الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمة موجهة لأصحاب الشرف

بن جبار محمد

2015 / 5 / 2
الادب والفن


كلمـة موجهة لأصحاب الشرف


أنا أحمد بن شارف من مواليد 1936 متقاعد في الجيش الفرنسي ، مقيم بدنكيرك في شمال فرنسا ، أتواجد يوميا في نهج الجيش الذي ينتهي عند الميناء التاريخي ، تقاعدت برتبة مساعد أول سنة 1978 بطلب مني ، وضعت حدا للجندية ، رحلت مثل مئات الجزائريين و الفرنسيين و اليهود إلى فرنسا ، اخترت الرحيل ، لم يكن لي خيارا آخـر ، لم أتردد لحظـة في توديع هذا البلـد ، لـولا أمي الذي جعلتني أفكّر قليلا و أتريث في قرار الرحيل و ألتفت قليلا إلى الوراء ، لكنّي رحلت ، اخترت مصيري ، في حين كثير من أقراني لم يحصل لهم شرف تحديد مواقفهم ، اخترت فرنسا ، أحببتها ، تشربّت روحها ، اعتنقت أفكارها ،تكلّمت لغتها و تجنست ، استفدت من الرعايـة و الامتيازات الاجتماعية و المهنية و الصحية ، أنا الآن تحت رعايـة مدام " فاني بوركي" بالديوان الوطني لقدماء المكافحين و قد أصبت بأمراض الشيخوخة و قد شجعتني على كتابة مذكراتي في/ عن الجزائر و على تجسيد الذاكرة في مساعيها لأجل التخفيف من التوتر الذي ينتابني في أوقات معلومة ، ساعدتني كثيرا في كتابـة هـذا النص و رافقتني طيلـة سنتين و نصف في الإشراف المباشر و مناقشة كل فقرة من فقرات المخطوط دون أن تتدخل في كتابته أو في محتواه ، تعمدت أن أتخلص من "جزائريتي " ليس انتقاما أو كرها ، أريد أن لا يكون حنين بمذاق حمض الأسيد ،، لم أوفق بعد . بعد مرور أكثر من سنة ، مازال أصدقائي ينادونني ببن شارف الحركي أو الحركي ببساطة ، لا تحرجني هذه التسمية إطلاقا لأن ما أراه الآن في بلــد العرب من تدمير ذاتي و تحطيم مقدرات شعوبهم و بيع بلدانهم و ثرواتهم و أحيانا الاستعانة بجيوش الغرب و قوات الحلف الأطلسي يدعو للسخرية ، الخيانة لا تكون إلا إذا كانت جماعية أمــا الخيانـة الفردية فهي موقف ، اتخذت موقفا حازما يوما ، ودخلت في الصف الفرنسي . انتقمت لشرفي ، إذْ كنت أسكن في أحد دواوير غابة سيدي عبد العزيز ، يتيم الأب ، توفي أبي في ظروف عادية ، كنت شابا في العشرين من العمر ، شاب وسيم ، درست التعليم القرآني و التعليم النظامي بمدرسـة زمورة و بعدها انتقلت إلى مستغانم لإكمال تعليمي المتوسط لظروف الفقر و الحاجة عدت إلى مسقط رأسي . وجدت أمي تبكي !! أخبرتني أن القطعـة الأرضيـة التي كانت للمرحوم أبي استولى عليها عمي و ضمّها لأملاكــه، لم يبق لنا شيئا يعيل أسرتنا الصغيرة أمي و أختي التي تصغرني بأربع سنين و أنــا. عمي أصبحت لـه هيبـة بعد صعــود ابنه إلى الجبل يرهّب به أهــالي الدوار في كل مناسبة، لم يبق لنـا إلا ذلك الحيّز الصغير أمام البيت ، أشبه بساحة صغيرة ، لا أحد يجرؤ على عمي و لا أحد يخالفه الرأي في مسألة الاستيلاء على أرض أبي ، الكل يتخوف منه ، حتى شيخ الجامع أعتبر شأنا داخليا ، يستوجب السكوت و صرف النظر ، أنا لم أسكت و لم أصرف نظري ، اقتربت منه و طلبت أن يتخلى عن القطعة الأرضيـة التي ضمّها إلى أمــلاكـه ، كنت برفقة أمي في بيته الذي لا يبعد سوى بضعة أمتار ، زمجر كالأسد الجريح و استنجد بأولاده ، هرعــوا إليـه و أوسعــوني ضربا و أثخنت بالجراح ، رموني تحت الزرب و أمي جرجروهــا بعيدا و قد صفعها عمي أمامي ، بل أن مسكن جدي حرموني الدخول إليه نهائيا . بعد أيام انتقلنا للفيلاج عند أهل أمي ، نار الحقد اشتعلت في قلبي ، عملت في مقهـى هنــاك ثم عند حرفي ثم كاتب عمومي ثم التحقت بلاصاص "كنــاندة" ، انتقمت من عمي أشد الانتقام ، أطلقت عليه الرصاص من مسدس خبأته تحت قميصي و تركت مرميا في الوادي وهــو عائد من السوق . هنا انتهت عــلاقتي بالجزائر و انتهت علاقتي بالأهــل ، بعدها طلبت الانتقال إلى لاصاص المطمر أو عين الحلوف ، لحسن حظي أنه تمت الموافقة على لاصاص عين الحلوف . في بداية الأمر كنت أعمل في نادي الجنود ثم أنتقل مباشرة إلى كخادم شخصي للقبطان مونترويْ ، تطور الأمر أن أصبحت سائقه الشخصي و مرشده ، أحببت القبطان و كسبت ثقته ، اتخذني ولدا له و صديقه و مؤنسا له ، تفتحت عيوني على فرنسا ، شعرت أن لاصاص هي عائلتي الوحيدة و القبطان مونتروي هــو أبي ، انضمامي إلى المخازنية جاء في وقت متأخر ،، كانت في أواخر سنة 1959 ، فرحت لما لبست البزة العسكرية مثل المخازنية و القومية العرب و حملت السلاح .
كنت ألازم " القبطان مونتروي" طيلة تواجدي بعين الحلوف ، و أنا الوحيد الذي أقتحم عليه مكتبه و أقرأ أوراقه و تسجيلاته و مراسلاته و ملاحظاته التي يدوّنها في " فاي مينيت" ، كان يحدّثني بآلامه و مخاوفه و هواجسه ، سنوات 1960-1961-1962 سنوات عصيبة عليه ، أشفقت عليه كثيرا ، كان من عشاق النبيذ الجزائري ، أنا شخصيا كنت أذهب إلى باليكاو بمعسكر لشراء النبيذ المحلّي ، النبيذ وحده كان يخفف عليه وطأة الأحداث .
سجّلت وقائع سبعة عشر الأخيرة للقبطان مونترويْ في عين الحلوف و هـذه المخطوطة التي أقدمها بين يديكم هي ثمار جهدي في تدوين تفاصيل مرحلة بكرونولوجية ساعة الرمل تتبعا للأحداث التي مرت على القبطان ، أغفلت بعض المواقف و تحفظت على بعض الأسرار الشخصية تخص عائلته ، أستسمح القراء أنني لا أجيد الكتابة الروائيـة ، أنا مجرد شاهد فترة زمنية من تاريخ فرنسا في الجزائر ، يسعدني أن أستعيد ذاكرتي و أشارك الجميع بما فيهم العرب الجزائريين ، عن فترة من فترات القبطان مونتروي .
