الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شذوذ مفهوم الوطنية

حسن محسن رمضان

2015 / 4 / 17
مواضيع وابحاث سياسية






منذ حوالي ثلاث سنوات نشرت مقالاً بعنوان (شذوذ مفهوم الوطنية في الذهنية العربية). وفي الأمس دار حواراً مطولاً عنها، أي عن المقالة، وعن "استخدام شعار الوطنية في الخطاب العربي المعاصر". وقد أسعدني جداً ما دار حول المقالة من تعقيبات وردود، إذ لا تزال "الذهنية العربية الراهنة" تدور حول نفس الإشكالية، بل هي ازدادت سوءاً كما نراه واضحاً جداً، على سبيل المثال، في مصر عند أتباع الفريق عبد الفتاح السيسي وفي دول الخليج عند مناصري الحرب على اليمن، فآليت أن أعيد نشر المقالة أدناه لتركيز الانتباه على "شذوذ" خطير في تلك الذهنية التي لا تزال مأسورة ضمن إطار "عبادة الأشخاص واختزال الأوطان".

حسن



شذوذ مفهوم الوطنية في الذهنية العربية



يعتبر مفهوم أو قيمة “الوطنية” من أكثر المفاهيم أو الدوافع تداولاً على مستوى وعي الشعوب العربية في العصر الحديث. فلا يكاد يخلو مخزون ثقافي أو تاريخي أو اجتماعي أو سياسي، بل وحتى اقتصادي، من تداول هذه “القيمة – الشعار” بصورة أو بأخرى وأحياناً بتعسف واضح سواء في الاستقراء أو الاستنتاج أو الممارسة. فالفن يستخدم الوطنية كموضوع، وتفسير التاريخ وخصوصاً الحديث منه يستخدمه كموضوع، والتفاعل الاجتماعي بين الطبقات والتوجيه الواعي لها يستخدمه كموضوع، والقرار السياسي وخصوصاً فيما يتعلق بالآخر المختلف يستخدم الوطنية كموضوع، وأصبحت حتى القرارات الاقتصادية في دولنا المتخلفة في كل شيء وبلا استثناء تستخدم الوطنية، ويال الشذوذ والغرابة، كموضوع. فلا شيء في المجتمعات العربية على الخصوص يخلو من تداول واعي لشعار “الوطنية” بسبب الفاعلية النفسية لهذا المفهوم في تكوين دافع عاطفي، غير عقلاني في أغلب الأحيان، في اتجاه محدد على مستوى الفرد والجماعة.

ومع هذا التداول المكثف لكلمة “الوطنية” إلا أن معناها الحقيقي متباين بين الأفراد وبين الجماعات على حد سواء. إذ “الوطنية”، كمفهوم على مستوى الوعي الفردي والجماعي في الكويت مثلاً ليست هي بالضبط كما يفهمها وعي الإنسان السعودي المجاور لحدوده الجنوبية، وهي بالتأكيد مختلفة في وعي الإنسان السوري في جملة من التفاصيل والمحاور. وكذلك الحال إذا قارنا هذا المفهوم بين الفرد ضمن الجماعات الإيرانية أو الأردنية أو المغربية أو المصرية وبين مفهومها عند الدول المجاورة لهم أو البعيدة عنهم. بل إن الوطنية تتباين مفهومها حتى ضمن الشعب الواحد كما هو واضح جداً في الصراع الداخلي اللبناني والعراقي. وبالتأكيد أيضاً أن هذا المفهوم مختلف في المعايير بين الدول الديموقراطية وبين الدول الديكتاتورية، بين دول الحريات وبين دول القمع والمخابرات، بين الدول الريع وبين الدول المنتجة الفاعلة على مستوى الاقتصاد والحضارة والتمدن شرقـاً وغرباً. وهذا الاختلاف في دولنا بالذات لابد وأنه ناشئ من واقع سياسي بالدرجة الأولى، ثم تتلوها عوامل الواقع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والعِرقي والخطاب الديني الفاعل ضمن المحيط وغيرها من العوامل. إلا أن أكثر العوامل بروزاً في المنطقة التي تحدها شرقاً إيران ودول الخليج العربي وغرباً مصر هو المحور الديني المذهبي.فالمخزون الفقهي الديني بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص، يفتقد أي تأصيل لمفهوم الوطنية بمعناه المعاصر. هذا المصطلح لا وجود له إطلاقاً، لا شكلاً ولا مضموناً، بمعناه الحديث، لا في النصوص المقدسة ولا في الأدبيات الفقهية الدينية للأديان التوحيدية الثلاث. فالوطن يكون حيث تهمين “العقيدة”، هكذا على البديهة، من وجهة نظر الدين، وأي دافع “وطني”، إن كان له وجود أصلاً في أي دين، لابد وأن يقع تحت مظلة دافع الإيمان بالعقيدة والدين وهو متفرع منهما ومرتبط إرتباطاً موضوعياً كنتيجة لاحقة. وإنما التحول في الخطاب المؤسسي الديني العربي في بعض نواحيه لصالح المفهوم “الوطني” حدث قبل حوالي الربع الأول من القرن الماضي مع قيام الدولة القومية في العراق وعلى عرشها الملك فيصل الأول ومعاون وزير معارفه ساطع الحصري الذي أزاح الدين كلياً من مادة الدين (!!) في المناهج الدراسية لصالح الفكرة القومية، ثم الثورات العربية المتلاحقة وهيمنة الجيش وأفراده على السياسة والاقتصاد والتعليم. فكأنما بروز مفهوم الوطنية في بعض أدبيات الخطاب الديني (باستثناء الخطاب السلفي الذي يكفر هذا الخطاب) أتى كناتج للضغط السياسي المحلي وكأداة لصالح الهيمنة الداخلية للقوى المسيطرة وليس تطويراً ذاتياً ذو تأصيل يعتمد على “نص” مقدس من نوع ما. فمفهوم الوطنية في الخطاب الديني العربي يحمل دائماً البصمة المحلية للدولة صاحبة ذلك الخطاب، كما أنه يفتقد أي تأصيل لشمولية وعمومية الفكرة التي تدور حول مفاهيم المواطنة.

يُعتقد أن مفهوم الوطنية قد نشأ في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر مع بروز فكرة الدول القومية هناك إلى درجة أن البعض عندهم يطابق بين المعنى في المصطلحين الواصفين لهما (Patriotism) و (Nationalism). فكأن المضامين الكامنة في مصطلح الوطنية أُريد لها أن تحل محل الداوفع النفسية والعاطفية التي كانت تحتلها مواضيع أخرى، منها الدينية مثلاً، بسبب اختلاف ظروف الحضارة الأوروبية والتغيرات التي طرأت على مفاهيم المجتمع والاقتصاد هناك. فالقوميات، كسياق عرقي أو ثقافي، أصبحت تتطلع إلى إثبات الهوية القومية، كلغة وتاريخ مشترك ضمن رقعة جغرافية محددة، بعيداً عن ما يبرز التباين والخلاف على مستوى الدين أو المذهب أو الفكر أو العِرق. إذ أن ابراز عناصر الخلاف العقائدي، على سبيل المثال وكما كان يحدث في القرون الوسطى، سوف يؤدي بالمجتمع إلى توجيه جهوده الإبداعية بعيداً عن محاور التمدن والتحضر ومظاهرهما، هذا بالاضافة إلى أن مفهوم المواطنة قد تطور ليحوى قطاعات عريضة غير منسجمة عقائدياً وفكرياً بالضرورة. وبسبب هذا التهميش المتعمد لِما كان في الماضي الدوافع الرئيسة لرغبات البقاء أو الهيمنة أو الأطماع على مستوى المجموع العام (دين – مذهب – عِرق)، كان ولابد من إبراز “دافع” يحل محل تلك الدوافع الأخرى التي كانت فاعلة قبل الفكرة القومية، فنشأت فكرة “الوطنية”. ولهذا السبب فإن التاريخ المتوسط والمبكر لكل شعوب الأرض اليوم قد أتى خالياً من هذا المصطلح ومن هذا الدافع. فـ “حب الأوطان” الذي أتى في الشعر والأدب العربي القديم والوسيط على سبيل المثال إنما أتى على المستوى الفردي الشاعري وليس على أنه دافع جماعي تسير وتُستَقطب تحت رايته الشعوب.

فالوطنية إذن هي مفهوم مستورد وغريب على الذهنية العربية والإسلامية ولم يكن يُتداول في أدبياتهما قبل أكثر من مئة سنة على أكثر تقدير. فالولاء للدولة العثمانية، على عكس ما يجتهد به البعض اليوم وخصوصاً على مستوى الفنون والدراما لإقناعنا بأنه كان “احتلال” يقاومه “الوطنيون” كلٌ في “وطنه” بحدوده اليوم، كان كان على الحقيقة ولاءً دينياً صرفاً شديد النزعة لم يشذ عنه إلا القوميات غير الإسلامية أو من كان له طموح سياسي يفوق “تقاه” الديني كالشريف حسين أمير مكة الذي أعلن “الجهاد”(!) ضد الأتراك، مغتصبي الخلافة التي هي من حق أحفاد النبي محمد كما يدّعي ويقول، ثم ذهب وتحالف مع الإنجليز من خلال ممثلهم عنده، لورنس العرب كما كانوا يسمونه، حتى انتهت الدول العربية أمام عينيه مُقسمة ومحتلة من الإنجليز والفرنسيين وهو منفياً منهم في قبرص ولكن مِنْ دون أن يُعلن “الجهاد” هذه المرة. ولا أدل على تلك النزعة الدينية الشديدة، ضمن صور أخرى متعددة في التاريخ وخصوصاً عند إلغاء الخلافة نهائياً، أن أهل نابلس عندما أرادوا أن يعزلوا واليهم في بداية القرن العشرين، رفعوا كتاباً إلى الخليفة العثماني عنوانه (إلى رب العالمين بواسطة ظله الظليل أمير المؤمنين).

ولكن، وكما هو الحال في كل شيء استوردته دولنا، فقد تم تحوير مفهوم الوطنية في الوعي الفاعل للأمة ليغدو عاملاً مساعداً للبؤس السياسي والاجتماعي والثقافي الذي نعيشه. فبينما مفهوم الوطنية هو بالضرورة يتعلق بـ “الأرض” التي تحوي القومية، وما يتعلق بهذه الأرض من مصلحة ومواطنة، كما يفهمه الرجل العادي في أوروبا أو الولايات المتحدة على سبيل المثال، تحور مفهوم الوطنية عندنا ليُذيب “الأرض” تماماً ومعها مفاهيمها المتعلقة بها إما في شخص الحاكم وسياساته أو في تفاصيل دين يُراد له أن يسيطر أو خلاف مذهب لابد له أن يهيمن، ثم لتنتهي هذه الذهنية العربية إلى إلغاء مصلحة الأرض في سبيل الدفاع عن “ذات” و “سياسة” الحاكم أو الدين أو المذهب وإنْ كانت ضد المفهوم الأصلي للوطنية. فحالة أوروبا في القرون الوسطى تتكرر اليوم في الوطن العربي ولكن ظلامها وولاءاتها ومحاكم تفتيشها تتخفى تحت قشور التمدن العربي المزيف. فالوعي العربي قد تم تدريبه، أو لنكن أكثر دقة ونقول تم “تأديبه”، ليستميت في الدفاع إما عن سياسة حكوماته أو عن ممارسات أصحاب دينه ومذهبه ضد أي شخص ناقد لا ينتمي إلى دينه ومذهبه أو يقطن خارج حدود دولته ولا يحمل جنسيتها. فأصبحت القناعة عند قطاع عريض من الشعوب العربية أنَّ مجرد الرضوخ أو القبول لأي نقد عقلاني منطقي لشخص الحاكم وسياساته أو لدينه ومذهبه، إذا أتى من أي شخص خارج حدوده الوطنية أو لا يحمل جنسية تلك الدولة أو مخالف له في الدين والمذهب حتى ولو كان من أبناء وطنه، هو عمل “غير وطني”، وقد يساوي الخيانة وبيع الوطن للأغراب. فالعقل والوعي العربي (الخليجي على الخصوص) في تلك الحالة أصبح لا يفرق أبداً بين شخص الحاكم أو الدين والمذهب وبين “الوطنية” كقيمة أخلاقية متجردة سامية إذا كان الأمر يتعلق بالآخر المختلف. فبينما لا يجد أي أوروبي أو أمريكي غضاضة في أن يتناقش مع أي شخص كان حول سياسة دولته الخارجية والداخلية أو حول دينه، ثم ليصف حكومته مع هذا المواطن أو الغريب بما يراه مناسباً في حقها من كلمات ثم يقبل أو يرفض بكل أريحية الأفكار الناقدة لدينه، نجد الإنسان العربي أو الإسلامي يأخذ وضع الدفاع المستميت، مع ما يستلزمه من تشنج وصراخ وشتائم واتهامات إذا استدعى ذلك، حتى وإن خرج به الأمر في بعض الأحيان وخصوصاً في المناظرات التلفزيونية إلى محاولة إثبات المستحيلات الثلاث ولتكون دعواه هي رابعها، بل لا يجد أية غضاضة في تخوين قطاع عريض من أبناء وطنه ممن يخالفونه في الدين أو المذهب، وكل هذا تحت دعوى “الوطنية”. والحال هو أشد وطئة وكارثية في التفرقة الوطنية (!!) بين مواطني نفس الدولة ممن يدينون بأديان ومذاهب مختلفة كما نراه واضحاً في دول الخليج العربي والعراق ولبنان ومصر وسوريا. فـ “الوطني” في الوعي الشعبي العام هو من يستميت في الدفاع عن “سياسة” حكومته ضد “الغريب” بالحق وبالباطل، أو في الجدال المتشنج العقيم عن دينه ومذهبه مع ما يصاحبها من تلميحات التخوين والعمالة في حق أبناء وطنه ممن لا يؤمنون بموضوع إيمانه الديني. وكل من يفعل العكس هو مشكوك في “وطنيته”. ولو استعرضنا، على سبيل المثال، بعض ردود الأفعال العربية من العدوان الإسرائيلي البربري على جنوب لبنان في سنة 2006 والهجوم الإسرئيلي الهمجي الذي تعرض له قطاع غزة بين سنتي 2008 – 2009 وما تلاه من حصار غير إنساني من الجانب الإسرائيلي والمصري، لو استعرضنا بعض ردود الأفعال العربية لهاتين الحادثتين معاً لفهمنا أن شذوذ المفاهيم ترجع إلى عملية “التأديب” الذي تعرض لها المواطن العربي عبر قرون من الاستبداد والتلقين الديني المسيس الذي يصر على أن للحاكم الحق في أن (يضرب ظهرك ويأخذ مالك) وليس لك إلا الدعاء والصلاة والاستغفار له. كما أنه لو لاحظنا الازدواجية في النظرة، المدفوعة فقط بسبب اختلاف المذهب، عند شعوب الخليج العربي للثورات التي تحدث بعيداً عن دولها وموقف نفس هذه الشعوب من ثورة الشعب البحريني أو المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية التي تعارض نفس الممارسات التعسفية لعرفنا حجم الإشكالية التي تتعلق بالقيم والمفاهيم.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن “الوطنية” بمفهومها العربي سوف يتم استخدامها أيضاً لمعاداة شعوب بأكملها قد تشترك في اللغة والدين والثقافة والتاريخ لسبب أو لآخر. فبينما نجد أنه في الحرب العالمية الثانية سقط للحلفاء عشرات الملايين من الضحايا في حربهم مع الألمان، فإن أول شيء فعلوه بعد هزيمتها هو تبني مشروع مارشال والذي انتهت به ألمانيا كاقتصاد وكحليف لا يمكن الاستغناء عن مساهماته، نجد أن الوعي العربي والإسلامي لا يزال “يجتر” حتى هذا اليوم حوادث التاريخ القديم والحديث ليعادي جيرانه العرب والمسلمين وكلها تحت دعوى “الوطنية“. فعلى حسب هذا المفهوم الشاذ العربي البحت للوطنية فإن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية هم مجموعة من الخونة وحثالة الشعوب، ونحن الشرفاء فقط في هذا الزمان. ولكن المضحك هو أن هؤلاء الحلفاء هم أنفسهم من صدّروا وأعطوا مفهوم الوطنية لشعوبنا العربية والإسلامية، وليكون هذا الضحك من نوع ضحك السخرية. كما أن الملاحظ أن الوعي “الوطني” العربي في بعض سياقه العام لم يجد أية غضاضة في أن يتقلب بين المتناقضات تبعاً لسياسة الحاكم وأهواؤه ومزاجيته. فصناعة السياسة عندنا هي صناعة أفراد، بينما عند الآخرين هي صناعة مؤسسات تستلهم مصلحة المجموع قبل الفرد. ولهذا السبب فإن “الوطنية” عندنا هو شعار لا يحوي من المضامين الشيء الكثير بسبب الحاجة المستمرة من جانب “صانع السياسة الفرد” لأن يوجه شعبه بين المتناقضات. فتحت شعار “الوطنية” انساقت شعوب الخليج العربي، مثلاً، لمشاريع صدام حسين الشاذة التوسعية ضد جاره الشرقي إيران، حتى إذا غزا (سيف العرب) كما أسموه زوراً دولة الكويت، تغيرت معايير الوطنية فجأة. فـ “وطنية” الثمانينات تعني أنه لا بأس أن يغزو (حامي البوابة الشرقية) جاره الشرقي إيران ويحتل أرضها ويشرد شعبها ويقتل ويعتدي على أطفالها ونسائها و “يرش” سلاحه الكيماوي عليهم وعلى الأكراد ويعتدي على شعبه، شعب العراق، بكل نوع من أنواع الوحشية خرجت في معظمها إلى محيط السادية المريضة، هذا في نفس الوقت الذي يجد فيه من المؤيدين والمصفقين والمتعاطفين الكثير الكثير في أرجاء الوطن العربي ومنها دول الخليج، وكلها تحت شعار “الوطنية”. ولكن نفس هذه “الوطنية” في أذهان بعض العرب لا تبيح له أن يفعل نفس تلك السادية المريضة مع جاره الجنوبي الكويت، بينما استمرت “وطنية” باقي العرب في التصفيق والتهليل لما حل بالشعب الكويتي. بل حتى العكس أصبح صحيحاً ضمن هذا الشذوذ المتناقض. فـ “الوطنية” العربية، في بعض تقسيماتها، والتي كانت ترفض رفضاً قاطعاً ما فعله صدام حسين مع إيران، رقصت طرباً وفرحاً بغزو الكويت، الجار العربي، ورضت به تماماً إلى حدود التشفّي والشماتة والاستهزاء كما في بعض الحالات. وقس على هذا المنطق المتناقض والمتعاكس “وطنيين” الوطن العربي برمته من المحيط إلى الخليج في قضايا لا أول لها ولا آخر، الذين يتشفّون بغيرهم من منطلق “الوطنية” ثم يرفضون نفس الممارسة، ومن نفس منطلق شذوذ مفهوم الوطنية، إذا وقعوا هم ضحايا لها. فشعار (من زاخو إلى البحر)، شعار النظام العراقي خلال غزوه واحتلاله الكويت، الرضوخ له ليس “وطنية” عند البعض، بينما (من زاخو إلى طهران) في ثمانينات القرن الماضي هو لب الوطنية وجوهرها عند الأغلبية الساحقة لـ “وطنيي” الوطن العربي. فأصبحت الـ “وطنية” فجأة في الذهنية العربية تتحمّل ألوان الطيف كلها، وتتقلب على مزاجية “ولي النعمة” أو “القائد الأوحد” أو الهوى الديني والمذهبي والعرقي أو حتى حب التشفي لمرضى النفوس.

إن الشذوذ في الذهنية العربية والإسلامية لا يقف عند هذا الحد بالتأكيد، إلا أن مفهوم “الوطنية” في هذا الوعي هو مثال بارز لهذا التشوه الذي يصيب فكر أمة ما. ولكن الأخطر أن يتحول هذا التشوه إلى قاعدة يتم الرجوع إليها عند ردود الأفعال المصيرية والتي قد يتعرض لها أي شعب. نحن بحاجة إلى أن نراجع أنفسنا حول مفهوم الوطنية، ما هو معناه، ما حدوده، ما هي أساليبه. ونحن بحاجة أيضاً أن نوضح لأنفسنا أن الوطنية لا تعني أبداً الاستقتال في سبيل “شخص” أو في سبيل “سياسة” أو هدم كل شيء في سبيل قيام قناعة دينية، ولكنها تعني “وطن”، بحدوده، بصحرائه، بجباله، بسهوله، بباديته، بحاضرته، بالمرأة التي تبكي على طفلها الذي قتله عدو، بالشيخ الذي استولى على شبر، فقط شبر، من أرضه معتدٍ، بالطفل الذي يركض ضاحكاً وهو خارج من مدرسته، بالمراهق الذي ينتظر الفتاة لساعات في طريق ما، بالفرح والحزن، بالبكاء والضحك، بشجار الباعة وصراخ العامة، بتكبر الأغنياء وأنفة الفقراء، بشكوى الناس من حكوماتهم ودفاع الساسة عن ولي النعمة، بنفاق المنافقين وضجر الطيبين، بأذان المساجد ونواقيس الكنائس وجدال الملحدين ذي الصوت الخفيض، بأثواب السلفيين القصيرة وتجهم وجوههم، بنقاب نسائهم مع بصيص أعينهن الكحلى، بعمائم رجال الدين الشيعة وبوجوه نسائهم الجميل مع حجابهن الأسود، بإغراء الأثواب القصيرة والشعر المصبوغ، بالجهود الدعوية ذات النكهة الطبقية للفنانات “التائبات”، بتقلب جماعة الإخوان المسلمين وتناقضهم بين اليمين واليسار والوسط، بشكاوى الليبراليين وغضب العلمانيين، بحوارات ومؤتمرات الناصريين والشيوعيين التي يتم نسيانها تماماً بعد نصف ساعة من ختامها، باتهامات الكفر والزندقة، بكتابات الشعر والأدب والقصة، بالمقالات التي لا يقرأها أحد، بالمقاهي وأصوات الأراجيل، بغلاء أسعار الغذاء، بهموم الآباء وبخوف الأمهات، بالزواج والطلاق، بصراخ المواليد الجدد كل يوم، بأنين المرضى في المستشفيات ونظرات النساء والأطفال الخائفة، بولولة النساء ونحيبهن على الفقيد، بالحق المسلوب الذي يدافع عنه شخص ما، بالمحتال والمرتشي والسارق، بالحالم في دولة العدل والحرية، بالراكض خلف سراب الأوهام، وبمن يجلس في بيته وحيداً أمام شاشة تلفاز. هذا هو “الوطن”، والوطنية تعني هؤلاء، وليس الوطن بالتأكيد شخص واحد قابع في قصر ما يحيط به مجموعة من المنافقين، وليس دين واحد أو مذهب واحد يحيط بهما مجموعة من المتزمتين ذوي الأفق المصلحي الضيق، وكل هؤلاء يريدون من الباقي أن يمثلوا دور الراقصين لهم وإن كانت على جراحهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف قطاع الطائرات المسيرة


.. ماكرون يدعو لبناء قدرات دفاعية أوروبية في المجالين العسكري و




.. البيت الأبيض: نرعب في رؤية تحقيق بشأن المقابر الجماعية في قط


.. متظاهرون يقتحمون معهد التكنلوجيا في نيويورك تضامنا مع جامعة




.. إصابة 11 جنديا إسرائيليا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة ا