الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليبيا، الفردوس الضائع.

علي لّطيف

2015 / 4 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


قبل استقلال ليبيا بشهر وعدة أيام سلّم جوزيف (كاتب تشيكي أمريكي) مقاله "رسالة من ليبيا" إلى مجلة النيويوركر الأمريكية. جوزيف لم يكن كاتباً مشهوراً وانتهت حياته على هذا الأساس أيضاً. في الحقيقة، لا يهم الأمر كثيراً، المهم أن ما ذكره في مقاله حول ليبيا كان صائباً، لم يكن يكذب جوزيف على محرره عندما قال ما بين كلمات مقاله:
"ليبيا غير مستعدة للاستقلال، ما تفعلونه كارثة، انتظرو قليلاً، لنُطور البلد أولاً ثم نعطيها استقلالها !"
جوزيف كان محقاً، الاستقلال كان كارثة، فبعد 19 سنة انهارت السلطة الحاكمة الهشة على يد شاب في نهاية العشرينات، اسمه "معمر القذافي."
الملك محمد إدريس، لم يكن قوياً كفاية ليقاوم ما حدث، لم يطالب بتاجه، لقد ترك الأمر، استسلم ومات بعد 13 سنة في المنفى لوحده بجوار زوجته فاطمة وابنه المتبني عمر وابنته الجزائرية المتبنية "سليمة" التي فقدت والديها خلال حرب التحرير الجزائرية.
في رسالة -ما بعد سقوط النظام الملكي- إلى ايريك دي كاندول "البريطاني الذي كتب عن حياة الملك" كتبت الملكة فاطمة الشريف في نهايتها:
"أحب أن أقول أننا نحمد الله على أن تيجان الملكية لم تبهرنا قط، ولا نشعر بالأسف لفقدها. فنحن كنا دائما نعيش حياة متواضعة ولم يغب عن أذهاننا مثل هذا اليوم. كما نحمد الله كثيرا على أننا لا نملك مليما واحدا في أي مصرف حتى يشغل بالنا المال. ولم نغير أبدا معاملتنا لأصدقائنا، وهي لم تتغير مع الأيام."
في 3 أكتوبر من عام 2009 توفيت الملكة فاطمة عن عمر ال98 سنة في القاهرة، ماتت وحيدة، نسيها الجميع، المعارضة الليبية في الخارج والليبيون في الداخل، كأنها لم توجد قط. أرادت الملكة في وصيتها أن تُدفن بجانب زوجها محمد في مقبرة البقيع في المدينة المنورة، لكنْ السلطات السعودية رفضت ذلك، رفضت أيضاً أن يتم الصلاة عليها في المسجد النبوي، في النهاية دفنوها وحيدة في مقبرة جديدة قرب المدينة المنورة، في قبر صغير لا يزوره أحد.
نشرت السلطات الليبية آنذاك نعياً مختصراً للملكة فاطمة على قنواتها الرسمية، أتذكر أن أمي تحدثت عن ذلك مع أبي، لم أكن أعرف من هي الملكة فاطمة ولم يهمني الأمر، ليس أنا فقط، بل أغلب الشعب الليبي.
في كل سنة من بعد موت زوجها، تذهب فاطمة إلى الصحراء الغربية المصرية، إلى منطقة تدعى "حمام مريوط"، وتقضي أسبوعين أو أكثر في نفس البيت التي سكنته قديماً قبل استقلال ليبيا مع زوجها محمد، يستقبلها السكان هناك –المرتبطون تاريخيا بروابط وثيقة مع الحركة السنوسية - ويفرحون لرؤيتها، كان ذلك يؤنسها، لذلك كانت تذهب كل سنة إلى الصحراء.
من بعد ملكية هشة، ونظام شمولي قبلي، انهارت ليبيا، وأصبحت مسرحاً آخر لحرب الوكالات بين البلدان العربية. البلد التي لم يكن بها أي طبيب أو مهندس أو ممرض أو تقني، وبالكاد عشرون معلم وفقط ستة عشر شخصاً اجتازوا تعليمهم الجامعي كما ذكر جوزيف في مقاله، أصبحت اليوم تمتلك أكثر من 250 ألف طبيب وطبيبة، وأكثر من 150 ألف مهندس ومهندسة، وأكثر من 300 ألف معلم ومعلمة، والصحراء القاحلة التي لا تصلح للعيش أصبحت تصلح للعيش، لقد اكتشف الأمريكيون النفط، شركة صغيرة من نيوجيرسي اكتشفت النفط، وبعد 10 سنوات من ذلك سقط الملك.
أما الأمية، فأغلب الليبيون اليوم يستطيعون الكتابة والقراءة، ولكن القليل منهم يُحسن الادارة والتفكير والثقافة. المشهد القبلي لم يتغير، فالمشهد اليوم حدث في الماضي في بداية القرن العشرين، حرب قبلية مدعومة من أطراف خارجية، والبلد تتمزق مجدداً.
أحد المراسلين الأجانب سألني ذات يوم: لماذا يقاتل الليبيون بعضهم البعض؟
حاولت أن أجيبه، تكلمت كثيراً، لكن إجابتي لم تكن مقنعة، لم أكن أصدقها لأستطيع اقناع أحدهم بها. لن تجد إجابة مقنعة عن سبب الحرب لأن المنطق لا يمكن أن يجد إجابة؛ هناك بلد حجمها أكبر من المملكة البريطانية ب4 إلى 5 مرات، يقطنها 5 مليون ونصف إنسان، لديها شاطيء يُعد من أكبر الشواطيء في العالم، بها آثار حضارات قديمة من الشرق إلى الغرب إلى الجنوب، بها تنوع عرقيّ غنيّ جداً، دخلها السنوي أكثر من 70 مليار دولار كأقل حد، ثقافتها جوفاء لحدّ أنها تستقبل كل الثقافات الدخيلة عليها بكل سهولة، هذا البلد مشروع فردوس، إلا أنه يبدو حالياً كفردوس ضائع.
أحياناً أجد نفسي أتسائل: لماذا يا إدريس لم تقاوم؟ ولا أجد إجابة كافية، هل أنت حقا طيبٌ لهذا الحد؟ لا أعتقد، لا أحد بريء، فاطمة بريئة، إدريس لا، كان بامكانه المقاومة، لكنه استسلم، ليس لأنه غير قادر على المقاومة، بل لأن المسؤولية أصبحت أكبر منه، هناك مستقبل على المحك، فردوس عليه أن يصنعه، لكنه فشل، نظر لنفسه في المرآة ذات يوم وقال لفاطمة: لا فائدة، أنا تعبت.
أما معمر القذافي، الملازم العشريني الشاب فكان على غرار الملك إدريس، كان يملك القوة في داخله للاستمرار، سيطر على الحكم وقتل وسجن كل معارضيه، ببساطة ضحك على جميع من سانده، وترك الأولياء مباشرة له حوله، ثم أبعدهم هم أيضا وبقى لوحده. في آخر سنوات له فقد قوته، لم يعد ذلك الرجل الذي يخاف منه الليبيون، أصبح مجرد شبح وحيد يعيش غالب وقته في الصحراء في ذات الوقت التي تذهب فيه فاطمة التي تتنظر الموت إلى الصحراء لتتذكر زوجها الذي أحبّت. كلاهما فقدَ القوة أمام المسؤولية التي كانت لديهما لاستخدام كل ما تملكه هذه الأرض من مقدرات وتحويلها إلى فردوس.
اليوم انتشر القذافي، وأصبح الجميع يريد أن يكون في حذائه يحمل هراوته ويردد كلماته عن الثورة الدائمة، ونُسي إدريس، وأصبحت صورته أداة سياسية لدى بعض السياسيين وبعض الذين يشتاقون إلى مملكة لم يعيشوا فيها أبداً هرباً من الواقع المعاش اليوم، وسقطت ليبيا في الحرب، الحرب التي تستحقها، لأن قادتها ورجالها ونسائها على مرار التاريخ لم يكونوا على قدر المسؤولية التي أوكلوها إلى أنفسهم، وأصبح الفردوس مجرّد حلم ضائع، لا يتجرأ أي أحد على الحديث عنه مجدداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يتصرف الألمان عندما يمرضون؟ | يوروماكس


.. لمى الدوري: -العراق يذخر بالمواقع الأثرية، وما تم اكتشافه حت




.. الهدنة في غزة على نار حامية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مسلسل المانغا - بون- : وحدة تسافر عبر الزمن وتحي الموتى




.. -طبيب العطور- بدبي.. رجل يُعيد رائحة الأحبة الغائبين في قارو