استندت في كتابة هذه الشهادة على كل ما سقط في يدي من وثائق و تقارير و مراسلات و جذاذات الأوراق التي كتبتها يوما و ما رأيته و عاينته بنفسي و ما عرفته آنــذاك .. هذه المذكرات ليست طلب غفران أو توبة أو مخاطبة ود أحد من النــاس أو تكفير عن الخطايا، لم أندم يوما، أنا اتخذت موقف ذات يوم و مشيت على نهجه إلى النهاية.. كنت صريحا مع نفسي، و تحملت الآلام و النتائج و لم أتمكن من معانقة أمي و لقاء أختي و العودة إلى مسقط رأسي. تدخّل القدر و أرغمتني الظروف القاسية أن أنجو بنفسي، أن أعيش بقية عمري في منفى.. لخصت حياتي في بضعة أسطر ! لأنني أرى لا جدوى في التفاصيل و لا تأثير لهـا ، انتقمت من عمي ، كان هو هاجسي ، الوطن لم يكن هاجسي ، الوطن يجد من يدافع عنه ، شعرت بالظلم فثأرت لنفسي ، ما زالت أعتقد أن قصتي بدأت في ذلك اليوم الذي بكت فيه أمي و انتهت في شعبة أحد الوديان . لست فخورا بنفسي و حياتي المتبقية لا أهمية لها مثل باقي الحركى ، كل واحد منهم له ظروفه الشخصية ، لا أشفق عليهم و لا أشفق على نفسي ، اعتقد أنني محاط بكل الرعاية و هذا كفيل أن يعوض عني حب الأم ، القبطان مونتروي ملأ فراغي و كنت من مقربيه ، أصبغ عليّ كل مشاعر الشفقة و العطف ، في هذه المذكرات أخلّده و أتتبع خطاه في رحلـة الحنين و الذاكرة و التاريخ ، التفاتتي هذه هي مجرد تلصّص عن طيبــة خاطر من ثقب التاريخ ، كلمـات أوجهها لأصحاب الشرف الذين يدعــون حب الوطن و الذود عنه ،لكنهم يتمنون الموت في حضن المستعمر القديم و في فراشه و على أرضه ، الوطن لم يكن هاجسهم و الشرف أيضا ، الشرف و الخيانة ليست كلمتان بسيطتان و ضحلتان كما يتصورهما أصحاب الشرف و يملئون بها فراغات الحديث ، كلمتان معقدتان يتداخل فيها الشرف بالخيانة ، ففي الخيانة قد يتجلى الشرف و في الشرف غالبا ما يحمل بذور الخيانــة . أنا هنا لا أبرّر و لا أطرق سبل للالتفاف على الحقيقـة، لكن أدعو القراء لقراءة الواقع الآن !! قبل عقد من الزمن حضرت مكان تصوير فيلم جزائري – فرنسي ، كان هناك مشهد لتعذيب الفلاقــة ، الجلاد و الضحيـة ، الجلاد الذي يظهر كل ما عنده من حقد تاريخي و ضغينة و توحش بشري ، الضحية يظهر شجاعته في الصبر و التجلد و المقاومـة و الأمل في النصر في مشهد جهنمي و بؤس بشري ، كان جسمه مضرجا بالدماء و في حالة من القهــر التراجيدي ، بعد نهايـة المشهد تعانق الجلاد و الضحية و الضحكات تسمع من بعيد ، فرحان سعيدان بالدور التمثيلي لكن لم يخطر ببالهما أن التمثيل العفوي الطبيعي بعيدا عن الكاميرا أصدق من وجودهما أمام الكاميرا، الذين يدعــون بالشرف و البطولة –مثل المشهد السينمائي – ما أن ينتهي من خطابه المأسوي يذهب يعانق الخيانـة و يترك الشرف للبسطاء. لا أشعر بالحزن و لا أترك للحزن يتسرب إلى نفسي إلا عندما رأيت الأرض تتزعزع تحت أقدام الفرنسيين ، بحسن النية أو سوءها مرّ من هنــاك الفرنسيين وجنودهم و مزارعيهم و حيواناتهم ، رست على شواطئ الجزائر مراكبها و احتسينا نبيذ الجزائر ، لكن لم نتخلص من مذاق النبيذ الذي تغلغل بعيدا في مسامات ذاكرتنا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي