الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انطباعات ما بعد الحوار

السيد نصر الدين السيد

2015 / 4 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


سعدت كثيرا بدعوة موقع الحوار لي بإقامة حوار مفتوح مع القارئات والقراء "حول: العلم والتنمية في الالفية الثالثة: منظور تطوري" في الفترة 12-26 ابريل 2015. والآن وبعد انتهاء الحوار اود ان اشرككم في بعض من انطباعاتي. أولا، بلغ عدد زوار صفحة الحوار المفتوح حوالي 31,000 الا ان نسبة من أعجبوا بالمحتوى كانت حوالي 2.1% (او 642) وهذا بالطبع يستدعي من الكاتب مراجعة موضوعات اسهاماته وأسلوب عرضها. ثانيا، وعلى الرغم من التعقيبات العديدة التي تتميز بثقب النظر الا ان أحدا لم يحاول الإجابة على أيا من الخمس أسئلة التي طرحتها وهي:
-;- هل يعيد التاريخ نفسه؟
-;- هل تشابه البدايات يعني بالضرورة تماثل النهايات؟
-;- هل تؤثر الثقافة السائدة في المجتمع على عملية التنمية؟
-;- ماهي اهم ملامح الثقافات الداعمة للتنمية؟
-;- هل يمكن تغيير ثقافة مجتمع ما؟
-;- لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟

واليوم سأحاول تقديم إجابات على هذه الأسئلة آملا في تلقي تعقيباتكم عليها.

هل يعيد التاريخ نفسه؟
تتوقف إجابة هذ السؤال على المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع البشري. فلقد مر هذا المجتمع بأربعة مراحل رئيسية كان اولها هي مرحلة "حضارة ما قبل الزراعة" التي وجدت منذ حوالي 60000 سنة واعتمد فيها الإنسان على الصيد أو التقاط الثمار. وفي هذه المرحلة لم يكن لمفهوم التاريخ أي معنى فإنسان هذه المرحلة كان يعيش "اليوم بيومه" ولا تهمه الا اللحظة الراهنة. ثم كانت المرحلة الثانية، مرحلة مجتمع "حضارة الزراعة" التي وجدت منذ حوالي 12000 سنة واعتمد فيها الإنسان على ما يزرعه من نباتات وما يستأنس من حيوانات. وقد أدت ملاحظة الانسان لدورة الزراعة الى تبنيه مفهوم "دوار" للزمن فكما تتكرر أحداث الزراعة من بذر للبذور حتى لحظة الحصاد تكرر احداث التاريخ وتكون إجابة السؤال بنعم. وتبدأ المرحلة الثالثة، مرحلة "حضارة الصناعة"، في الفترة ما بين 1650م و1750م، بظهور الآلة البخارية بأدائها المنضبط الذي يسفر عن مفهوم جديد للزمن هو المفهوم الخطي. فالزمن طبقا لهذا المفهوم كالسهم المنطلق دوما الى الامام وتصبح إجابة السؤال بلا. وأخيرا، ومنذ خمسينات القرن العشرين، ينتقل المجتمع الى مرحلة جديدة، ما زالت قيد التشكيل، هي مرحلة "حضارة ما بعد الصناعة". والزمن في هذه الحضارة ليس زمنا واحدا بل ازمنة متعددة فزمن الانترنت، على سبيل المثال، تختلف ايقاعاته عن ايقاعات الزمن الطبيعي، الا ان كل هذه الأزمنة تأخذ اتجاها واحدا نحو المستقبل. وكذا تصبح احابة السؤال بلا.

ان إجابة هذا السؤال بنعم تعني باختصار رفضا لفكرة التطور وانكار لقدرة الانسان على التعلم وعلى الابداع.

هل تشابه البدايات يعني بالضرورة تماثل النهايات؟
لعل أفضل إجابة على هذا السؤال هي حالة غانا وكوريا الجنوبية. ففي أواخر الخمسينات كانت مؤشرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكلا من البلدين متقاربة. ففي سنة 1957 كان اجمالي الدخل القومي لكل فرد في كوريا الجنوبية هو 291 دولار امريكي. وقد كانت قيمة نفس المؤشر بالنسبة لغانا هي 400 دولار. وبحلول سنة 1980 بلغت قيمة هذا المؤشر 2000 دولار بالنسبة لكوريا، 400 دولار بالنسبة الى غانا. وفي التسعينات ارتفعت قيمة هذا المؤشر لتصل الى 4832 دولار بالنسبة لكوريا، بينما كانت قيمته بالنسبة لغانا هي 481 دولار. وهكذا وبعد مرور 30 سنة فقط أصبحت كوريا الجنوبية عملاق اقتصادي يحتل المركز الثالث عشر في قائمة الدول المتقدمة اقتصاديا بينما لم تشهد أحوال غانا الاقتصادية والاجتماعية تغيرا ملحوظا.

وتساءل الكثيرون عن السر وراء هذا الاختلاف اللافت للأنظار بين بلدان تقاربت بداياتهم وتباعدت نهاياتهم وتعددت الإجابات. الا ان الغالبية اتفقت ان الثقافة الكورية قد لعبت دورا هاما تحقيق ما يعرف بالمعجزة الكورية. فالثقافة الكورية، المرتكزة على الكونفوشيوسية، تعلي من شأن قيم مثل: البراجماتية، العمل الجماعي، التعلم، المثابرة، العمل الشاق، الولاء للمؤسسات. انها باختصار ثقافة غير ممانعة للتنمية.

هل تؤثر الثقافة السائدة في المجتمع على عملية التنمية؟
والاجابة على هذ السؤال هي بالضرورة "نعم" وذلك عبر "منظومة القيم" السائدة في المجتمع. فهذه المنظومة، بما تحتويه من قيم، تحكم وتوجه سلوك افراد المجتمع وتحدد
لأفراده ما ينبغي أن يكون. وافراد المجتمع هم العنصر الفاعل في عملية التنمية التي يتوقف نجاحها على قدر قناعتهم بأهدافها وعلى قدر إسهاماتهم الفعالة في مختلف أنشطتها. وهنا تبرز أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة، في تشكيل توجهات وسلوكيات وردود أفعال أفراد المجتمع الذي يتبناها.

ولقد أدى الوعي بأهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في عملية التنمية إلى قيام الباحثين بدارسة التجارب التنموية في العديد من المجتمعات المختلفة (Harrison & Huntington, 2000). وعلى الرغم من تباين الخلفيات العلمية لهؤلاء الباحثين واختلاف المقاربات التي استخدموها في دارسة العلاقة المركبة بين الثقافة والتنمية، فإن النتيجة التي اتفق عليها الجميع هو وجود ثقافتين: "الثقافة الداعمة للتنمية" و"الثقافة الممانعة للتنمية".

و"الثقافة الداعمة للتنمية" هي الثقافة التي يشكل العلم، بمعطياته ومناهجه، المصدر الرئيسي لمكوناتها وتدعم منظومة قيمها متطلبات تنمية المجتمع بكافة أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى طرف النقيض تقع "الثقافة الممانعة للتنمية" بمكوناتها المستمدة من تفسيرات حرفية ومتزمتة للنصوص الدينية المقدسة، وبمنظومة قيمها غير المتوائمة مع متطلبات تنمية المجتمع.

ماهي اهم ملامح الثقافات الداعمة للتنمية؟
ولعله من المفيد بيان مدى الاختلاف بين منظومتي قيم الثقافتين من خلال عرض "التوجه الزمني" لكل منهما. هذا بالإضافة إلى نظرة كل منهما لـ "العمل"، "الجدارة"، "التعليم" و"القانون الأخلاقي الملزم".
-;- "التوجه الزمني": تتميز مجتمعات "الثقافة الداعمة" بنظرتها للمستقبل بوصفه الزمن الذي سيجسد المجتمع فيه أحلام أعضائه المتجددة وتطلعاتهم المشروعة وذلك بالتخطيط الواعي وبجهد أفراده. والمجتمعات التي تسودها مثل هذه الثقافات هي المجتمعات التي تأتي "سنة التطور" على رأس مسلماتها، وهي وحدها القادرة على تجديد نفسها وعلى التواؤم الخلاق مع مقتضيات عصرها. أما مجتمعات "الثقافة الممانعة" فتنظر إلى المستقبل على أنه إعادة إنتاج لعصر مضى أقامه الأسلاف وهو، في عرفها، "العصر الذهبي". لذا يتمحور النشاط الفكري لـ "الثقافة الممانعة" حول شرح وتفسير ما جاء في مصنفات السلف الصالح من تصورات وأفكار. وهكذا تعلوا مكانة قيم الحفظ والإتباع والسمع والطاعة، وتتدنى مكانة قيم النقد والتحليل والكشف والإبداع التي تؤكد عليها "الثقافة الداعمة".
-;- "العمل": يلعب العمل، في مجتمعات "الثقافة الداعمة"، دورا محوريا في تشكيل حياة أفراد المجتمع ويستوجب الاحترام والتقدير أيا كانت طبيعته. فعبره يكافأ الفرد على اجتهاداته وانجازاته وإبداعاته، ليس فقط ماليا، بل أيضا معنويا بما يحققه من مكانة وما يشعر به من احترام للذات. أما في مجتمعات "الثقافة الممانعة"، فإن قدر احترام العمل وتقديره يتوقف على طبيعة الوظيفة، "طبقية الوظائف". هذا بالإضافة إلى تسيد القناعة بأن العمل فقط ليس هو الوسيلة المثلى لتحقيق الثروة أو المكانة.
-;- "الجدارة": إن المعيار "الأوحد" الذي يحدد مكانة الفرد في مجتمعات "الثقافة الداعمة" هو قدرته على "الإنجاز" المرتكزة على ما حصله من علم وما اكتسبه من مهارات. بينما تتحدد هذه المكانة في مجتمعات "الثقافة الممانعة" بشبكة العلاقات العائلية أو الاجتماعية التي يتمتع بها.
-;- "التعليم": إن الهدف الرئيسي للتعليم في مجتمعات "الثقافة الداعمة" هو تعليم المهارات المعرفية اللازمة لحل المشاكل المجتمعية من قبيل كيفية التوصل للمعلومات اللازمة وتحليلها وتقييمها وتنميتها. أما في مجتمعات "الثقافة الممانعة" فإن الهدف الرئيسي للتعليم هو استظهار (حفظ) المحتوى المعرفي للمطبوعات المقررة بغض النظر عن استخدامها في حل المشاكل المجتمعية.
-;- "القانون الأخلاقي الملزم": الامتثال الصارم للقوانين والمعايير هي سمة مجتمعات "الثقافة الداعمة". وينبع هذا الامتثال من توافق القانون الأخلاقي مع الواقع الاجتماعي. أما في مجتمعات "الثقافة الممانعة" فإن القانون يعبر عن عالم مثالي لا يعبر عن الواقع الاجتماعي (جروندونا, 2009). لذا يصبح التحايل على القانون من السمات السائدة في هذه المجتمعات.

هل يمكن تغيير ثقافة مجتمع ما؟
ان تغيير ثقافة مجتمع ما، او بصورة أكثر دقة تغيير منظومة القيم السائدة، ليس بالأمر السهل ولكنه بالقطع ليس بالأمر المستحيل. ونقطة البداية في أي عملية تغيير هي اقناع أفراد المجتمع أن بعض القيم التي يتبنونها أو أن بعض المسلمات التي يؤمنون بها لم تعد صالحة أو قادرة على تمكينهم من بلوغ ما يتمنونه لأنفسهم أو للمقربين منهم. وتتأكد هذه الحالة بتقديم شروح مبسطة ومفهومة لأفراد المجتمع تبين لهم أن بعض مكونات ثقافتهم السائدة، بما تتضمنه قيم أو مسلمات، لن تمكنهم من تحقيق آمالهم وأحلامهم. نها اذن مرحلة تهيئة أفراد المجتمع لقبول مكونات ثقافية جديدة، سواء كانت هذه المكونات قيم أو مسلمات، داعمة للتنمية والحداثة. وتأتي بعد ذلك المرحلة الثانية وفيها يتم تقديم المكونات الثقافية الجديدة لأفراد المجتمع وتشجيعهم على تبنيها وتضمينها في أنماط سلوكهم وذلك ببيان ما سيعود عليهم من فوائد حال تبنيها. وأحد الاساليب التي يمكن استخدامها هو أسلوب "وضع مشروب جديد في دورق قديم". او تحميل الكلمات الشائعة والمتعلقة بالمكون الثقافي معاني جديدة. وأخيرا نصل إلى آخر مراحل التغيير الثقافي وهي المرحلة التي تهدف تثبيت المكونات الثقافية الجديدة في صلب تكوين افراد المجتمع لضمان استمراريتها.

ان القيام بعملية التحديث الثقافي هذه هي امر لا مفر منه اذ يعتبر التحديث شرطا لازما لنجاح واستدامة أي جهد مبذول لتنمية المجتمع (السيد, 2010).

لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟
تتضمن إجابة الأسئلة السابقة إجابة هذا السؤال. لقد تخلفنا وتقدم الآخرون لأن منظومة ثقافتا الحاكمة هي منظومة منغلقة بامتياز. فهي، وان كانت تتقبل استخدام ما انجزه الآخرون من تقنيات وتكنولوجيات، ترفض قبول الأسس الفكرية لهذه الإنجازات. ثقافة مصابة بجنون العظمة فتطلق على أي محاولة للتجديد اسم "غزو ثقافي"، وتكفر وتحاكم وتدين، بل وتقتل، كل من حاول ان يفكر خارج الصندوق. فعلوها باغتيال د. فرج فودة عام 1992 ومحاكمة نصر أبو زيد عام 1995 وقبلهما فعلوها مع على عبد الرازق، صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، عام 1925 ومع طه حسين، صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي"، عام 1926. واليوم يفعلوها مع اسلام البحيري. ثقافة منطوية على نفسها تري ان مستقبلها هو في ماضيها الذي انقضى غير عابئة بأي تطور، فكري او معرفي او تكنولوجي، انجزه عقل الانسان.

المراجع

Harrison, L., & Huntington, S. (Eds.). 2000. Culture Matters: How Values Shape Human Progress. New York: Basic Books.
السيد, ا. ن. 2010. ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة (قراءة نقدية لثقافة المصريين في القرن الواحد والعشرين). القاهرة: دار المحروسة.
جروندونا, م. 2009. دراسة الأنماط الثقافية للتطوير الاقتصادي. In ل. هاريزون, & ص. هنتنجتون (Eds.), الثقافات وقيم التقدم, 2 ed.: 117-134. القاهرة: المركز القومي للترجمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طائرات بوينغ: لماذا هذه السلسلة من الحوادث؟ • فرانس 24 / FRA


.. رفح.. موجات نزوح جديدة وتحذيرات من توقف المساعدات | #غرفة_ال




.. جدل الرصيف الأميركي العائم في غزة | #غرفة_الأخبار


.. طلاب فرنسيون يطالبون بالإفراج عن زميلهم الذي اعتقلته الشرطة




.. كتائب القسام تقصف مدينة بئر السبع برشقة صاروخية