الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [19]

محمد عبد المنعم عرفة

2015 / 4 / 21
الادب والفن


أمام الواقع الجاثم على صدر التصوف من البدع والانحرافات، كان لابد للإمام من موقف صريح وصوت قوي يصحح هذه المسيرة، وهذا ما نراه فيما يلي:

موقف الإمام في خروج أدعياء التصوف عن الشرع:
يقول الإمام : أساس طريقنا هذا محبة الله تعالى إعظاما وإجلالا ومحبة رسوله الله صلى الله عليه وسلم تسليما وانقيادا، وإيثار كل مسلم على نفسه بأن يحب لـه ما يحبه لها يؤثره عليها في الخير، لأن الله تعالى أوجدنا وشرح صدورنا بنور رحمته وضياء المعرفة لنجدد ما فيه من معالم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم علما وعملا وحالا، ولنحيي ما اندرس من أنوار كتاب الله تعالى علما وشهودا وتسليما ورضاء، ونعيد الماضي بما كان عليه سلفنا الصالح نفعنا الله بهم ليكون الله تعالى معنا وعندنا، ونكون مع الله تعالى.
هذا وإن كان كل أخ من أحبابي في الله يجب عليه أولا أن يحصل ما لابد لـه منه من علوم الشريعة، ليصل بما أمره الله، وليكون قدوة حسنة في أحبابه في الله دالا على الحق بعلمه أولا، وبقوله ثانيا، وبحاله ثالثا، فمن ترك العمل الذي يكون به عبدا لله تعالى عابدا حرم السعادتين، ومن بين لغيره بيانا يخالف بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عمل عملا يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تحلى بحال ينكره العارفون بالله تعالى كان ضالا مضلا مظهرا لإبليس عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن بين الحق بلسانه ولم يعمل بجوارحه ونفسه كان فتنة للمسلمين كالسراج الذي يحرق نفسه ويضيء لغيره لأن الناس أسرع تقليدا للعمل منه للعلم.
وإنما أفسد العقائد وفرق المجتمع الإسلامي عالم اللسان جهول القلب يأمر الناس بالخير ولا يعمله فيقتدي به الناس ولا ينتفعون بعلمه. وليس هؤلاء بأئمة المسلمين لأنهم أعوان الشياطين وعبيد الدنيا وخدم الملوك ولو كانوا كفارا.
إخواني.. إن كثيرا من الناس من أعماهم الحظ وأضلهم الهوى وقادهم الشيطان الرجيم، فنسبوا أنفسهم إلى المعرفة مع جهلهم، والى الكشف مع بعدهم، فأضلوا كثيرا من الإخوان بزخرف القول غرورا فتركوا الصلاة والصيام ووقعوا في شر من ذلك وهو القول بالحول، كما قال تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ )(التوبة: من الآية34)، وقال تعالى )وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون:4) ، وقال تعالى )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَاد وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة204 :206).وكلنا نعلم أن كل آية نزلت في بني إسرائيل جرت بذيلها أهل الغواية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (افترقت بنو إسرائيل على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي).
وتمسكوا يا أحبابي في الله تعالى بالسنة وعضوا عليها بالنواجذ وفروا من كل متساهل. واعلموا حق اليقين أن الله ما أمرنا بعمل على لسان رسول ونهانا عنه على لسان ولي.. ومن تأويل القرآن والسنة تأويلا يؤدي إلى مخالفة الشرع فهو شيطان مارد. فاحفظوه واتقوا الله حق تقاته بأن تطيعوه فلا تعصوه، وتذكروه فلا تنسوه، وتشكروه ولا تكفروه.

هو الشرع حصن الأمن سر وصولي * به كشف إجمالي.. به تفصيلي
صراط عليه المفردون تفردوا * ومعراج أهل الحب والتأويل
هو الحبل حبل الله مد لأهله * به يرتقي المحبوب للمأمول
من جاوز الشرع الشريف هوى به * إلى السفل من غاو وكل جهول
فشاهد بحصن الشرع آيا علية * تلوح لأهل الأنوار في التنزيل
تحصن بحصن الشرع تشهد مشاهدا * تنال بها الزلفى بخير وصول
ومن راحه الصافي الطهور تناولن * يواليك وهاب بنور سبيل
تلوح لك الأسرار فيها تنزلا * تحاط بوجه ظاهر وجميل

ويخاطب مريديه وطلاب الحقيقة فيقول:
وادخل حصون الشرع قلبا وقالبا
تحيا سعيدا في شهود المتقين

تلك النفوس قوية في فعلها
قد تحجب الأفراد كم أردت سجين

الشرع عصمة سالك يهدي إلى
دار الصفا رضوان رب العالمين

موقف الإمام من دعاة الاتحاد والحلول:
يرى الإمام رضوان الله عليه أن دعاة القول بالاتحاد أو الحلول أو المجسمة هم الذين تلقوا الحكمة من شيوخهم وكانت نفس الواحد منهم خبيثة، ففهمها على قدر نفسه وتعصب لفهمه، فقال بالجسمية والحلول. ولذا فإن الإمام أطلق على أصحاب هذه النظرية بأنهم مجوس هذه الأمة، كما حذر أتباعه من مصاحبتهم أو الاقتداء بهم.
ويتكلم الإمام شارحا بعض مقامات السير والسلوك إلى ملك الملوك فيقول:
فناء الصادقين وفناء الكاذبين:
لا تزول البشرية- وزوالها حصول البلية لأن بها الجهاد في سبيل الله- ولولاها لما امتاز الإنسان عن عوالم الروحانيين، قال الله تعالى )لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
فناء الكاذبين مخالفة أمر الحاكم سبحانه مع قيام البشرية مقتضى ولزاما، وإمامهم في هذا إبليس فنى كاذبا فترك الأمر جانبا، أما فناء الصادقين فالقيام بالأمر مسارعة إلى السمع والطاعة والفناء عنه بنسبته إلى الموفِق المعين الموجد الممِد سبحانه حتى لا تُشهد المنة من العامل فيستكثر عمله، قال الله تعالى )فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ )(لأنفال: من الآية17)، فأفناهم عن شهود نسبة العمل إليهم بعد أن تفضل سبحانه عليهم بالإحسان بالقيام به، فهم العاملون كما أمر عن نسبته إليهم كما أحب منهم وطلب، وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله صلوات الله وسلامه عليه ليستر عنه العمل بعد قيامه به ليفنى عنه صلى الله عليه وسلم لكمال تحققه بحقيقة التوحيد، قال تعالى ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )(فاطر: من الآية10)، وهو الفناء عن نسبة العمل إلى العامل بعد القيام بالعمل كما أمر سبحانه.
ومن ترك الأمر وظن أنه فان بترك الأمر وشعر بألم الجوع والعطش فهو شيطان الإنس اقتدى بشيطان الجن، وأهل الفناء هم أهل الكهف الذين مكثوا بضعا وثلاثمائة سنة فانين عن البشرية ولوازمها مستغرقين في شهود التوحيد بالتوحيد.
ومن ادعى الفناء فترك الأمر والنهي كان ممن شنع الله عليهم بقوله سبحانه )وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:28) ، رزقنا الله السمع والطاعة لأمره جل جلاله والفناء عن نسبة الأعمال لنا بعد القيام بها مخلصين لـه الدين يا رب العالمين. ونعيم الفناء طريق المخلصين من أولياء الله الموقنين، ولكنه ترك ليس للسالك أن ينزل فيه إلا بعد معرفة طريقين: الخبرة به، والسير فيه.. والله الموافق للصواب.

موقف الإمام من تعدد الطرق الصوفية:
روي إن الإمام دعا يوما مشايخ الطرق الصوفية على مائدة الغذاء، وكان الإمام قد عقد العزم من هذه الدعوة على أن يكلمهم عن اتحاد هذه الطرق الصوفية كلها في طريق واحد )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )(الأنعام: من الآية153)وقد قال الإمام عن الطريق المستقيم. إن الطريق المستقيم يا إخواني واحد لا يتعدد وإن تعددت أنواع السير عليه، سرعة وبطئا، وتأنيا وإقبالا، والسالكون عليه وإن تفاوتت هممهم وتنوعت عزائمهم إلا أنهم لا خلاف بينهم، لأنهم كلهم على اعتقاد واحد ورأي واحد ومذهب واحد، سارعوا إلى وجهة واحدة، وتعاونوا على مقصد واحد، وتنافسوا في مراد واحد. إنما الخلاف بينهم أن هذا الطريق الحق إلا أنه توسط وعمل بالقلب والجسم بحالة وسط، وأخوه معه على الطريق الحق إلا أنه عمل بالواجب البدني ووقف عنده وزاد في عمل القلوب على الواجب القلبي، والآخر على الطريق الحق إلا أنه جاهد نفسه ليتخلى وأخوه معه إلا أنه ينافس ليتحلى، والكل في حيطة واحدة وهي المدينة التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
وبعد تناول الغذاء على مائدة الإمام والترحيب بهم ، بدأ الإمام الحديث بقوله:
يا إخواني: ليس الطريق لنكون فرقا مختلفين وعصبا متنافرين وشيعا متباغضين، قلوب على الحظ والهوى عقدت، وبالدنيا وما فيها اطمأنت، وللشهرة والسمعة طالبت حتى أصبح المسلمون وهم كثيرون قليلا، قال تعالى )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية103).
ثم أفاض في شرح آية الاعتصام وعدم التفرقة. وبعد ذلك طلب منهم أن يختاروا واحدا منهم ينصبونه إماما للطريق ويسلم لـه الجميع ويساعدوه على أداء رسالته، وقال لهم: الرجل الذي تختارونه أنا أول من يحمل حذائه، وحتى لا تظنوا أني جمعتكم في بيتي لتختاروني، فسأترككم لمدة ساعتين تختارون من بينكم من شئتم.
تركهم الإمام وصعد إلى خلوته. ولما عاد إليهم عرف أنهم اتفقوا على أن يظلوا على ما هم فيه!!. وجلس الإمام وضرب على فخده قائلا: الله بالمد الطويل، فأخرج الكتبة الحاضرون أقلامهم وأوراقهم ليكتبوا ، قال الإمام رضوان الله عليه:
ما اختلاف الطريق والقصد واحد
والصراط السوي للمتواجد

