الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!! التسعة جنيهات.. ياخرابى

ياسر العدل

2005 / 9 / 28
كتابات ساخرة


في كل الزمن المرصود سافر بعض الناس إلي الهند والسند يحاورون الناس والأفيال والنمور والقرود وبعض أنواع الكلاب، وسافر بعض الناس إلي بحر الظلمات يحاورون الناس وكهوف الصحارى والقفار يداعبون الثعابين والغزلان وبعض أنواع السحالى، هكذا سافر الناس في كل الجهات يركبون الصعاب والحمير والجاموس والجمال، طمعاً في فضل تنفيذ الوصية الحكيمة »اطلبوا العلم ولو في الصين«، وكان الناس يحصدون سبع فوائد من أسفارهم، وفي الثامنة من الفوائد يزيدون أموالاً في رواتبهم.
طوال الخمسين سنة الأخيرة من عمري، وأنا أطلب العلم في الكتاتيب والفصول والمدرجات علي شفاه المدرسين وأفواه العلماء، أحمل علي كاهلي ميراثاً من التعاويذ والتطلعات، دعوات أمي في أن أكون صاحب حظوة بالعلم والرحمة، وصيحات أهل التنوير في أن أكون ثورياً بالعلم والإدارة، وتطلعات أبي في أن أكون وزيراً بالعلم والمسئولية، وتصريحات المثقفين فى أن أكون حراً بالعلم والشموخ، وطموحات زوجتي في أن أمسك ذيل الذئب بالعلم والصبر، وسخافات أولادى في أن أرضعهم لبن العصفور بالعلم والعصامية، ومع كل ذلك الميراث الثقافى يحشر في أدمغتنا إلا أنني لم أصب في مجتمعنا غير قليل من ذلك العلم المطلوب، فتخلي الجميع مؤقتاً عن فكرة الاستغناء عن وجودى، وحين أصابني بعض الحظ أصبحت عضو هيئة تدريس في كلية التجارة بجامعة المنصورة.
في الأعوام القليلة الفائتة، عملت برأي بعض العصاميين من أساتذتى وزملائي، بأن العلم بين أهله لا يكيل بالباذنجان أو الكوسة، ولابد من تقديم أبحاث علمية نرقى بها وظيفياً وترقى معها جامعاتنا، كثير من أساتذتى وزملائي مدوا لى يد العون، فلزمت بيتي أعصر من عقلى فكراً وأدفع من جيبى نقوداً، وتقدمت بأبحاث علمية للجان الترقية المختصة، وبعد دهر من صبر أيوب حصلت علي الترقية الوظيفية، وعلي عوز أقمت عرس النجاح، مائدتين أو ثلاثا من بط محمر ودجاج مشمر وما تيسر من حلوى، وأصبح لائقاً أن يغمرنى الإيمان بأن العلم في بلادنا لا يكيل بالباذنجان أو الكوسة، ذلك بأن العلم يملأ العلماء ثقة في مستقبل بلادهم، يقلل من ضغط عمداء الكليات وقدسية الوزراء وسطوة الزوجات، يفتح الشهية للعدل والحرية والديمقراطية يزيل غصة الفقر ويبشر بزيادة شرعية في المرتبات.
منذ شهور أصبحت ترقيتي واقعاً حزيناً يرصده الحاسدون وجامعو الفواجع من كشوف المرتبات، ذلك بأنني بقيت أكثر من شهرين أحمل اللقب العلمى الجديد دون زيادة في راتبي، وحجة الإدارة أن ميزانية الجامعة وقتها لا تسمح بتعيينى، فضاع نصف أملى في جني فوائد الترقية، وأصبح مبرراً أن يسود الاعتقاد بأن الاعتراف بترقياتنا العلمية يتوقف علي إرادة موظف يتحكم في ميزانية الجامعة، موظف قد يري أن جهاز تكييف يلطف الجو فوق رأس المدير أهم كثيراً من ترقيات علمية تجلب المشاكل فوق رأس الإدارة، وحين سمحت الميزانية الحالية للجامعة بتعييني علي وظيفة الترقية أصبح راتبى الجديد ينقص عن راتبى القديم بمبلغ تسعة جنيهات وقروش قليلة، وحجة الإدارة أن بعض مفردات راتبى الجديد دخلت شريحة عالية الضرائب، هكذا ضاع النصف الآخر من أملي في إصلاح قوانين المرتبات في الجامعة.
إن واقعة ترقيتي مع فقدانى للتسعة جنيهات من راتبى، واقعة تفضح مع العقلاء خرف قوانيننا وشقاءها، وتبكي معي علي تعبى وشقائي، واقعة غير مبررة عند فقهاء القانون، كيف أحصل علي ترقية علمية في صميم تخصصى ولصالح العمل، ثم أضار بها وينقص دخلى؟.
إن كثيراً من وقائع ترقياتنا الجامعية، من معاملات علمية وإدارية ومالية، تؤكد أن العلم فى بلادنا يكيل بالباذنجان والكوسة، العلم في بلادنا فاقد المصداقية مهين الجانب ضعيف المناصرين، وأن واقع جامعاتنا يؤكد أن الذين يشرعون قوانين العمل والمرتبات يسعون نحو تدريب أساتذة الجامعات علي الكسل والطاعة، يستصدرون قوانين معاشات ضد كبار الأساتذة، ويصرون علي بقاء وتنفيذ قوانين تحرم الباحثين من مجهوداتهم، ومع ذلك يرسلون تعليماتهم إلي مجالس الأقسام العلمية يطلبون منع أساتذة الجامعة من الاتصال بالصحافة.
آه يا لضعفى، بأن تكون مشكلتي هى نقص راتبي لمبلغ التسعة جنيهات وقروش قليلة، وآه يا لقوتى، بإيمانى بأن الاتصال بالصحافة أمر ضرورى لتغيير بعض من صور الانحراف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزراء الزراعة وقطاع الا?عمال والاستثمار والعمل والثقافة يو?د


.. لبنى.. ابنة الفنان المصري أحمد راتب تخطت صدمة وفاة والدها ب




.. نصير شمة يحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس بيت العود العربي في الق


.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي




.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر