الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عرائس العجين

صفوت فوزى

2015 / 4 / 25
الادب والفن


الظلام لم يزل باقيا . الصمت الرطب ، رائحة النوم ، وعمدان السرير الأربع شاهقة صدئة تجثم على حيطان الغرفة والسقف وتخنق أنفاسى . همهمات بعيدة تتناهى الى سمعي ، تحملها الريح ،ترميها في مسارب الدار . الأشياء- في الضوء الشحيح – تبدو ضبابية غائمة لا تبين . صاح ديك ، وارتكن على الحائط ظل . من فتحة صغيرة في الغطاء ، أتابع الظل المرسوم على الجدار يتماوج ، يتمدد ، تنبت له ألف ذراع وذراع ، طويلة مشعرة تنتهى بمخالب حادة مقوسة . تنشق العينان بالطول من الجبهة حتى الخدين دائرتان تتسعان تقدحان الشرر . تشبثت بالغطاء مرتعدة . أحكم حبكه حول جسدى وأنا استجدى نوما مراوغا لا يجئ .
قاومت الرغبة فى النعاس . يسحبها من غيابة الحلم واجب الصحو . تنسل فى خفة من تحت الغطاء تاركة الدفء المنبعث من جسد زوجها الغارق فى النوم . انحدرت نازلة من على السرير . تناولت لمبة الغاز من رف فى الجدار . ضوؤها شاحب هزيل تحاصره عتمة كالتى فى الأحلام .
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم . صبحنا وصبح الملك لله . تقولها أمى اذ ينقشع الظلام ويخرج من رحمه الضوء رويدا رويدا . ترش الماء فى الأرجاء لتفر العفاريت المختبئة فى الأركان والزوايا المعتمة . تطلق البخور فيتصاعد خيط دخانه مع دعواتها ليصل الى السماء . أطمأنت على القدور والجرار . تحفظ فيها الملح والزيت والسمن والدقيق ، وذكرى أحبائها الراحلين .
تتوافد نساء العائلة والجارات . كل تحمل أدواتها : الغربال الناعم ، والمطرحة . بنات الدار الصغيرات تسحبهن الجلبة من أحلامهن الوردية ، يفركن النعاس من عيونهن ويشاركن الكبار فرحة الخبيز.
الخبز بهجة الحياة . مغبوط هو الخبيز ، ومبارك يوم الخبيز . يدور حوله مجال مشحون بسر طقوسى غامض .
يبدأن فى نخل الدقيق فى " الماجور " . يتساقط ناعما هشا يتراكم طبقات . تقوم أمى الى احدى الجرار . تدس يدها تستخرج الخميرة . تضعها فى حفرة عميقة فى كومة الدقيق . تقرفص احداهن لتصب الماء ببطء .تهدل طوق جلبابها فبان الثديان صغيران والحلمتان منتصبتان تحت رهافة القماش . تتابع الأخريات باهتمام وتقديس يبسملن بشفاه مرتجفة وأمى تنثر أدعيتها تستجلب البركة كى تحل على الدقيق . تردد دائما مزهوة بأنها موعودة : الزير لا ينقص وماجور العجين لا يفرغ .
واذ تختلط المكونات ، ترفع العجين بيديها القويتين وتهبده فى قعر الماجور . صوت اصطدام مكتوم كان يفزع نومى فيما مضى . ترفعه وتخلص يديها من العجين العالق ثم تعيد هبده مرة ومرة ومرات كى يتخلله الهواء ، ثم تدقه بقبضتيها ليخرج بعضا من هذا الهواء مرة أخرى ، ليبقى فقط ما يحتاجه العجين .
ماجور العجين الآن مغطى بالثياب . نتسلل نحن الصغار الى العجين المتروك ليختمر ويقتطع كل منا قطعة يشكلها كما يهوى . كنت دائما أشكل عجينتى عروسة مفرودة الذراعين تستقبل الحياة .
اكتمل اختمار العجين الآن ، وأمى أتمت تجهيز الفرن . يتهادى صوتها بالدعاء وهى تتخذ مكانها أمام الفرن . تبسمل حتى تنبه العفريت ساكن الفرن ليفر قبل أن يحترق ، فلا يؤذى احدا من ساكنى الدار .
النسوة يقمن بتقطيع العجين الى قطع دائرية صغيرة . فى اليدين لقرص العجين فهم وحدب ومودة . تقوم الواحدة بترقيق العجين وتطويعه على المطرحة ، ترفعه قليلا
فى الهواءثم تستقبله فى تحنان على مهد من الردة . لا يلبث أن يهدأ حتى تعيد رفعه ثانية كطفل تدلله حتى اذا اكتملت استدارته وأخذ حجم واستدارة المطرحة دفعت به بحنو وحرفية الى جوف الفرن . الكل يعمل متحمسا ومحبورا ، معلقة فوق رؤوسهن سحابة من ذرات الدقيق البيضاء . يتضاحكن ويتغامزن فى مجون ، وألسنة النار فى الفرن تتراقص لتفسح المجال لأنوثة العجينة بالتفتح على عزف الحطب .
هناك فى جوف الفرن تدب الحياة فى الأرغفة ،تنتفخ كديوك مزدهية بنفسها ، يتململ كل رغيف فى مكانه حتى ينضج ويتورد وجهه فتسحبه المرأة بعودها الحديدى .
رائحة الخبز الناضج الخارج لتوه من الفرن ، ثرثرة البنات والأنفاس المبهورة ، ونثار دقيق معلق فوق الوجوه والرموش تتطاير ذراته معلقة فى جو الدار بطانة سحرية لأزيز النار المشتعلة فى جوف الفرن .
بخطوات ثقيلة متمهلة تدب على الأرض ، تجتاز عتبة الدار . امرأة جسيمة لحيمة على وجهها غبرة . يترجرج ثدياها أمامها وعيناها مفعمتان بالغموض . كلفة بالوشم تغطى به يديها وصدغها ومنتصف ذقنها . كنت أراها تمشى فى الحارات فيصيبنى الرعب والفزع . أى ريح خبيثة ألقت بها فى دارنا .
أغلق باب الدار فتكور فى نفسى قلق غامض رازح . ران صمت . تفزعت حمامات الدار وطرن مغادرات . تبادلت هى والنسوة الواقفات نظرة شديدة الايجاز ، شديدة الوطء . فى سرعة مباغتة وعلى غير توقع شددن سروالى ورفعن جلبابى لأعلى . خوف آسر أمسك بى . مبهورة الأنفاس زائغة البصر أتشبث بملابسى ، لحظتها ، تذكرت على نحو فاجع تضاحكهن وهمسهن بعبارات تفيض عهرا.
يدان معروقتان ككلابات الحديد انغرستا فى لحم كتفى تضغطان بكل قوة ، واثنتان تمسكان بالفخذ الأيمن وأخريان بالفخذ الأيسر وقد فتحتا عن آخرهما . مرعوبة حتى الموت ، تسرى الرعدة فى كيانى . أصرخ فتمتد يد غليظة متسخة لتكمم فمى ، والسؤال قائم فى أعماقى مثل حيطان الدار ، تتمدد حرقته فى الخلايا لماذا؟ لماذا؟
مكتومة الأنفاس ، يتقطر العرق من جبينى ومسامى . عيناى مفتوحتان على اتساعهما ، مليئتان بالقهر والفزع . أشاهد المرأة الموشومة بأصابعها الطويلة وأظافرها المتسخة ، تستخرج من طيات ملابسها شيئا معدنيا كحد الموسى . تقربه من بطنى ، من مكان بين فخذى ، وفى سرعة خاطفة أحسست بالشئ المعدنى يسقط بحدة وقوة ويقطع من بين فخذى جزءا من جسدى . انبجس تيار الدم نافرا . ألم نافذ فى القلب كسن خنجر قديم . نار اشتعلت فى جسدى ، وبركة حمراء من دمى المراق تحوطنى فى باحة الدار . أجاهد كى أوقف ارتعاش جسدى . أصرخ ملتاعة وأنادى على أمى – حافظة سرى ووسادتى اللينة – لتنقذنى . تجول عينى بحثا عنها . تتجمد نظراتى وتكوينى الحسرة اذ أراها واقفة بين النسوة تبتسم فيتورد خداها .
لاكت المرأة تراب الفرن الساخن مع البصل . كبست الخليط فوق الجرح النازف وضغطت عليه بقطعة من قماش خشن . جسدى المستباح ينهشه كلب مسعور . فى حلقى جفاف لا يرويه نهر . موصول قهرى بنهر دمع حارق فى داخلى . مشمولة بالبرد والمخاوف تتناوبنى الحمى . تداهمنى قوافل التهويم ومناظر الدم وأنياب الغولة التى تأكل أولادها . الكون كله كتلة من صراخ مكتوم تصطك أعضاءها فى رأسى . رجفة تحبو فوق وجهى ، وأنا أخرج من بين أيديهن ملفوظة من قبر لامست ضمته . أنظر كسيرة العينين والقلب فأرى عرائس العجين ملقاة فى قعر الدار ملطخة بالدم والطين ، تنهش فى لحمها ذبابات لها طنين .
----------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا


.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف




.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??