الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روحٌ مُتْعَبَة (قصّة قصيرة)

حسين مهنا

2015 / 5 / 2
الادب والفن


حسين مهنّا
روحٌ مُتْعَبَةٌ .. (قصّة قصيرة)


ما كانَ لِيُصَدِّقَ أَنَّهُ قد بَلَغَ منَ العُمْرِ ما بَلَغَ لَولا بَناتُهُ وأَبْناؤُهُ والأَحْفادُ الَّذينَ اجْتَمَعوا حَولَ كَعْكَةٍ شَهِيَّةٍ ، لِيُطْفِئُوا شَمْعَتَهُ السَّبْعينَ مُغَنّينَ مُبارِكينَ .. حَتّى الكَعْكَةُ الّتي حُرِمَ مِنْها مُؤَخَّراً لارْتِفاعِ السُّكَّرِ عِنْدَهُ ، ساهَمَتْ مُساهَمَةً كُبْرى في تَذْكيرِهِ بِأَنَّ الأَيّامَ لَيسَتْ هيَ الأَيّام .. لكِنَّهُ قَبْلَ أَنْ تُطْفَأَ الشَّمْعَةُ سَأَلَ : أَينَ الشَّمْعَةُ الثّانِيَةُ ؟ فَقَد عَوَّدَ المُحْتَفِلينَ في أَعيادِ ميلادِهِ أَنْ يُطْفِئُوا شَمْعَتَينِ : واحِدَةً من أَجْلِهِ وواحِدَةً أُخْرى من أَجْلِ زَوجَتِهِ . عَلَّقَتْ إحْدى بَناتِهِ : هذا هو الحُبُّ ! فَقالَ : لِمَ لا تَقولينَ هَذِهِ هيَ المَحَبَّةُ ! الحُبُّ يا ابْنَتي نارٌ قد تَخْمَدُ ، وأَمّا المَحَبَّةُ فَنارُها مَجوسِيَّةُ لا يَخْمَدُ لها لَهيبٌ ... وبَينَما الجَمْعُ حَولَهُ في مَرَحٍ وفَرَحٍ ، خاطَبَ نَفْسَهُ : كَبِرْتَ يا أَبا مَهْيوب ! وراءَكَ رُكامُ سَنَواتٍ عِشْتَها طولاَ وعَرضَاً .. فماذا سَجَّلْتَ في دفْتَرِ حَسَناتِكَ من عَمَلٍ صالِحٍ؟ لَقَد بَنَيتَ وتَزَوَّجْتَ وأَنْجَبْتَ البَنينَ والبَناتِ ورَبَّيتَ وعَلَّمْتَ ... ولكنَّ كُلَّ هذا لا يَخْرُجُ من دائِرَةِ ذاتِكَ .. لَقَد بَلَغْتَ السَّبْعينَ .. والسَّبْعونَ سِنٌّ مِفْصَلِيَّةٌ بَينَ سَنَواتٍ أَنْتَ أَكَلْتَها ، وبَينَ سَنَواتٍ هيَ سَتَنْهَشُ ما تَبَقَّى لَكَ من العُمْرِ ! فاخْرُجْ الى الحَياةِ فاتِحَاً لَها ذِراعَيكَ ، واعْمَلْ صالِحَاً ، ما أَجْمَلَ وأَعْدَلَ ما يَقولونَ .." الحَسَناتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ" .... ولكِنْ أَرْجوكَ لا تَعْتَمِدْ على ذلكَ كَثيرَاً ! بَلِ اعْمَلْ بِهَدْيِ حَديثٍ أَخْرَجَهُ ابن عَساكر :على كُلِّ مُسْلِمٍ في كُلِّ يَومٍ صَدَقَةٌ : عِيادَتُكَ المَريضَ صَدَقَةٌ ، وصَلاتُكَ على الجَنازَةِ صَدَقَةٌ ، وإماطَتُكَ ( إبْعادُكَ ) الأَذى عنِ الطُّرُقِ صَدَقَةٌ ، وعَونُكَ الضّعيفَ صَدَقَةٌ .... وعاهَدَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ في النَّومِ أَنْ يَنْهَضَ في الصَّباحِ ، ويَزورَ كُلَّ الَّذينَ كانَتْ بَينَهُ وبَينَهُم جَفْوَةٌ .
- بِدايَةٌ سَليمَةٌ .. قالَها بِلَهْجَةِ مَنْ ضَرَبَ فَأَصابَ .. وفي الصَّباحِ خَطَرَ بِبالِهِ أَنْ يَتَجَوَّلَ قَليلاً في طُرُقاتِ القَرْيَةِ الّتي ما ابْتَعَدَ عَنْها إلاّ وشَدَهُ الحَنينُ اليها .. سارَ مُحَيِّيَاً المارّةَ ، والجالِسينَ في الشُّرُفاتِ يَحْتَسونَ قَهْوَةَ الصَّباحِ فَيَرُدّونَ التَّحِيَّةَ بِأَحْسَنَ مِنْها ، داعينَهُ لِارْتِشافِ القَهْوِةِ مَعَهُم .. وهَناكَ مَنِ انْتَبَهَ الى عُكّازَتِهِ الّتى في يَمينِهِ ، فَقالَ بِقَلَقٍ صادِقٍ مُحَبَّبٍ :
- سلامتك .. ! فَيَبْتَسِمُ رافِعَاً عُكّازَتَهُ بِيَسارِهِ ، قائِلاً : شُكْرَاً ! أَنا بِخَيرٍ .. هذِهِ لَيسَتْ بِسَبَبِ اعتِلال .. إنَّها من ضُروبِ الكَمال ..!
تابَعَ طَريقَهُ .. مَرَّ بِبَيْتِ أَحَدِ أَتْرابِهِ .. رَحَلَ حاملاً مَعَهُ مَرَضَاً خَبيثَاً ، وتارِكَاً وراءَهُ ذِكْرَاً طَيِّبَاً ! لم يَكُنْ تِرْبَهُ فَقَطْ بَل كانَ أَحَدَ أَصْدِقائِهَ الأَوفِياءِ الأَذْكِياءِ .. وغالِباً ما كانَ يَتَفَوَّقُ عَلَيهِ بِسُرْعَتِهِ في حَلِّ المَسائِلِ الحِسابِيَّةِ المُعَقَّدَةِ حينَ كانا صَغيرَينِ على مَقاعِدِ الدِّراسَةِ.. قَرَاَ الفاتِحَةَ على روحِهَ ونَفَضَ يَدَهُ يَمْنَةً ويَسْرَةً كَمَنْ يَنُشُّ ذُبابَةً مُزْعِجَةً ..أَو مَنْ يَدْري ؟! لَعَلَّهُ يَنُشُّ مَلَكَ الموتِ الّذي لا يَكِلُّ ولا يَسْتَكينُ ..
وَصَلَ السّاحَةَ العامَّةَ .. هذِهِ السّاحَةُ المُمَيَّزَةُ بِعَينِ مائِها وشَجَرَةِ توتِها الخالِدَتَينِ .. لَكَمْ لَعِبَ فيها صَبِيَّاً ، ونَبَضَ قَلْبُهُ نَبَضاتِ الحُبِّ الأُولى فيها شابَّا حينَ كانَ وأَتْرابَهُ ، يَنْتَظِرونَ الصبايا الوارِداتِ كَالغَزالاتِ على العَينِ لِيُعَبِّئْنَ جِرارَهُنَ ماءً وقُلوبَهُم اشْتِياقَاً ! هذا حينَ كانَ التَّفْكيرُ بِوصولِ المِياهِ الى البُيوتِ أُمْنِيَّةً بَعيدَةَ المَنالِ .. وفي هذهِ السّاحَةِ أَيضَاً كانَ يَقْتَربُ من مجَالِسِ شُيوخِ القَرْيَةِ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ الى أَحاديثِهِم ... عابَّاً حِكْمةَ الحياةِ من مَعينِ تَجارِبِهم ... وابْتَسَمَ لِهذِهِ الذِكْرى الَّتي جاءَتْهُ من غَياهِبِ سَنَواتٍ مَضَتْ .. أَتْبَعَ ابتِسامَتَهُ تِلكَ بِضِحْكَةٍ خَرْساءَ .. يَكادُ لا يُصَدِّقُ أَنَّ السّاحَةَ قَدْ أَقْفَرَتْ من مجالِسِ الشُّيوخِ ، وأَنَّ ( الفيس بُكْ ) فَتَنَ عُقولَ الشَّبابِ ، ولَمْ يَعُدْ لِحَديثِ كِبارِ السِّنِّ قيمَةُ !! لا بَل قد يَكونُ مادَّةً لِلتَّفَكُّهِ ولِلتَّنَدُّرِ .. حاوَلَ أَن يُخادِعَ نَفْسَهُ فَيَعْزو ذلكَ الى ما يُعْرَفُ بِصِراعِ الأَجْيالِ .. لكِنَّ صِراعَ الأَجْيالِ كما يَفْهَمُهُ هو دَفْعٌ الى الأَمامِ لا شّدٌّ الى الوَراءِ ! وتَرحَّمَ على جُبْران خَليل جُبْران حينَ قالَ : أَبْناؤُكُم لَيسوا لَكُم ، أَبْناؤُكُمْ أَبْناءُ الحَياةِ !! ولكنْ لا ..! لَعَلَّهُ أَرادَ أَنْ يَقولَ : أَبْناؤُكُمْ لَيسوا عَبيدَاً لَكُمْ ، ولَيسوا أَيضَاً عَبيدَ فَوضى الحَياةِ .. وعادَ فَتَرَحَّمَ على نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَم يُعِدَّها لِزَمَنٍ أَصْبَحَ فيهِ الشَّيخُ شَيئَاً انْتَهَتْ مُدَّةُ صَلاحِيَّتِهِ .. وضَحِكَ لِهذا الخاطِرِ .. ضَحِكَ كَثيرَاً .. إذَنْ هُوَ وكَعْكَةُ عيدِ ميلادِهِ واحدٌ !!
كِلاهُما مُحَدَّدٌ بِتاريخِ انتِهاءِ صَلاحِيَّتِهِ معَ فارقٍ بَسيطٍ !!! فَالكَعْكَةُ تُؤْكَلُ قَبْلَ انْتِهاءِ صَلاحِيَّتِها .. وهو .. هل مِنْ آكِلٍ لهُ سِوى المَوتِ ؟ ولَمْ يَشْغَلْ بالَهُ بِفَلْسَفَةِ الموتِ ، فَقَدْ فَعَلَ ذلكَ قَبْلَهُ كَثيرونَ ولَم يَصِلوا الى نَتيجَةٍ مُحَدَّدَةٍ يَرْتاحونَ لَها ويُريحونَ بَها غَيرَهُم ..!
أَنْهى مُهِمَّتَهُ الَّتى تَركَ بَيتَهُ من أَجْلِها .. حَقَّاً كانَ في غايَةِ السَّعادَةِ بِما فَعَلَ .. وتَرَحَمَ على الكاتِبِ المِصْريِّ علي أَمين وهو يَقول : " يا رَبّ ! أَعْطِني شَجاعَةَ الصَّفْحِ عَنِ الَذينَ أَخْطَأُوا في حَقّي ، وشَجاعَةَ الاعْتِذارِ لِلَّذينَ أَخْطَأتُ في حَقِّهم " .. ولكْنَّ خَواطِرَهُ الّتي كانَتْ ولا تَزالُ سَبَبَاً في قَلَقِهِ الدّائِمِ عادَتْ تُساوِرُهُ من جَديدٍ...لا .. لَنْ يَكونَ مادَّةً لِلتَّنَدُّرِ .. لا .. ولَنْ يَكونَ مادَّةً قد انْتَهَى تاريخُ صَلاحِيَّتِها .. ولَنْ يَكْتَفي بَصَدَقَةٍ واحِدَةٍ في اليَوم لا..لا ... لَنْ يَكونَ مُجَرَّدَ عَجوزٍ عاجِزٍ يَتَرَحَّمونَ عَلَيهِ في بَيتِ عَجَزَةٍ في يَومٍ لا بُدَّ آتٍ ..!! فَمِنَ الغَدِ سَيَطْرُقُ أَبوابَ المُؤَسَّساتِ الَّتي تَقْبَلُ مُتَطَوِّعينَ .. سَيَهَبُ نَفْسَهُ لِخَدَماتٍ قَدْ تُريحُ قَلْبَاً موجَعَاً ، وتَرُدُّ بَهْجَةَ الحَياةِ لِروحٍ يائِسَةٍ مُعَذّبَةٍ ..
كانَ قَدْ وَصَلَ بَيتَهُ .. لَمْ يَكُنْ يَشْعُرُ بِتَعَبٍ أَو وَجَعٍ في الرُّكْبَتينِ .. كانَ رِضاهُ عَنْ نَفْسِهِ يَفوقُ كُلَّ تَعَبٍ أَو وَجَعٍ .. وراحَ يَصْعَدُ دَرَجاتِ بَيتِهِ .. وفَجْأَةً غَمَرَهُ شُعورٌ لَذيذٌ .. أَحَسَّ أَنَّهُ لا يَصْعَدُ دَرَجاتِ البَيتِ بل دَرَجاتِ سُلَّمٍ يوصِلُ الأَرضَ بِالسَّماءِ ..... !



( يَناير 31/1/2015 )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي