الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


24 نيسان ... يوم ضُحِّيَ بالعدالة الإنسانية على مذبح المصالح السياسية

جاك جوزيف أوسي

2015 / 4 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


كتب نعيم بك، السكرتير الأول لدى المدير العام المساعد لشؤون المنفيين الأرمن، في مذكراته ما يلي: أعتقد بأن مسألة النفي والقتل المفجعين للأرمن، تجعل اسم (التركي) خليقاً باللعنة الأبدية للإنسانية، لأنها لا تشبه أياً من الوقائع الرهيبة التي سجلها التاريخ العالمي حتى اليوم. ولدى التفتيش في أي نقطة أو زاوية مظلمة في الأراضي التركية الواسعة، يمكن العثور على الآلاف من جثث وعظام الأرمن الذين ذبحوا بأفظع الطرق.
هذه المذكرات تقاطعت مع الشهادة التي قدمها الضابط مصطفى كمال، أثناء محاكمات زعماء حزب "تركيا الفتاة" بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في تركي، حيث قال: "لقد ارتكب مواطنونا جرائم لا يصدّقها عقل ولجؤوا إلى كل أشكال الاستبداد التي لا يمكن تصورها ونظّموا أعمال النفي والمجازر وأحرقوا أطفالاً رضعاً وهم أحياء بعد أن صبّوا عليهم النفط واغتصبوا النساء والفتيات أمام ذويهم المقيدي الأرجل والأيدي واستولوا على الممتلكات المنقولة وغير المنقولة للشعب الأرمني وطردوا إلى بلاد ما بين النهرين والصحراء السورية أناساً في حالة من البؤس والشقاء وأهانوهم واضطهدوهم خلال الطريق بوحشية لا توصف ... لقد وضعوا الشعب الأرمني في ظروف لا تطاق لم يعرفها أي شعب طوال حياته".
أما الاعتراف الأبرز بالمجازر المرتكبة بحق الأرمن وباقي الأقليات في تركيا فقد صدر يوم 17 حزيران 1919 على لسان رئيس الحكومة العثمانية دماد فريد باشا أمام المجلس الأعلى للحلفاء، حيث قال: في أثناء هذه الحرب (الحرب العالمية الأولى) تأثر كل العالم المتمدن بأحاديث الجرائم التي أرتكبها الأتراك ... وأنا لن أحاول التخفيف من درجة المسؤولية التي تقع على منفذي هذه المأساة الكبرى ... أنا أنوي فقط أن أبين للعالم استناداً إلى الأدلة، هوية المسؤولين الحقيقيين عن تلك الجرائم الفظيعة، لقد عنيت بذلك المسؤولين في جمعية الاتحاد والترقي.
الجدير بالذكر أن هذه الاعترافات جاءت بعد أن نشر الألمان نصوص المراسلات السرية، التي تتناول الممارسات الوحشية للحكومة العثمانية أثناء الحرب ضد الأقليات، بين السفارة الألمانية وقنصلياتها المعتمدة لدى الباب العالي وبرلين، مع نصيحة لطرفي السلطة في تركيا آنذاك (أنصار السلطة وأتباع مصطفى كمال أتاتورك) بالاعتراف بما حصل والتنصل من المسؤولية.
من هم الأرمن؟
ينتسب الأرمن إلى العرق الهندو-أوروبي (الأسيوي) الذي استوطن المنطقة الممتدة من تخوم الهند إلى تركيا الحالية. وأول ذكر للأرمن كشعب يعود إلى حوالي عام 550 قبل الميلاد عندما سماهم المؤرخ الأغريقي هيكاتوس الملتي (أرمينوي) وكانت هذه هي التسمية التاريخية الأولى للأرمن.
