .
كانت فترات عقوبة المخالفين ليست بقصوى . فبعضهم محجوز بسبب غياب او عدم امتثال للاوامر العسكرية .. عموما عقوبات السجن لم تكن تتجاوز بضعة اشهر في سجن اللواء اما العقوبات الاكثر فيرحل بها الموقوفين الى سجن الفيلق المركزي.
لا أحد كان يفكر بالهروب بشكل جاد ماعدا جواد الذي حدثتكم عنه في الحكاية الاولى والذي سبق وان هرب لاكثر من مرة بسبب ولعه في الجلوس امام شاشة التلفزيون واشتياقه الى الاجواء العالية الحميمة في بيت اخته.
كان لواء 99 المشاة المدرع الآلي اغلب جنوده وضباطه معاقبين لان بعضهم ترك واجباته اثناء المعركة وسلموا الى العدو الايراني كأسرى حرب بعد ان تحاصروا في احدى الهجومات المباغتة.
وبعد نهاية الحرب ارسل المتبقين من الجنود والمراتب والضباط الى هذا المعسكرلاعادة التشكيل.
مرت الايام دون اي مشاكل ولولا هروب جواد في احد الايام لبقيت اخدم عقوبة السنة المتبقية كحارس للسجن حتى يتم استلام كنية تسريحي .
كان اقرب سجين اوليته محل ثقتي وبات فيما بعد ليصبح احد اصدقائي هو "كاظم "، وكان شابا مثقفاً يتمتع بشخصية هادئة وذكية وغامضة ايضاً.. تستهوية قراءة قصص الجواسيس واسرار المخابرات وعلم النفس ومشاهدة الافلام البوليسية.
حتى وصلت ثقتي فيه للدرجة التي كنت اسمح له بالخروج من السجن ليلا اثناء فترة حراستي ، وكنا غالباً ما نتحاور بمواضيع حول الادب والسينما ونحن ندخن السجائر ونشرب الشاي ، واذا شعرت بالنعاس كنت اطلب من كاظم ان يحرس السجن بدلا عني . واخبرته ايضاً ان يوقظني فورا اذا لمح مجيء ضابط الخفر .. وبالفعل في احد الليالي التي كنت نائما بها ايقظني وهو كان مرتبكاً قائلا: ان ضابط الخفر في طريقه للسجن... استيقظت بسرعة وطلبت من كاظم ان يدخل السجن ثم حملت بندقيتي ووقفت امام بوابة السجن.
في كل صباح عادة مايصل الحانوت المتنقل وهو كان عبارة عن عجلة ايفا عسكرية مغطى حوضها بقماش عسكري ثقيل. فيمر الحانوت على مطابخ السرايا لتزويدها بالارزاق ثم يقف امام بوابة سجن الوحدة كي يتسوق منه بعض نزلاء السجن من سكائر وحلوى ومعلبات.
لم اصادف اي مشكلة مع السجناء فقد كانت علاقتي بهم جيدة وكانوا يتفهمون وجودي الاجباري المرتبط باكمال عقوبة السنة في هذا اللواء حتى يسمح لي بالرجوع الى اكاديمية الفنون الجميلة لاكمال دراستي.
...
بعض السجناء الذين اتذكرهم : امثال "سليم الصامت" والذي كان
يقضي أغلب اوقاته في حياكة (الكالات، والطاقيات ) وصنع المسبحات أيضاً، وكان يتقاضى اجراً بسيطاً من الجنود واحياناً من الضباط جراء حرفته تلك.
والسجين الاخر يدعى "سليمان" الذي اعتاد ان يراه الجنود مهتاجا وغاضبا في بعض الاحيان وهو يتحدث معهم بقصته التي باتت معروفة في انحاء اللواء مع الضابط الوغد والقاسي ، والذي اصيب باطلاق ناري في ساقه قبل نهاية الحرب العراقية الايرانية ببضعة اشهر وحدث ذلك في احدى قواطع الجبهة الشمالية، فأمر الضابط الجندي سليمان مساعدته ونقله الى الاسعاف لكن سليمان ركله وقال له :انك لاتستحق الحياة ابقى انزف في الجبهة حتى الموت ..وقبل ان يتخلى عنه نظر الى بسطال الضابط وانتزعه من قدميه .. ليستبدله ببسطاله الممزق.
وفيما بعد رأه حندي اخر فانقذ الضابط ونقله الى خلفيات المعركة. وبقى الضابط يكن العداء للجندي سليمان ويتآمر عليه. ثم بعد تشافيه من الاصابة ونهاية حرب الثماني سنوات .. تم لقائهما مرة اخرى في هذا المعسكر بعد تشكيل واسترجاع تنظيم اللواء ثانية فأمر الضابط بتوقيف سليمان حتى ارساله للمحاكمة فيما بعد.
وايضا كان في السجن ذلك الجندي المعتوه الذي بات موضوعاً للسخرية بعد ان حاول رمي فأرة تسللت الى الخيمة فصوب بندقيته كلاشنكوف على الفأرة التي سرعان مااختفت وراء البطانيات واخذ يرمي بجنون ويصرخ لكن احدى الاطلاقات الطائشة اخترقت خيمة الضابط القريبة فارتعب الضابط واستثار غاضباًعلى الجندي المعتوه فاودعه السجن.
وفي احدى زوايا السجن كان يتمدد على حصيرته "داوّد شقاوة" الذي طاب له المقام في السجن مستمتعا باوقاته بلعبة الدومينو والطاولي مع السجناء. وكان كثيرا مايرفض الامتثال لبعض الاوامر العسكرية الصادرة من نائب ضابط السرية محيسن.. وخلافاته المستمرة ايضاً مع ضباط الصف في ساحة العرضات. وفي كل مرة يخرج من السجن كان يتحين الفرص لاثارة المشاغب كي يرجع للسجن مرة اخرى.
لكن الشخصية الاكثر اثارة في السجن .. وصاحب الحكايات الممتعة كان السجين "حليم الترف"..و كان متعارفاً عليه بين السجناء اضافة لقصصه المثيرة كانت له هواية جمع الكتب والمجلات التي تهتم بممثلات الاغراء والاثارة في السينما العالمية والموديلات العارية ايضا وكان يحصل على اجور بسيطة لقاء اعارته وبيعه للمجلات والكتب الى السجناء فيدخرها لغرض شراء زجاجة كولونيا أوسجائر ومجلات جديدة.. وعادة ما يتجمع حوله السجناء في الزاوية الاخرى من السجن وهو يقص عليهم مغامراته الكثيرة مع النساء لاسيما حكاياته في السبعينات مع اسفاره وترحاله حين كان يتنقل في اوربا.. كان لحليم الترف لباقة وخيال خصب يؤهله ان يكون حكواتي من الطراز الاول في السرد الشيق حول النساء وحول حياته المليئة بالاثارة.
كان حليم يخفي المجلات في صندوق خشبي ثقيل يحكم اغلاقه ويحتفظ بالمفتاح دائماً معلقاً في قلادة كانت تتدلى من رقبته، وكانت مجلته المفضلة التي تضم صور الاغراء عن الممثلة مارلين مونرو .
والتي لايعيرها الى اي احد، حتى اوصله هوسه وعشقه لمارلين مونرو ان طلب ذات يوم من السجين "ماهر الوشام" .. كي يوشم له صورة مارلين مونرو على كتفه بابتسامتها الساحرة.
وحين يجمع حليم مبلغ لابأس به كان يوصي صديقه سائق الايفا المتنقل مابين اللواء وبغداد .. ويطلب منه جلب مجلات من صاحب محل تجاري يقع في باب الشرجي ..كان يحتفظ ويبيع بتلك المجلات بشكل سري وايضا كان يوصيه بجلب كولونيا او زجاجة عطر من شارع النهر وبعض الكتب من شارع المتنبي ايضاً.
وكثيرا ما يتذكر حليم سوء الحظ والقدر التعيس الذي جلبه لزيارة قبر امه التي توفيت اثناء تواجده في اوربا. ولكن بعد وصوله.. بدات الحرب العراقية الايرانية ثم اغلقت الحدود ومنع من السفر وبعد اشهر استدعيت مواليده للالتحاق بالحرب الطويلة ... وبقي يعاني فراق حبيبته وذكرياته في صوفيا التي استقر بها لبضعة اشهر .. فتعرف على الفتاة البلغارية "الينا". ثم انقطعت الاخبار عنها اثناء اندلاع الحرب الشرسة وبقي حليم محاصراً داخل اسوار الحرب والوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة أسطورة الموسيقى والحائز على الأوسكار مرتين ريتشارد شيرم


.. نحتاج نهضة في التعليم تشارك فيها وزارات التعليم والثقافة وال




.. -الصحة لا تعدي ولكن المرض معدي-..كيف يرى الكاتب محمد سلماوي


.. كلمة أخيرة - في عيد ميلاده.. حوار مع الكاتب محمد سلماوي حول




.. لماذا تستمر وسائل الإعلام الغربية في تبني الرواية الإسرائيلي