الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صنم -بورقيبة- أم تمثاله ؟

هيثم بن محمد شطورو

2015 / 4 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


أتـذكـر تمثال الزعيم "بورقيبة" في مدينة صفاقس. لم يكن الـتمثال مبعثا للراحة النـفـسية إلا لقـليلين جدا من الأفراد، أما الأغلبية و إن كانت تـؤمن بالمجاهد الأكبر و محرر تونس فإن التمثال لم يكن أثرا فنيا بقدر ما كان صنما يـبعث على الرهبة و الخوف. صنم السلطة الـقمعية و ليس تمثالا يجسد رمزية التحرير.
أتـذكر ذات مرة شيوع خبر احدهم و قـد هجم على الصنم يـبصق عليه و يسبه و يقـول انه عيسى ابن مريم الذي وعـد الله بـبعثه في آخر الزمان لينقـذ البشرية من خطاياها و ينهي زمانية الشر ليعم السلام و المحبة قبل ان يأخذ الله أرضه و ما عليها. أحدث الرجل فعل الدهشة في الجموع الواقـفة بعيدة عنه قليلا. موقف الجمهور هو موقف الذي يظهر مستـنكرا و لكنه مستمتع بانـتهاك الصنم. موقف الخائف و المستمتع بشجاعة الرجل و غرابته. لا يمكن لهذا الفعل ان يصدر إلا عن غريب. انه مسيحي و ليس بمسلم. هكذا قال احدهم برغم عـدم وجود مسيحيـين في البلد. المهم انه الغريب الذي حقق وقده تحررية علنية مخبئة في الصدور. و طبعا هرع إليه البوليس الذي جره أخيرا كخرقة بالية. سدنة الأصنام يدركون جيدا ان محو الفعل لن يكون إلا بأقصى أنواع الاهانة التي تخرج الكائن من أي إنسانية ليكون الفعل مستهجنا غير إنساني. فالصنم بدوره غير إنساني و لكنه عاجز أن يوقر نفسه في النفوس دون سدنته.
تبين فيما بعد أو هكذا تمت إشاعة الأمر في كون "شكري مقني" المسلم من عائلة معروفة في المدينة مضروب في عـقـله، و انه كان تلميذا ذكيا جدا و لكن الفقر المدقع لأسرته منعه من مواصلة تعـليمه إضافة لعـدم تـقبله لاهانة بعض المدرسين. كان بإمكان الرجل ان يكون مدرسا أو طبـيـبا أو مهندسا، لكن ذلك لا يعني شيئا أمام ما قـدمه من جرأة في مهاجمة الصنم. تمثال بورقيبة الذي تحول إلى بورقيبة نفسه عند البوليس و عند الجمهور.
و بعد هبة التغيير النوفمبري الواعـد بالديمقراطية سنة 1987، كانت السلطة الجديدة تدرك جيدا الوقع النفسي السيئ عند الشعب لتماثيل "بورقيبة" في المدن التونسية بما أنها كانت بوليس بورقيبة. إلى جانب تلك التماثيل كانت توجد أصنام صغيرة للزعيم في مكاتب البيروقراطية. السلطة الجـديدة كانت بحاجة إلى القيام بفعل له مفعول السحر في الأنـفـس يحقـق فكرة التغيـير و لو كان الأمر على المستوى الرمزي فقط. و كان تحطيم أصنام الزعيم. تحـطيم الأصنام له مرجعية تاريخية عميقة من جهة اتصاله بالمقـدس.
و اليوم تريد السلطة الجديدة التي استـنجدت بالرمزية البورقيبية للصعـود إلى السلطة ان تـنـشئ تمثالا لبورقيبة في تونس العاصمة. ربما لا يتعـدى الأمر مجرد تكـفير عن الذنب في ترك الزعيم وحيدا أمام مصيره بعـد إزاحته من السلطة. فجل القائمين اليوم كمدافعين أشاوس عن الزعيم بورقيبة لم يتـفـوهوا بكلمة واحدة تدافع عن الرجل الذي سقط من الإلوهية التي أراد أن يكونها إلى دناسة المذلة. نـتـذكر جيدا كيف تم جلب بورقيبة في انتخابات 1989، ليطلب من الشعب انتخاب زين العابدين بن علي. و نعلم أن السلطة ما هي إلا للأقوى و مثلما تولوا يولى عليكم.
كما أن مواصلة الاستـنجاد برمزية بورقيبة يؤكد خلو السلطة الجـديدة من التصورات المستـقبلية، و هي قد حددت نفسها بانجازات بورقيبة. انجازات بورقيبة في نشر التعـليم العصري و في الصحة و في مجلة الأحوال الشخصية كانت مذهلة في وقـتها، و لكن الانجاز توقـف تـقـريبا منذ بداية السبعينات. الآن اهترأت المدارس و المستـشـفيات العامة إلى جانب عـدم تغطيتها لمساحة البلد كما ان مجلة الأحوال الشخصية لم تـقـنن المساواة في الإرث بين المرأة و الرجل. و من جهة أخرى فان النظام النوفمبري ولد من أحشاء النظام البورقيبي و هو امتداد لاستبداده و انـتكاسته. فالرجعية الدينية فتح لها الأبواب النظام البورقيبي و دعمها لمحاربة اليسار الذي كان مسيطرا على الجامعة التونسية. و الدخول تحت قبة صندوق النقد الدولي دشنها النظام البورقيبي في عهد الوزير الأول البشير صفر.
و الآن يعلم الجميع ان المقاومة الشرسة لمشروع أخـونة تونس كانت من طرف القوى اليسارية المناضلة التي كانت و لا تـزال مستعـدة لتـقـديم أرواحها فـداءا لروح الثورة التـقـدمية. و حين هاجم الإسلاميون الزعيم بورقيبة انطلاقا من زاويتهم اصطف الجميع وراء رمزية بورقيبة التحديثية، بما أن الزعيم برغم كل شيء فانه قابع في القـلوب لأنه استـثـنائي جدا و قـدم الكثير لتونس. كان زعيما لحـركة التحـريـر الوطني و لكنه أساسا كان زعيما للتحرير الاجتماعي و الثـقافي من تخلف العالم القديم.
و اليوم قد يقتصر النظر إلى تمثال الزعيم من هذه الناحية. لكن بالنسبة للسلطة الخالية من مشروع وطني شامل متصل بثورة 14 جانفي 2011، فان محاولتها في ردم اللحظة الثورية الراهنة هو وهم كبير. فالثورة رمزها هو شكري بالعيد و كان الأجدى هو إنشاء تمثال له. الأجدى من حيث البراغماتية السياسية بحيث تعطي الانطباع بالثورية و الاتصال بالثورة لان الثورة التونسية هي ثورة يسارية سواء من حيث الانجاز أو المطالب أو القوى السياسية الثورية الحقيقية، أو المشروع الوطني الشامل الذي لا يمكن للأمور أن تهدأ بـدونه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أولينا زيلينسكا زوجة الرئيس الأوكراني. هل اشترت سيارة بوغاتي


.. بعد -المرحلة الأخيرة في غزة.. هل تجتاح إسرائيل لبنان؟ | #غرف




.. غارات إسرائيلية على خان يونس.. وموجة نزوح جديدة | #مراسلو_سك


.. معاناة مستمرة للنازحين في مخيم جباليا وشمالي قطاع غزة




.. احتجاج طلاب جامعة كاليفورنيا لفسخ التعاقد مع شركات داعمة للإ