ذا لأن النفوس مختلفات
كل نفس لها سبيل وشاهد

والرجال الأفراد فوق صراط
بدوه الكشف للمراد الواجد

من ألست شربوا طهورا مدارا
أسكرتهم لم يلفتنهم معاند

أفردوا الله باليقين وفروا
من سواه إليه والفضل وارد

من لدى البدء ووجهوا بجمال
يجذب الروح للولي الماجد

واختلاف الطريق في السير ينبي
باختلاف النفوس بل والموارد

والمراد المحبوب أفرد بالقصد
عليا وهو الإله الواحد

والنفوس المرضى تسير الهوينا
للأيادي أو للعطا والموائد

أو لأجر تسعى ونيل حظوظ
في جنان النعيم بين الولائد

بين زهد فيما يزول لقصد
فوزه بالقبول تجده عابد

ذاك سر التفريق والوجه قصدي
من ألست وطالب الغير جاحد

أفرد المجتبون وجها عليا
باليقين القوى محو العوائد

شاهدوا باليقين في الكون نورا
كان بدءا يراه كل مشاهد

لم تعقهم عناصر وحدود
كل فرد لله بالله عائد

ظللتهم أنوار شمس التجلي
سترتهم عنهم فبشرى لصاعد

ناولتهم يد العناية راحا
أسعدتهم بنيل كل المقاصد

قصدهم واحد إليه ِأنابوا
بل لـه أسلموا بقلب واجد

رد الإمام على من يفرق بين الشريعة والطريقة:
سبق لي في غير هذا الموضوع أني بينت أن مدلول (شريعة- طريق- منهاج- صراط- سبيل) واحد، وكلها ألفاظ مترادفة دالة على المسافة التي يلزم العبد أن يتجاوزها من الدنيا إلى الآخرة ومن الآخرة إلى المُكَوِّن سبحانه، وهي المسافة التي لا نجاة لعبد إلا بتجاوزها على الصراط المستقيم. وتلك المسافة شاسعة طويلة الشقة صعبة المشقة إلا على من يسر الله لهم السلوك وسهل عليهم مراحلها، وأنعم عليهم بالمرشد الكامل الذي يبين لهم سبل الله ويبين لهم حكمة أحكام الله ويشهدهم في أنفسهم وفي الآفاق آيات الله ، ويعالج أمراض نفوسهم وأسقام قلوبهم بما أمر الله به من قوله سبحانه )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125).
1- فالحكمة : لأهل الاستعداد الذين سبقت لهم الحسنى وحصلت منهم الرغبة في الحق والشوق إلى ما عنده سبحانه، وهي بيان أسراره وكشف غوامض آياته وشرح مكنون حكمه سبحانه وتعالى.
2- والموعظة: للمؤهل الذي سبقت لـه الحسنى ولكنه ملتفت ببصره إلى غير ما يجب أن يواجهه، والموعظة هي التلبية إلى ما يجب على العبد، وهي الذكرى، لأن من شهد شيئا وتصوره والتفت عنه يذكره، ولذلك فإن الله تعالى قال ) وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )(النحل: من الآية125) ولم يقل بالحكمة الحسنى، لأن الحكمة حسنة والموعظة تذكير من شهد مشهدا وشغله غيره ليلتفت إلى مشهده الأول.
3- وأما المجادلة: لمن لم يكن فيه أهليه ولا استعداد ، فتقام عليه الحجة بالتي هي أحسن حتى لا يحصل لـه النفور. وأشار الله تعالى بقوله ) بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(الأنعام: من الآية152) لتكون الحجة قائمة عليه، فإن وفقه الله تعالى اقبل مطمئنا، وأن لم يقدر لـه توفيقه أدبر وقد قامت عليه حجة الله تعالى ، قال تعالى
) فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ )(الأنعام: من الآية149). فمن أسعده الله تعالى بمرشد عالم بطريق الوصول ورزقه الله التسليم لـه كان ذلك أكبر دليل على سعادته في الدنيا والآخرة.

ولما كانت تلك الألفاظ كلها مترادفة، كان قولنا شريعة وطريقة بمعنى واحد، ولكن اصطلح السلف الصالح على أن يضعوا لفظ (طريقة) علما على تلاميذهم الذين تفرغوا لتلقي العلوم والعمل بها وأقبلوا بكليتهم على مجاهدة أنفسهم ليتجاوزوا تلك المسافات الشاسعة، وصار لفظ (الطريق) علما على طائفة مخصوصة من تلاميذ العلماء الربانيين الذين يتلقون عنهم أسرارهم ويتشبهون بهم في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم وأحوالهم ويسارعون في العمل بما يعلمونه منهم.
ومن انتسب إلى الطريق ولم يكن مسترشدا على يد مرشد عالم رباني عامل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من أهل الطريق ولكنه دَعِيّ.

فالطريق إذن عمل بالعزائم في الشريعة المطهرة لأن الشريعة تجمع الرخص والعزائم.
ولفظ (الطريق) صار خاصا بأهل العزائم، وهذا شيء معلوم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرا من أصحابه صلى الله عليه وسلم عكفوا في مسجده صلى الله عليه وسلم آخذين بالعزائم متفرغين لتلقي الأسرار المحمدية والأنوار القرآنية، وبهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم اقتدى الخلف بعد السلف، فهم أئمة أهل الطرق وقادتهم.
ودام الأمر على هذا حتى كان الرجل إذا رغب فيما عند الله خرج سائحا على وجهه يفتش على المرشد، فلا يقر لـه قراره إلا بعد أن يصل إليه، فإذا وصل إليه عكف عليه.
ومن أحب أن يعلم سيرتهم فليقرأ تراجمهم، فإنهم هجروا الأوطان وفارقوا الأهل والأولاد سعيا في طلب الرجل الدال على الله بقوله وعمله وحاله ولا يخلو زمان من الرجال المجددين لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم القائمين بحجة الله.

ولا خلاف بين الشريعة والطريقة لأن أهل الطريق اهتموا بعمل القلوب، لأن أساس الخير كله عمل القلوب. ولعلك تعلم أن النفاق قد يخفي على كثير من العلماء، فقد يكون الرجل منافقا وهو يحسب نفسه من أكمل الموقنين وذلك لعدم عنايته بعمل القلوب واهتمامه بظاهره. وجلي أن القلب محل نظر الرب جل جلاله، ولذلك سارع رجال الطريق إلى صفاء قلوبهم وتخليتها من النجاسات لتخلص لهم الإرادة ويكمل لهم القصد وتصح العزيمة حتى يبلغوا درجة فقه القلب. وكم من فقيه اللسان جهول القلب، وإنما هي مراقبة الله جل جلاله بالقلوب تكسبها خشية وخوفا ورهبة وحبا وثقة به جل جلاله وصبرا على مر قضائه وقدره أو رضا عنه في كل شئونه سبحانه.

لعلك تسألني قائلا: إنك تقول لا خلاف بين الشريعة والطريقة مع أنا نرى الخلاف بين كثير من الناس، فترى أهل الطريق ينكرون على غيرهم، وغير أهل الطريق ينكرون على أهل الطريق إنكارا مرا حتى يرمونهم بالبدعة والضلالة والخروج عن الشرع. فأقول لك يا أخي:
لا يلزم من حصول الإنكار وجود ما ينكر عليه أو الاختلاف بين الشريعة والطريقة، ولكن ما نراه من الخلاف بين الناس في مثل هذا فهو الجهل بأصول الطريق ومآخذها، وأما الإنكار من أهل الطريق على غيرهم فلم يكن ذلك من علمائهم ولكنه من بعض من يؤذيهم إنكار المنكرين، وإن كان ثم إنكار فهو على الشخص المنسوب للطريق الذي يخالف أحكام الشريعة مدعيا أن ذلك من الطريق وهو كاذب، لأن الطريق هو روح الشريعة والأخذ بعزائمها، وليس من أهل الطريق من خالف صريح السنة.
ولجهل الناس صاروا ينكرون على الطريق إذا شاهدوا رجلا من أهلها يعمل ما يخالف الشريعة، وكذلك إنكار أهل الطريق على العلماء لأنهم رأوا من يدعي العلم يعمل بغير علمه فالإنكار على عمل الأشخاص لا على الطريق.
والطريقة منهاج المخلصين، والحقيقة أن الشريعة اسم جامع للعزائم والرخص- قال تعالى )فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(البقرة: من الآية194). فمن اعتدى على من اعتدى عليه عمل بالشريعة، ومن عفا واصلح عمل بالشريعة،- ولكن من عفا وأصلح تميز من غيره لأخذه بالعزائم.

يتيع
_______________________________________
* قصة حياة الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم
تم إذاعتها بالأذاعة المصرية إخراج المخرج الراحل أحمد سليم
العزمية للإنتاج الفنى و الثقافى
الحلقة الأولى
https://soundcloud.com/islamwattanradio/q2zwa9d60yr2








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي