الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقة مستعادة

ماجد رشيد العويد

2005 / 9 / 28
الادب والفن


ما أصعب هذه الساعة، وما أمرّها هذه الدقائق، كأن كتلة من جبل انفلتت من عقالها وتدحرجت من أعلى إلى أسفل لتستقر فوق صدري فتنقطع أنفاسي، أو كأن سيلاً عرمرماً جرفني في دربه ثم ألقى بي حيث لا ذكر لآدمي. ذلك أنه فوق الطاقة والاحتمال أن تُبدِد من حولك النظرات المسددة إليك. وبالرغم من يقيني أنها لا تعني شيئاً إلا أنها ما لبثت أن فرّقت جمعي، وذرت بقايا نفسي في جنبات الصالة، انفعال هنا وآخر هناك، وشعور يسيل مع الاحمرار المتفجر من وجهي، وآخر ينزف من يدي المرتجفتين . فكيف لي أن أمنع هذا الهول؟ وكيف تراني أحيل الكارثة إلى ضدها؟
في البيت جمعت خاصتي، وهيأت جواً احتفالياً يمنحني الشعور بأني أمام حشد كبير. قلت لعل هذه التجربة تفيدني في ضبط انفعالاتي، ولجم ما أمكن من الرعونة التي تجول وتصول في داخلي. بدأت أقرأ فوجدت عضلاتي مسترخية تماماً، لا وجود لذلك التقلص الذي أقلق راحتي. كنت تماماً كمن يؤدي عن طواعية واجباً ما، هادئاً مطمئناً، لم أرتبك أو أجفل وهذا ما أثار دهشتي. جمعت أوراقي وقلت لا بد أن جمهوري غير مقنع، وهذا ما أبقاني خارج دائرة الاضطراب. عزز من قناعتي في أنهم غير مقنعين ذبولُ عيونهم، وضعفُ إنصاتهم، وكذلك انشغالهم عني بإطلاق الضحكات الخجولة. قلت هؤلاء ليسوا قراء!! فرّقت جمعهم، وبقيت وحدي في غرفتي مع نفس مهتاجة أقرّعها وأزيدها لوماً فتزداد فَرَقاً واهتياجاً. ولكن ماذا أفعل؟ بقي يوم واحد ويصير لزاماً علي أن أصعد إلى المنبر، وأن أقرأ قصتي أمام جمهور عريض في مكان أشبه ما يكون بمأسدة، في كل ركن منها تربض النظرات الضارية، ومن كل زاوية تنطلق الضحكات القاتلة. إنه جمهور برغم اختلاف رؤاه يثير فيّ القشعريرة.
تمرّنت على القراءة مهتماً بالحركات وموقّعاً النهايات بضابط شعري تخرج معه الكلمات سلسة عذبة مع لدونة وبهاء. ومع ذلك لم يخفت وهج الانفعال، ولم يهدأ الرنين في ذاكرتي، فالنخيلة أرض، تمرغت بالدماء، ووصلني ـ إلى حيث أنا ـ ترابُها تسفوه أزمنة ضائعة.
أمامي مرآة مستطيلة، جلست في مواجهتها أراقب تعابير وجهي، وهي تتبدل من الحيرة إلى الانفراج إلى التوتر... وهكذا من دون جدوى. نهضت بعصبية من مقعدي. كنت أهدر، مثل قصتي، بالرغبة في إشعال فتيـل التذكـر، وأنهض ـ كما نهضت كلماتي من بين حريق عيدان القصب ـ قوياً متفائلاً. أخذت أجوب أرض الغرفة جيئة وذهاباً تنهمر مني اللعنات على ما انصرف من القرون الغابرة، وعلى الكتب وقد بددت الحقيقة، أو شوهتها في الحد الأدنى. هدأت قليلاً، ثم انصرف بصري إلى الغد المكتظ بدقائقه الحرجة. قلت: مالي والأجواء الملتاثة؟ ولعله في تلك اللحظات تمكّن مني لومُ العزوف عن الابتداء. ولم لا؟ القصة حملت بين ربوعها تاريخاً ضاجاً بالنكبات، وممرغاً بالدم المسفوك غيلة؟
نظرت إلى المرآة فعكست لي وجهاً مخطوفاً تائهاً بائساً. وفي غمرة انشغالي بوجهي الممتقع، وبعجزي عن خلع ذاكرتي المصرّة على الاحتفاظ بما جرى يوم ذاك في النخيلة، وبتخيلي منظر الرؤوس وهي تتطاير.. في هذه الغمرة القاتلة رأيت أني أعود قصيراً، قصيراً جداً.
اقتربت منها، مختـرقاً بعينين متعبتين سطحها الصقيل. كان حقيقة ما أرى، رجلاً قصيراً أو طفـلاً بوجه رجل. أبتعد عن المرآة إلى حيث الجدار المقابل، أعاود النظر وأكاد أسحق عيني من الفرك... وفي استسلام مُذل لقدر غريب قلت: مُسخت قزماً. جلست بتخاذل، أرخيت قدمي، ورفعت إلى السقف رأساً مغمض العينين. حاولت أن أنام، جاهدت لاقتناص غفوة سريعـة، وعبثاً مضت محاولتي.
ولما كنت موزعاً بين أن أقرأ، وأن لا أقرأ عدلت عن القرار السابق في تحدٍّ مفاجئ. فززت من مقعدي، وانبثقتْ على الفور فكرة أدهشتني. لم لا أستفيد من قصر قامتي فأرى الناس ولا يرونني، وبهذا أقرأ مع قدر هيّن من الثقة قصتي؟ ولأكرس هذه الثقة الطارئة، قلت سأدفع بالجمهور إلى التراب القديم المعجون بالدم المسفوح فيعيشون أحداثاً دونتهـا الأيام في صفحاتها، وبهذا أتخلص من نظراتهم. راق لي ما انتهيت إليه، أخذت أقفز على أرض الغرفة فرحاً نشوان. نقرت على الطاولة القريبة مني عدة نقرات وقلت: قصتي موضوعها كبير.
عدت من جديد أمرّن نفسي. قرأت:
أنوح لا على نفسي ولا أنوح إلا عليهم
في النخيلة ذرت الريح دمي وشذّرت صوتي السيوف
آه من ريح ذرتكم إلى يوم جلل
بدأت كلما أقرأ مقطعاً أحس بأني أتطاول، حتى لقد خشيت من اختراق الطبقات العليا. منحني هذا الإحساس الثقةَ فلم أعد أرى رأسي في المرآة، وبالكاد كنت أرى ساقاً، ساقاً فحسب، غطت مرآتي الصقيلة. وللتأكد من أنني لست مريضاً، ولست في حلم تقدمت منها، وجسست سطحها بيدي. كانت مرآة ولا شيء آخر، ولا تعكس الآن أكثر من قدمي وساقي. تابعت:
أخذت أجري كالملهوف فوق صحراء تخضبت بالـدم كثبانها، تشدني إليها رائحة الدم المسفوك غيلة. كلما اقتربت أكثر تخيلت عيدان القصب، وقد اشتعلت بها النار فتحمي هذه ظهورهم، فيأتون عدوهم في أربعة وثمانين في مقابل أربعة آلاف. أرفع بصري فأبصر مطراً من الموت يتساقط فوقي فتمزقني السيوف وتلعنني الندامة. تشتعل في الجوانح مني أغنية للبكاء، ويتسرب من حناياي اشتعال الألم. تذكرت الرأس المقطوع ، وقلت ويحي وقد تاه النداء، ويحي وقد غطتني الرمال، وألغبتني الهاجرة. رأسي يضج بالذكريات وحصاني تأكل الرمال حوافره، ويشربني الشجن. توقفت.
لم أعد أرى سوى حذاء كان قبل قليل بحشوة مرتجفة. آنذاك أحسست بالنشوة تعمني.
في اليوم التالي صحوت مرهقاً، خائر القوى. استغرقني الليل وهدّني التفكير والتمرن على القراءة. تابعت:
في طريق عودتي، تذكرت كيف حوصر. ولما لم يبـق سواه، وبعد أن أظلم الليل، وتمكن منه التعب وخارت قواه، أمسكوا به ملآن بطعن السيوف والرماح. احتزوا رأسه ثم وضعوه في صندوق طافوا به مجتازين الرمال والأمصار إلى حيث الخضرة في دمشق الشام.
انتهيت من قراءتي فأصبت اطمئناناً امتلأ به جوفي وأنا أدرك أن الناس ليسوا على علم بالحقيقة.
أمامي كأس ماء. كلما قرأت كلمة أخذت جرعة منه. وفي غمرة الارتباك والانفعال، وبين ابتداء القراءة، وابتداء الخوف أتيت عليه كله في السطر الأول. ومن دون فائدة فلقد عاد إلى ريقي جفاف قاتل.
كنت مدلياً رأسي، مثبتاً عيني على الكلمات أمامي. ولخلق نوع من الشد، وجذب انتباه الجمهور ابتدعت مؤثرات حركية موحية. ولإسدال لون من الستار على الدم الصاعد إلى وجهي أخذت أنقل بصري من اليمين إلى الشمال، ومن الشمال إلى اليمين متريثاً قليلاً في الوسط ...
بهذا تمكنت من القراءة، وأخرجت من البعيد الملغّز من التاريخ أياماً لطختها بالدم يد آثمة. وخيل إلي حالما انتهيت أني كنت مغموراً بالإعجاب، محاطاً بعبارات التمجيد. رفعت إلى الأعلى يدي مع تحريك مدروس لكفي، معبراً عن شكري للحضور الذي غابت ملامحه، والذي راح يصفق ويصفق بأعنف مما يمكن تصوره.
ولا أدري لم أحسست بأن نواحاً تؤججه بؤر بعيدة، بؤر خافية من لا شعور مجهد، يشرق فيّ، فيصير الشجن نداء أبثه لإمام تدلت عروق رأسه المقطوع، تروي تراب الأمصار طهراً من النخيلة إلى الشام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظروا لقاء مع أبطال مسلسل دواعي السفر وحوار مع الفنان محمد


.. فاكرين القصيدة دى من فيلم عسكر في المعسكر؟ سليمان عيد حكال




.. حديث السوشال | 1.6 مليون شخص.. مادونا تحيي أضخم حفل في مسيرت


.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص




.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..