ثم وجد أسم أرمينيا، كما نعرفه اليوم، في النقوش المحفورة على صخرة (بيهستون) التي تركها الملك الفارسي داريوس الأول عام 521 ق.م، والتي تشير إلى بلاد الأرمن على أنها أرمينيا. ومنذ ذلك التاريخ، يعتبر معظم الباحثين أن عملية تكون الشعب الأرمني قد تمت، وبدأت مسيرة الدولة الأرمنية عبر الزمن الذي لا تزال مستمرة حتى وقتنا الحالي.
ويذهب بعض علماء السلالات البشرية إلى اعتبار أن للإنسان الأرمني شكلاً متميزاً تماماً كاللغة الأرمنية، واعتبروه نموذجاً خاصاً للدراسات المتعلقة بهذا المجال. أما نفسياً، فإن الأرمني هادئ بشكل عام، إلا إذا أثير، كثير التحمل للمشاق. وفي أحوال كثيرة يصعب توجيههم وترؤسهم كمجموعة، نظراً للروح الفردية العالية لديهم ولانفراد كل منهم برأي. مهنياً، هم بارعون في المهن اليدوية التي تتطلب الدقة والإتقان، يمتلكون الموهبة التجارية والدماثة الأخلاقية التي كانت من أسرار نجاحهم كأفراد في المجتمعات والدول التي هاجروا إليها بعد مذابح عام 1915.
والأرمن مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم أمة نشيطة وعاملة، لا تعتمد إلا على نفسها، حريصون على الذهاب إلى عملهم مبكراً، نبغوا في شتى المجالات مثل التجارة والطب والصيدلة والهندسة والفن والكتابة و كان لهم اليد الطولى في حرفة صناعة المجوهرات وصيانة السيارات.
الغريب انك لا تجد بين الأرمن عاطلاً عن العمل إلا أصحاب الإعاقات، وليس بينهم متشرد أو متسول، وهم يبادلون العرب عامة والسوريين خاصة الحب والاحترام ويمزجون عرق جبينهم في تعمير وتطوير هذه البلاد التي تستضيفهم، ويناضلون في سبيل حريتها واستقلالها.
لمحة عن حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي
عام 1865 ظهرت الجمعية العثمانية الفتاة التي دعت إلى قومية عثمانية-إسلامية، وطالبت السلطان بأن يتقيد بالدستور. لتتطور هذه الحركة وتأخذ اسماً أكثر ثورية وعصرية هو حزب تركيا الفتاة الذي تشكل عام 1889 وكان نواته المؤسسة طلاب المدارس الحربية العثمانية إلى جانب مدنيين من الأتراك والعرب والألبان الذين تبنوا فكرة الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني هدفاً لهم. اتهمت هذا الحزب بتدبير انقلاب 1896 الفاشل فتمت ملاحقة أعضائه، ومن وسط بقيتهم العسكرية الموجودة في مدينة سالونيك تكونت جمعية الاتحاد والترقي التي تمكنت من تنفيذ انقلاب ناجح عام 1908 أطاحت على إثره بالسلطان عبد الحميد الثاني من على عرشه.
منذ ذلك الوقت، بدأ قادة الاتحاد والترقي باتخاذ سياسات تدعم القومية التركي التي تنادي بالأصل الطوراني الواحد للشعوب التركية. ترافق ذلك مع محاولات تتريك الجماعات العرقية المختلفة في الدولة بالقوة. الأمر الذي أدى إلى رد فعل عنيف لدى هذه الجماعات فبدأت تتجه رويداً رويداً إلى الانفصال عن الدولة العثمانية بعد أن كانت حتى وقت متأخر تعارض نزعة الانفصال عن المركز، وتكتفي بالمطالبة بالإصلاحات الدستورية التي تحفظ حقوق الجميع.
مع نشوب الحرب العالمية الأولى، تبلورت السياسة القومية التركية حيال الجماعات الأخرى في الدولة في أربع خطوات:
1- إحياء النزعة الطورانية التركية القديمة.
2- العمل على تحقيق سيادة العنصر التركي على باقي العناصر المنضوية تحت جناح الدولة العثمانية.
3- اتباع سياسة التتريك للجماعات المختلفة وخاصة العرب والأتراك وهي هالة ما زالت مستمرة حتى اليوم في تركيا.
4- أما الخطوة الأخيرة فكانت خاصة بالأرمن، وقامت على أساس التخلص منهم نهائياً. فتم القضاء على القسم الأكبر في المذابح التي بدأت عام 1915، وهُجِّرَ من بقي منهم، ومن لم يطله القتل أو التهجير تم تتريكه بالقوة، والفئة الأخيرة هي قلة قليلة.
المسؤولون عن الإبادة الجماعية للأرمن وباقي الأقليات الدينية والقومية
أعطى الباحثون عدة أسباب لعمليات الإبادة التي نفذها العثمانيون بحق الأقليات المسيحية بالأناضول ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر. غير أن معظمهم يتفق على أن يقين القادة العسكريين الأتراك بأن أي ثورة أو حرب ستؤدي إلى انفصال أجزاء واسعة من الإمبراطورية مثلما حدث في دول البلقان بمنتصف القرن التاسع عشر حين نالت معظم تلك الدول استقلالها. كما أدت محاولات تتريك الشعوب القاطنة ضمن الدولة إلى ردود فعل معارضة أدت إلى انتشار الفكر القومي المعارض لهذه السياسة كالعربي والأرمني والآشوري، ما أدى إلى استعمال العثمانيين للعنف في محاولة لدمج تلك الشعوب في بوتق تركي. بدأت أولى عمليات الإبادة على نطاق واسع سنة 1895 أثناء ما سمي بالمجازر الحميدية عندما قُتِل مئات الآلاف من الأرمن والآشوريين في مدن جنوب تركيا وخاصة بأضنة وآمد وذلك بعد اتهام الأرمن بمحاولة اغتيال السلطان عبد الحميد الثاني. غير أن السبب الرئيسي من وراء المجازر التي حلت بالآشوريين/السريان هي خشية العثمانيين من انضمامهم إلى الروس والثوار الأرمن وخصوصاً بعد فشل حملة القوقاز الأولى في شتاء 1914-1915 والهزيمة المنكرة التي تعرضت لها القوات العثمانية في معركة "صاري قاميش" (1) على يد قوات روسية القيصرية.
قرار الإبادة هذا اتخذته ثلاث شخصيات من حزب "تركيا الفتاة" كانت قد سيطرت على المفاصل الرئيسية في الحكومة وهي: محمد طلعت وزير الداخلية عام 1915، والصدر الأعظم رئيس الوزراء عام 1917، وإسماعيل أنور وزير الحربية، إضافة إلى أحمد جمال المشهور بجمال باشا السفاح وزير البحرية وقائد الجيش الرابع في سورية.
اعتمد هذا الثلاثي على أعضاء آخرين في حزب "تركيا الفتاة"، جرى تعينهم في وظائف حكومية رفيعة المستوى وفي القيادات العسكرية الميدانية التي كانت مسؤولة عن تنفيذ المذابح، وبالإضافة إلى القوات النظامية اعتمد قادة حزب "تركيا الفتاة" على قوات غير نظامية تمتلك تجهيزات عسكرية متطورة وتستخدم معدات سرّية تدعى "التشكيلات المخصوصة" Tashkilati Mahsusa ، والتي كانت وظيفتها الرئيسية تنفيذ عمليات القتل الجماعي بحق الأرمن وباقي الأقليات، وكان المسؤول عن هذه المنظمة الطبيب بهاء الدين شاكر ويعاونه بعض الآيديولوجين كضيا غوقاب الذي كان المسؤول عن نشر أفكار التنظيم وتنظيم الدعاية السياسية من أجل تشجيع ونشر النزعة الطورانية التي تهدف إلى خلق امبراطورية جديدة تمتد من الأناضول إلى آسيا الوسطى، ويكون سكانها حصراً من الأتراك.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرةً انعقدت المحاكم العرفية لعقاب المسؤولين عن ارتكاب تلك الأفعال الشنيعة، وقد اعترف برلمانيون أتراك بالجرائم ضد الإنسانية التي وقعت على الأقليات عموماً والأرمن خصوصاً. وأخرجت محكمة عسكرية تركية، في خطوة غير مسبوقة في التاريخ العثماني، سجلات حكومية قُدِمت كأدلة إثبات خلال سير المحاكمة. وكانت إحدى هذه السجلات تسجيل لاتصالات برقية بين موظفين يتحدثان عن الأرمن، حيث قال الأول: لقد أرسلوا إلى مصيرهم النهائي. فسأله زميله: وماذا يعني ذلك؟. فجاء الجواب: يعني أنهم ذُبِحوا، وقُتِلوا. إثر تلك المحاكمات شُنِقَ ثلاث موظفين من الدرجات الدنيا، وحُكِمَ غيابياً على الثلاثي: جمال، وأنور، وطلعت بالموت.
إلا أن همة الحكومة التركية قد فترت بعد صدور أحكام الإعدام، وترافق ذلك مع تجاهل غربي واضح وتعتيم على أحداث 1915 بعد أن بدأت رياح الصراعات الدولية بالهبوب على المنطقة مترافقة بتغير تحالفات الدول التي خاضت الحرب العالمية الأولى. الأمر الذي جعل اللورد باريس يتساءل إن كان في الأمر أسرارٌ مخفية ينطبق عليها قول هيرودوتس، بشأن بعض القصص التي سمعها من كُهّان مصر، هي بالغة القداسة بحيث لا تروى للعامة.
الطريق إلى المذبحة
في كانون الثاني 1915، مُنيَ إسماعيل أنور باشا، أحد زعماء حزب (تركيا الفتاة)، بهزيمةٍ نكراء على أيدي القوات الروسية عند اجتياحها الجزء الشرقي من تركيا، الذي كان يُعد المركز الرئيسي لوجود الأرمن الذين سُحب سلاحهم وسُرّحوا من الجيش، واستُخدموا في أعمال السُّخّرة أو (كحيوانات جرّ)، بتهمة التواطؤ والعمالة للروس ومساعدتهم على تحقيق أهدافهم التوسّعية في الإمبراطورية العثمانية .. الأمر الذي أدى إلى تحريك المشاعر القومية وتحّريك العصبيات الدينية. وعند هذه النقطة المفصلية في الصراع رأى قادة (تركيا الفتاة) أن الوقت قد حان لإعادة تأسيس الدولة التركية بهوية قومية ذات بعد ديني وبدؤوا بالعمل على الانتقال من مفهوم الخلافة العثمانية إلى مبدأ (الدولة - الأمة التركية). ومن أجل تنفيذ هذا المخطط قرر قادة (تركيا الفتاة) تصفية أي وجود غير تركي في منطقة آسيا الصغرى كشرط أساسي لبناء الدولة التركية. وبناءً عليه قامت الحكومة التركية بتطبيق برنامج واسع النطاق لترحيل الشعوب غير التركية، إسلامية ومسيحية. وقد خُصّت كل مجموعة من المجموعات المسّتهدفة بمعاملة خاصة تبعاً لقدراتها الجماعية المفترضة على الاندماج في برنامج الحكومة التركية الرامي إلى تتريك آسيا الصغرى وجعلها القاعدة الأساسية لبناء إمبراطورية طوران حلم القوميين الأتراك.
التمهيد للمذبحة
في شباط من عام 1915 اجتمعت مجموعة من القوميين الأتراك المتعصبين المنتمين لِ" جمعية الاتحاد والترقي التركية CUP" برئاسة الثلاثي: أنور باشا وجمال باشا وطلعت باشا. حيث بدأ هذا الثلاثي المتطرف بالتخطيط لإبادة السكان الأرمن الذين اُعتبروا خونة للسلطنة، وأعلم المخطط القيادي في الCUP الدكتور ناظم المجتمعين: "إنه يجب إتمام عملية التطهير هذه بشكل عام ونهائي، وإذا لم تتم على هذا النحو، فسيكون لذلك مشاكل وتبعات وعليه من الضروري جداً القضاء على الشعب الأرمني بأكمله حتى لا يبقى له وجود على الأرض بعد ذلك، إننا الآن في حالة حرب ولن تكون لنا فرصة أفضل من هذه الفرصة".
وبدأت المجزرة يوم 24 نيسان 1915، بفاصل كلاسيكي من الإبادة الانتقائية، حيث تم إعدام حوالي 600 أرمني من أصحاب المناصب المرموقة، لتتسع بعدها عمليات الذبح للأرمن في جميع أنحاء الدولة العثمانية بطريقة مدروسة وممنهجة، حيث قُتِلَ الرجال وسُبِيت واُغتصِبَت النساء وتم خطف الأطفال والإساءة إليهم، وترافق ذلك مع مصادرة الممتلكات وسرق المقتنيات العائدة لهم.
بعد فترة هدوء استمرت حوالي العام بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تجددت الأعمال الوحشية بين عامي 1920 و1923، وتَعرّض من تبقى من الأرمن للمزيد من المجازر وعمليات الترحيل والطرد. وبعد نجاح عمليات الإبادة الجماعية شرع الأتراك بهدم بقايا التراث الثقافي الأرمني بما في ذلك روائع الهندسة المعمارية القديمة التي لا تُقدر بثمن، والمكتبات القديمة والمخطوطات حتى أنهم جعلوا مدناً كاملة أثراً بعد عين لإزالة إي أثر لهذا الشعب التي استمر وجوده على هذه الأرض (جنوب شرق الأناضول) حوالي الثلاثة آلاف عام.
وبدأت المذبحة
مساء يوم 24 نيسان 1915 أُلقى القبض على 300 شخص من الزعامات الدينية والسياسية الأرمنية في إسطنبول، وأعدموا، وتوالت بعد ذلك الاعتقالات الجماعية في جميع أنحاء تركيا على يد القوات العسكرية التركية ورجال الشرطة وفرق متطوعين من الأتراك وبعض العشائر الكردية. وقيد الرجال إلى مشارف بلداتهم وقُتلوا رمياً بالرصاص أو طعناً بالحراب، من قِبل فرق الموت المحلية، المكوّنة أساساً من الأتراك وبعض الأكراد، الذين تسلحوا بالسكاكين والعصي وانضموا للمشاركة بعمليات القتل.
أما النساء والأطفال والمسنّون، فقد صدرت لهم الأوامر لحزم بعض الأمتعة الشخصية في غضون فترة زمنية قصيرة ليكونوا جاهزين لمغادرة منازلهم كي يُنقلوا إلى مناطق آمنة حفاظاً على سلامتهم، والذي حدث أنهم اقتيدوا في مسيرات الموت البطيء باتجاه الصحراء السورية.
خلال هذه الأحداث تحرك الأتراك ليستولوا على القرى والمنازل التي تركها أصحابها، وفي بعض الأحيان سُرق الأطفال من عائلاتهم قبل إبعاده هذه العائلات، وأرغموا على الارتداد عن المسيحية ليصبحوا مسلمين، وأعطوا أسماء تركية جديدة. أما بالنسبة لقوافل المهجّرين فقد سمحت قوات الدرك للوحدات المتنقِّلة المؤلفة من المجرمين المعروفة باسم (التشكيلات المخصوصة) بالهجوم على المدنيين العُزل وقتل من يُريدون وسرقة ما بقي معهم، إضافة إلى السماح لهم باغتصاب الفتيات والنساء وخطف بعضهن لينتهي مصيرهم في الحريم التركي.
كيف تمت عمليات القتل؟
تم استخدام العديد من الطرق في قتل المدنيين، وكان السلاح الأبيض الأكثر شيوعاً كونه غير مكلف ومنه أُشتق اسم المجازر بالسريانية (سيفو) (2). ويُروى أنه في بداية المجازر في آمد (ديار بكر) أُعتُقِلَ حوالي الألف من أعيان البلدة من الأرمن والسريان بتهمة حيازة أسلحة وبعد أن جُمِعَ مبلغ مالي مقابل إطلاق سراحهم قرأ عليهم مفتي المدنية خبر الصفح عنهم، وسيقوا بعدها في شوارع البلدة وضعوا في عوامات خشبية على نهر دجلة ليتم إيقافهم في ملتقى نهر بطمان بدجلة جنوبي المدينة حيث عروا من ملابسهم وذبحوا ورمت جثثهم بالنهر. في الوقت الذي قامت السلطات بأخبار ذويهم بوصولهم سالمين إلى الموصل. وقد قام العثمانيون بهذه العملية عدة مرات حتى أنه يروى أن أهالي الموصل كانوا يشاهدون وصول العوامات الخشبية الفارغة متبوعة بجثث المقتولين طافية على النهر، فقام القنصل الألماني هناك بالاحتجاج لدى والي الموصل غير أن الأخير ألقى اللوم على والي ديار بكر. وقد حاولت السلطات العثمانية بعدها إجبار كاهن الأرمن في المدينة على توقيع وثيقة تثبت وفات الأعيان بأسباب طبيعية غير أنه رفض، فقاموا بقلع أسنانه ونتف لحيته وتم اغتصاب زوجته وقتلها ثم فقأوا عينيه ودقوا مسمارا بجبينه.
الجدير بالذكر إن بعض عمليات القتل تمت بهدف الدعاية الإعلامية المضادة، فقد ذكر جوزيف نعيم، وهو قسيس كلداني نجا في مجازر الرها في كتابه "هل ستفنى هذه الأمة؟" أن عمليات الترحيل القسرية بدأت خلال آذار 1915, حين وصلت المدينة قوافل المرحلين الأرمن من الأرياف المحيطة بها وهم في حالة مزرية. بينما بدأت عمليات الإبادة بالشهر اللاحق وطالت جميع المسيحيين بدون استثناء. حيث قاموا بجمع بعض الذكور الآشوريين/السريان ابتداء من عمر السادسة عشر وقاموا بتعذيبهم وقتلهم في ساحات المدينة، ثم قاموا بتصويرهم على أساس أنهم مواطنون أتراك تم قتلهم من قِبل الأرمن (3).
ويبقى أن ننوه بأن محمد رشيد باشا، وفي معرض الدفاع عما اقترفته يداه قال أنه استلم أوامر الإبادة من خلال برقية من طلعت باشا وزير الحرب تحتوي على ثلاث كلمات فقط: أحرق - دمّر - أقتل (Yak-Vur-Ö-;-ldür) (4).
الملاحظ أن عمليات الإبادة التي تعرض لها الأرمن عام 1915 شهدت أضراراً قليلة في الممتلكات الشخصية والأوقاف الكنسية، خلافاً لما حدث في المجازر التي ارتكبتها قوات السلطان عبد الحميد والتي رافقها دمار كبير ونهب على نطاق واسع، وهكذا انتقلت منازل ومزارع وعقارات وثروات الأرمن والسريان المادية إلى الأتراك. فما أن أحكم حزب "تركيا الفتاة" السيطرة على الحكومة حتى حجزت الدولة التركية على ممتلكاتهم، الأمر الذي شجّع موظفي الحكومة على المضي في سياسات التطّهير العرقي. وفي عام 1917 انتهت "المشكلة الأرمنية" كما وصفها قادة حزب "تركيا الفتاة" بجلب العائلات التركية لتسكن في القرى الأرمنية الخالية.
السبب الاقتصادي للمذبحة وتأسيس سياسة الإنكار
حاول حزب تركيا الفتاة إقامة اقتصاد قومي تكون السيطرة فيه للأتراك بعد أن اعتبروا أن التجار الأرمن واليونان هم امتداد للقوى الأجنبية التي تريد السيطرة على الدولة العثمانية، للسببين التاليين:
1- كان اليونان يحتكرون الأعمال التجارية والصناعية في منطقة الأناضول الغربية.
2- في المناطق الشرقية، كان الأرمن يحوزون على أخصب الأراضي الزراعية.
وفي عام 1913 كانت أحوال الأرمن تزدهر وأرباحهم تتزايد، بينما كانت أعمال الأتراك تتراجع وأحوالهم تتدهور. ومن هنا كان هذا هو السبب الاقتصادي للصراع العرقي الذي نشاً بين الأتراك من جهة والأرمن واليونانيين من جهة أخرى. وبعد أن انتهت عمليات القتل والترحيل، أصبح بمقدور الأعيان المحليين من الأتراك الاستيلاء على الأعمال التجارية والصناعية ووضع اليد على الأراضي الزراعية التي هُجِرَ منها أصحابها.
هذه البرجوازية الصاعدة التي تأسست في فترة حكم حزب تركيا الفتاة تنظمت خلف حركة التحرير التركية التي أطلقها مصطفى كمال بعد أن رأت أن التهديد المباشر لمصالحها كان يتمثل في احتمال عودة من تبقى من اليونان والأرمن إلى أراضيهم ومتاجرهم والمطالبة بأملاكهم التي تم وضع اليد عليها. الأمر الذي شكل العامل الحاسم في حشد برجوازية المدن الصغيرة خلف أتاتورك ووراء ما اعتبرتها القضية القومية التركية المتمثلة في إنكار المذبحة لما قد يؤدي ذلك إلى إحداث تغييرات جوهرية في بنية المجتمع التركي الذي عمل أتاتورك على تأسيسه.
بعد تأسيس الجمهورية التركية جرى تكريم من قام بهذه المجازر بدعوى أنها "حدثت من أجل ضمان أمن ومستقبل أرض الأتراك والتي هي أطهر وأعظم من أي شيء، وحتى من حياة الأتراك أنفسهم" حسب تصريح النائب عن الحزب الجمهوري التركي حسن فهمي. هذا الخطاب وردود الفعل الدولية المائعة في حينها شجعت أدولف هتلر على تنفيذ سياسة التطهير العرقي في أوروبا الشرقية، إبان الحرب العالمية الثانية، عندما أصدر أوامره بقتل البولنديين دون أي شفقة أو رحمة، لأنه فقط بهذه الطريقة سوف تربح ألمانيا النازية الفضاء الحيوي الذي تحتاجه، مدللاً على وجهة نظره بالقول، هل بقي أحد يتحدث عن الأرمن هذه الأيام ؟
في الرابع والعشرين من نيسان، في كل عام، يتذكر السريان والأشوريين والأرمن، أجدادهم الذين سقطوا شهداء على مذبح شهوة السلطة التي انتابت مجموعة عنصرية تركية رأت أن مجد الأمة التركية لا يتحقق إلا بإبادة جميع المكونات التي لا تتقاطع دينياً أو قومياً مع التعريف الذي وضعوه لهذه الأمة. ويستنكرون بصمت التجاهل دول الغرب وبعض دول الشرق لمأساتهم التي رأت أن الإهمال والتغاضي عن هذه المجازر في سبيل ضم تركيا لصفّها، بما يمثله موقعها الاستراتيجي الهام اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، أهم وأنفع لمصالحها من اتخاذ موقف أخلاقي بحق شعوب قررت بعد أن دفنت أمواتها بحسرة وضمدت جراحها بصمت، أن تخرج من ظلام الموت إلى نور الحياة، لتجاهد في سبيل بناء مجتمع إنساني أكثر عدلاً وإنسانية، يُقدّم الحق على المصلحة، وكرامة الإنسان على المنفعة، ويُذكّر الإنسانية جمعاء بأن صمت دول العالم على ما حدث في تركيا في بدايات القرن العشرين هو ما جرّ عليها أهوال النازية ومآسي البلقان والمذابح التي تجري حالياً على امتداد الشرق الأوسط.

الهوامش:
1- معركة "صاري قاميش": حدثت المعركة خلال الفترة الممتدة من نهاية كانون الاول 1914م وحتى 6 كانون الثاني 1915م، وانتهت بهزيمة قاسية للعثمانيين خسروا خلالها حوالي تسعين ألف قتيل.
2- "سيفو" ܣ-;-ܝ-;-ܦ-;-ܐ-;- كلمة سريانية تعني السيف باللغة العربية وهي ترمز إلى السلاح الذي استُخّدم في عمليات القتل الممنهجة التي تعرض لها المواطنون السريان والأشوريين والأرمن في الدولة العثمانية عام 1915 الذي سُمِّيَ في الأدبيات التاريخية السريانية ب "شاتو دسيفو"، ܫ-;-ܢ-;-ܬ-;-ܐ-;- ܕ-;-ܣ-;-ܝ-;-ܦ-;-ܐ-;- أي "عام السيف".
3- عام 1983 عثر العمال أثناء تنفيذ إصلاحات للمجاري في منطقة أرضروم على جثث حوالي مائة طفل. وقال المسنّون من أهل المنطقة بكل بساطة، إنها جثث أطفال أرمن قتلوهم هم (أي الأتراك). لكن ذلك لم يعجب السلطات التركية، فأعلنت أنها جثث أتراك قتلهم الأرمن. ولكي تكتسي هذه التصريحات ثوب الحقيقة أُقيمت شعائر جنائزية كاملة تأبيناً للأطفال (الأتراك) الذين (افترسهم السفاحون الأرمن).
4- يوم 15 أيلول 1915، أرسل وزير الداخلية التركي طلعت باشا تعليماته إلى والي حلب يقول فيها: لقد أُعلمتم مسبقاً أن الحكومة ... قررت القضاء التام على جميع الأشخاص المذكورين الذين يعيشون في تركيا ... يجب إنهاء وجودهم ومهما كانت التدابير المتخذة مأساوية، ينبغي عدم الأخذ بالاعتبار العمر، أو الجنس، أو أي عذاب للضمير.
بعض المصادر التي استخدمت في كتابة النص:
1- سياسة الحكومة العثمانية في أرمينيا الغربية وموقف القوى الدولية منها للدكتور صالح زهر الدين. دار الندوة الجديدة بيروت 1996 طبعة أولى.
2- مجلة الاجتهاد - الدولة العثمانية في الدراسات الحديثة (4-5) العددان الخامس والأربعون والسادس والأربعون. السنة الحادية عشرة - شتاء وربيع العام 2000.
3- مجلة ضفاف الصادرة عن دار البعث بالتعاون مع وزارة التعليم العالي في الجمهورية العربية السورية العددان 1-2 عام 2012.
4- القصارى في نكبات النصارى للعلامة الأب إسحاق أرملة بدون تاريخ.
5- تركيا بين الصفوة البيروقراطية والحكم العسكري – تأليف مجموعة من الباحثين – مؤسسة الأبحاث العربية ط1 1985
6- الأرمن عبر التاريخ – مروان المدور – منشورات دار نوبل – دمشق – سوريا
7- الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة – المجلد الثاني: الإبادة – روبرت فيسك – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت – لبنان. ط1 2006.
8- جاك جوزيف أوسي - الأرمن يُهجّرون من جديد - النور 621 الأربعاء 2 نيسان 2014.
9- جاك جوزيف أوسي - مذابح "سيفو"... إحدى الفصول المنسية من تاريخ شعوب ضُحِّيِ بها على مذبح لُعّبَةِ الأُمم - النور العدد 625 الأربعاء 7 أيار 2014.
10- جاك جوزيف أوسي - 24 نيسان... وصمة عار على جبين الإنسانية - النور العدد 576 الأربعاء 24 نيسان 2013.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر